إعداد : أكرم السيد
أتاحت العملية الروسية في أوكرانيا، على الرغم من عدم تحوُّلِها إلى حربٍ عالميةٍ، الفرصة أمام آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا القرن الحالي في الحضور بقوة ، تلك التكنولوجيا متمثلة في إنترنت الفضاء؛ ليصبح بدوره أحد أدوات القوة غير التقليدية، والتي لا غنى عنها، وبالتحديد في ظروف حرب كهذه؛ حيث يعمل أحد أطرافها أو طرفيْها معًا، على استهداف البنية التحتية، كلما كان ذلك ممكنًا، لا سيما البنية التحتية التكنولوجية، كشبكات الألياف الضوئية الأرضية، اللازمة لإمداد المواطنين والحكومات بالإنترنت؛ من أجل إعاقة قدرة الطرف الآخر في الصراع على الصمود لأطول فترةٍ ممكنة؛ حتى يتحقق له الهدف العسكري، لكن زاويةً أُخرى قد لفت الصراع في أوكرانيا الأنظار إليها، وهو إمكانية أن يمتدَّ الصراع العسكري الأرضي إلى صراعٍ عسكريٍّ فضائيٍّ، تستهدف من خلاله البنية الفوقية أيضًا، وتكون الأقمار الصناعية التي تُزوِّد الدولة بإنترنت الفضاء كبديل عن الإنترنت الأرضي هي الهدف والمستهدف.
“ستارلينك”.. خدمة متصاعدة
إن الفكرة الأكثرة تبسيطًا لنظام “ستارلينك”، هي أن يتم تزويد مختلف المستخدمين من حكومات ومواطنين بالإنترنت الفائق والغير معتمد على شبكة الكابلات البحرية والأسلاك، فمن خلال إطلاق شركة “سبيس إكس”، الرائدة في مجال الفضاء لعددٍ من الأقمار الصناعية، المعروفة باسم “ستارلينك”، تستطيع أجهزة الاتصالات أن تتصل بالإنترنت، عبْر هذه الأقمار مباشرةً، وهذه الأقمار التي أطلقتها “سبيس إكس” تعتزم الشركة إلى العمل على مضاعفتها؛ حتى تصل إلى ١٢ ألف قمرٍ صناعيٍّ؛ ما يوفر بدوره خدمة إنترنت الفضاء إلى كافة أرجاء الكرة الأرضية تقريبًا.
وعلى الرغم من عدم انفراد “ستارلينك” وحدها بخدمة إنترنت الفضاء؛ حيث تُوجد شركات أُخرى منافسة، كشركة “أمازون” وشركة “وان ويب”، إلا أن شركة “سبيس إكس” المملوكة لـ”إيلون ماسك” تتمتع بميزة تتضمن لها التفرُّد والريادة في هذا المجال عن غيرها من الشركات المنافسة، وهي دعم الحكومة الأمريكية لها، فضلًا عن دعم وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، وهذا الدعم المقدم من الحكومة والمؤسسات الأمريكية قد تبعه بالضرورة استخدامٌ وتوظيفٌ لخدمات هذه الشركة في دعم مسار السياسة الخارجية للبيت الأبيض، ولعل الأزمة الأوكرانية المثال الأبرز على ذلك؛ ما يفسر لنا سبب الدعم والتنسيق بين الحكومة الأمريكية وهذه الشركة الرائدة.
“ستارلينك”.. والصراع في أوكرانيا
كان نظام “ستارلينك” بمثابة العنصر الفارق في إبقاء القوات الأوكرانية، بل الدولة الأوكرانية ككل، صامدةً في هذا الصراع، ففي الوقت الذي سبق العملية الروسية في أوكرانيا، سعت موسكو إلى تقويض أنظمة الاتصالات الأوكرانية، من خلال عددٍ من الهجمات السيبرانية، تلك الهجمات استهدفت موسكو، من خلالها عزْل أوكرانيا على كافة المستويات “الشعبية، والرسمية، والدفاعية”؛ ما انعكس في البداية على عدم قدرة كييف في التصدي للعملية الروسية على الوجه الذي يحقق لها الردع المطلوب، حتى مع استمرار تدفُّق المساعدات العسكرية إلى الجانب الأوكراني؛ حيث تعتبر أنظمة الاتصالات والإنترنت هي العنصر المحرك لكل ما تمتلكه الدول من قوات عسكرية، وبدون أنظمة اتصالات حية لن تستطيع الدول استثمار ما لديها من موارد.
وفي سياقٍ متصلٍ، ومن خلال تنسيق “أمريكي – أوكراني”، تم تزويد أوكرانيا بخدمات إنترنت الفضاء؛ ما مكَّن القيادة السياسية الأوكرانية من التواصل بشكلٍ يوميٍّ مع العالم، من خلال مقاطع الفيديو التي يبثُّها الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وكذا تمكَّن الجيش الأوكراني من مباشرة أعماله القتالية، على نحْوٍ أكثر تأثيرًا مما شهدته كييف في بداية المعركة.
ولم يتوقف الأمر فقط عند دعم كييف بهذه الخدمة التكنولوجية الفائقة، فبالتوازي مع ذلك، وظَّفت واشنطن مجددًا خدمة “ستارلينك” في خِضَمِّ تعاملها مع الملف الإيراني مؤخرًا، فقد كشفت تقارير، تؤكد أن ثمَّة تنسيقًا بين الإدارة الأمريكية و”إيلون ماسك”؛ من أجل توفير خدمة “ستارلينك” للشعب الإيراني؛ حيث تصاعدت الاحتجاجات في إيران، وذلك في أعقاب مقتل “مهسا أميني”، في سبتمبر الماضي، بعد احتجازها على يد شرطة الأخلاق؛ لأسباب رجعية تدَّعِيها طهران؛ ما فَاقَمَ من حالة عدم الاستقرار والاحتجاجات المناهضة للحكومة الإيرانية، بل امتدَّ الأمر ليطال الثورة الإيرانية وأيدلوجيتها الرجعية في اختراقٍ نوعيٍّ لطبيعة الاحتجاجات؛ ما دفع الحكومة إلى تعطيل خدمات الإنترنت في بعض المناطق، إلَّا أن ثَّمة تأكيدات من “إيلون ماسك”، حول عزْمه تفعيل خدمة “ستارلينك” بإيران، في استجابةٍ لتغريدةٍ نشرها وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، أكد فيها، أن الولايات المتحدة تتخذ الإجراءات اللازمة؛ لتعزيز حرية الإنترنت، والتدفُّق الحرُّ للمعلومات بالنسبة إلى الإيرانيين؛ لذا فإن هذا التعامُل المُتقدِّم مع الصراعات والأزمات، من شأنه، أن يُعظِّم من قوة الدولة التي تمتلك هذا السلاح التكنولوجي المعزول عن البنية الأرضية؛ ما يجعل لزامًا على صُنَّاع القرار – بالتوزاي مع تعظيم القوة العسكرية المادية- ضرورة امتلاك هذه التكنلوجيا الفائقة المدعومة فضائيًّا، والآمنة إلى حدٍّ كبيرٍ.
“ستارلينك”.. واستهداف الأقمار الصناعية
في الوقت الذي أصبح فيه نظام “ستارلينك” هو البديل لخدمات الاتصالات في أوكرانيا، بعد أن أعاقت الهجمات السيبرانية في بداية العملية الروسية من قدرة البنية التحتية للاتصالات من القيام بوظائفها، توالت التحذيرات من إمكانية أن تطال ضربات روسية جوية أقمارًا صناعيةً، من شأنها، أن تُعيق خدمات إنترنت الفضاء، وذلك في تغيُّرٍّ نوعيٍّ لمسار الحرب في أوكرانيا؛ لتشمل المجال الفضائي، وما يُعزِّز هذه الاحتمالية، هو توافُر الخبرة لدى الجانب الروسي في استهداف أنظمة الاتصالات، وفي شنِّ هجمات سيبرانية؛ لذا فمبجرد أن تسيطر القوات الروسية على كامل الفضاء الأوكراني، فمن غير المستبعد، أن تُوجِّه ضربات إلى أقمار صناعية بعينها، من شأنها، شلّ منظمومة الاتصالات في أوكرانيا، وبالتبعية شلّ قدرة القوات الأوكرانية من مواصلة عملياتها، لا سيما أيضًا أن موسكو مستمرة منذ شهور عدة في توجيه ضربات للبنية التحتية الأوكرانية، كشبكات الكهرباء، وغيرها من شبكات البنية التحتية؛ ما يجعل من استهدافها لشبكات البنية الفوقية الداعمة أمرًا وارد الحدوث.
وفي سياقٍ متصلٍ، حذَّر مدير وكالة الفضاء الروسية “دميتري رو جوزين” رجل الأعمال “إيلون ماسك”، من استمرار تقديم دعمه المعلوماتي والتِّقَني لكييف، مهددًا “ماسك”، بأن عليه تحمُّل مسؤولية تصرُّفه الرامي إلى دعم القوات الأوكرانية بالاتصالات العسكرية، وتجْدُر الإشارة إلى أن هذا التهديد لم يتوقف عند مجرد تهديدٍ كلاميٍّ فحسب، فوفقًا لبعض التقارير، فقد تعرَّض نظام “ستارلينك” لهجمات شنَّتها عناصر روسية، استهدفت من خلالها ما يقارب ٢٠٠٠ قمرٍ صناعيٍّ، إلا نظام “ستارلينك” نجح في إحباط هذا الهجوم، الذي كان يستهدف تعطيل شبكة الإنترنت في أوكرانيا؛ ما يبقى احتمالية شنّ هجماتٍ أُخرى مماثلة غير مستبعد.
ختامًا:
يمكن القول: إن الأداة التكنولوجية المتمثلة في إنترنت الفضاء، يأتي في مقدمة الأدوات التي ساعدت كييف على الصمود طيلة الأشهر الماضية، فلا يتخيل أن تستمر المقاومة الأوكرانية على جبهات عدة، دون امتلاكها لنظام اتصالات ومعلومات، يُمكِّنُها من تشغيل وإدارة عناصر قوتها الصلبة، من أسلحة ودبابات وطائرات؛ ما يبرهن على أهمية هذا العنصر الحاسم، ويدعو إلى ضرورة أن توفر الدول التأمين اللازم للقوة التكنولوجية، بل تعطي لذلك أولويةً أمنيةً، جنبًا إلى جنبً مع أولويات الأمن والدفاع المادي.
لذا، فإنه على دول منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص الدول ذات الأهمية الإستراتيجية، أن تستفيد من الحرب في أوكرانيا على المستوى التِّقَني، ومن ثمَّ، فإن هذا يلزمها بأن تمضي في الالتحاق بركْب تكنولوجيا الفضاء، وذلك عن طريق فتح المجال أمام الشركات الرائدة في هذا المجال، وفي مقدمتها “سبيس إكس” للتواجد، وتوفير هذه الخدمات في الأسواق المحلية، ولو بشكلٍ تدريجيٍّ؛ ما يضمن مستقبل انتشار خدمات الفضاء المُؤمَّنة على نطاقٍ واسعٍ في دول المنطقة؛ ما يوفر للمنطقة مزايا كثيرة، لا سيما تقليل فرص تعرُّضها للهجمات السيبرانية.