سلاح الدرون… تكنولوجيا حديثة تحمل مخاطر جمة على الأمن العالمي

إعداد : شيماء عبد الحميد 

سلطت الحرب في أوكرانيا الضوء على الأهمية المتزايدة لتكنولوجيا الطائرات بلا طيار “الدرون” واستخدامها، حيث أصبحت عنصرًا أساسيًا في النزاعات المسلحة في جميع أنحاء العالم، لاسيما في ظل توظيفها في بؤر صراعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالنظر إلى تأثيرها العسكري المتنامي في حسم المواجهات العسكرية وترجيح كفة أحد أطراف الصراع، ما جعلها ذات تأثير حيوى متعاظم على الديناميات السياسية والأمنية في تلك المناطق.

وتعود بداية استخدام الطائرات المسيرة عسكريًا؛ إلى عام 2001، عندما أطلقت المسيرات الأمريكية النار على قادة طالبان في أفغانستان، فيما عُرف بعد ذلك بالعصر الأول للطائرات المسيرة والذي كان خاضعًا لهيمنة الولايات المتحدة، أما الآن؛ فيشهد العالم ازدهار العصر الثاني للطائرات المسيرة، وهذا هو الوصف الذي يُطلق على السوق الدولية للطائرات المسيرة التي تتراوح ما بين طائرات صغيرة متواضعة يبلغ سعرها ألف دولار إلى طائرات حديثة يبلغ سعرها 2000 دولار، ويمكن بسهولة تسليحها بواسطة جماعات إرهابية، إلى طائرات مسيرة متقدمة تكنولوجيا يمكنها حمل ذخائر توجه بالليزر وصواريخ هيلفاير، وهذا الانتشار أكثر تقدمًا عن العصر الأول للطائرات المسيرة.

وقد أصبحت الطائرات بلا طيار اليوم تُستخدَم في ساحات القتال التقليدية وغير التقليدية، من قِبَل الجهات الحكومية، والجماعات المتمردة غير الحكومية، والجماعات الإرهابية، والعصابات الإجرامية، والأفراد، مما بات خطرًا يهدد استقرار المجتمعات، ويعد الهجوم من قبل الحوثيين على مطار أبوظبي في يناير 2022، مثالًا واضحًا لتحول طائرات “الدرون” من كونها سلاحًا تستخدمه دول متقدمة تكنولوجيًا مثل الولايات المتحدة لاستهداف الإرهابيين، إلى أداة مثيرة للقلق بسبب انتشارها لدى الميليشيات والعناصر غير الخاضعة لسلطة الدول، والمجموعات الإرهابية أو بيعها إلى دول أخرى من دون ضوابط للاستخدام، وهو ما أصبح يهدد الأمن العالمي بشكل ملحوظ، بخاصةً مع تزويد إيران العديد منها إلى الميليشيات التابعة لها في الشرق الأوسط، فضلًا عن تصدير تركيا طائراتها المتطورة إلى مناطق النزاع في القوقاز وأوكرانيا وليبيا وإثيوبيا، إلى جانب استخدامها في التوتر المتنامي بين إيران وإسرائيل حاليًا؛ حيث الهجوم مؤخرًا على أصفهان الإيرانية.

وما يزيد من خطورة هذا السلاح؛ هو غياب إطار قانوني دولي منظم لاستخداماته، وذلك على خلفية الجدل المتنامي والمخاوف المتزايدة من انتشار استخدام تلك الطائرات في أغراض عسكرية أو تنفيذ عمليات اغتيال خارج مناطق الحروب والصراعات التقليدية وما يرتبط بذلك من تهديد للقيم الديمقراطية، مثل غياب المساءلة وسيادة القانون، فضلًا عن تزايد الخسائر المدنية الناجمة عن هجمات تلك الطائرات، بجانب انتهاك الإطار القانوني الدولي المنظم للعمليات العسكرية ككل. وفي ضوء هذه المعطيات؛ بات من الضروري إلقاء الضوء على المخاطر الناجمة عن انتشار الطائرات المسيرة ووصولها إلى الجماعات الإرهابية، وسبل التصدي لها.

انتشار وظهور لافت في مختلف دوائر الصراع

لم تعد الطائرات المسيرة حكرًا على الدول العظمى كما كان الوضع في العصر الأول للمسيرات؛ بل باتت في متناول العديد من الدول والقوى العسكرية المتوسطة وخاصةً إيران وتركيا، كما أنها وصلت إلى أيدي بعض الجماعات والتنظيمات غير الحكومية، ووفقا لإحصائية أُجريت في مارس 2020، فإن أكثر من 102 دولة باتت تمتلك طائرات مسيرة عسكرية، بالإضافة إلى ما يُقدر بـ 63 تنظيمًا أو جهة غير حكومية.

وتتطلع كثير من الدول إلى تطوير هذه الطائرات لإحلالها محل الطائرات الحربية والقاذفات بما في ذلك القاذفات النووية، وخير دليل على اهتمام الدول بهذا السلاح؛ هو أن السوق العالمية للطائرات العسكرية بدون طيار عام 2019، بلغت 8.65 مليار يورو، وهناك توقعات بأن يصل السوق في عام 2027، إلى 19.53 مليار يورو، فيما تشير دراسة أجرتها “Drone Industry Insights”، إلى أنها قد تصل بالفعل إلى 35.16 مليار يورو في عام 2025، أما على صعيد دول الشرق الأوسط؛ وباستثناء إسرائيل، فقد أنفقت ما لا يقل عن 1.5 مليار دولار على الطائرات المسيرة العسكرية خلال السنوات الخمس الماضية.

وقد كانت إسرائيل حتى عام 2013، هي أكبر مصدر للطائرات من دون طيار في العالم، وتُعد طائرات “هيرون تي بي”، و”هرمس 450″، و”هرمس 900″، أشهر نماذج الطائرات الدرون التي تُصنع معظمها بمعرفة شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية، أما تركيا؛ فقد اعتمدت في بداية الأمر على إسرائيل في استيراد ونقل تكنولوجيا الطائرات المسيرة، وحاليًا تنتج أنقرة العديد من نماذج الطائرات المسيرة محليًا، أبرزها “أنكا-أس “و”بيرقدار تي بي” و”كارايل”، بينما اعتمدت إيران على تكنولوجيا صينية من إنتاج عدة نماذج من الطائرات المسيرة تستخدمها في عملياتها الاستخبارية بمنطقة الخليج العربي، وتمد بها أذرعها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط؛ وخاصةً حزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وأهمها طائرة “شاهد 129″، و”فُطرس”، و”أبابيل”، و”مهاجر”، و”رعد – 85″، وخليجيًا؛ تعمل كل من السعودية والإمارات على حيازة وتطوير وتوطين قدرات الطائرات المسيرة، بالاستيراد من الصين.

وباستثناء إسرائيل؛ تبدو طائرات بيرقدار TB2 التركية، والطائرات الصينية مثل ونج لونج وتساي هونج هي الأكثر شعبية فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن المنظور التجارى، فإن الصين تعد المحرك الأول لسوق الطائرات المسيرة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالنظر إلى كونها غير متقيدة بأى اعتبارات قانونية تتعلق بنظام مراقبة تكنولوجيا القذائف (MTCR) أو غيرها من الأطر القانونية المقيدة لتدفقات الأسلحة في التجارة الدولية.

وقد انعكس اهتمام الدول بحيازة الطائرات المسيرة على ساحة القتال العسكري؛ حيث ظهرت الدرون بشكل لافت في ساحات صراع كبرى خلال السنوات القليلة الماضية؛ أهمها؛ ليبيا حيث حققت حكومة الوفاق الوطني سلسلة انتصارات في معارك عام 2020، بفضل الطائرات المسيرة التركية وخاصةً من نوع “بيرقدار تى بي2” محلية الصنع، كما تعد سوريا ساحة أخرى رئيسية من ساحات أنشطة الطائرات المسيرة، حيث تبرز كل من تركيا وإسرائيل في توظيفهما لتقنية الطائرات المسيرة لتحقيق أهداف كل منهما هناك، فيما قام أسطول الطائرات المسيرة الروسية بمهمات تجسس واستطلاع ومراقبة حاسمة.

كما لعبت الدرون دورًا رئيسيًا في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا على منطقة ناغورنو كراباخ في العام 2020، وعلى الرغم من أن الصراع كان قصيرًا، فقد أثبتت الطائرات بلا طيار دورها المحوري، حيث كانت ترسانة أذربيجان الكبيرة والأكثر تقدُّمًا من الطائرات المسلحة بلا طيار حجرَ الزاوية لنجاحها في الصراع، وقد أكدت التقارير العسكرية أن المسيرات التي زوَّدت بها تركيا، أذربيجان، دمّرَت 120 دبابة، و53 عربة قتال مصفَّحة، و143 قطعة مدفعية، وعديدًا من الأهداف الأخرى لأرمينيا.

وعلى المستوى الأفريقي؛ فقد باعت إيران طائرات مسيرة لإثيوبيا في عام 2021 لاستخدامها ضد متمردي “تيغراي”، وفي وقت مبكر من عام 2008، نشر السودان طائرة “أبابيل-3” الإيرانية ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان والمتمردين في دارفور، كما حصلت النيجر وتوغو على بيرقدار التركية لكبح جماح الجماعات المتنقلة من المسلحين الإسلاميين والمقاتلين الجهاديين الذين ينتقلون جنوبًا من بوركينا فاسو.

وأخيرًا؛ حضرت المسيرات في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث استخدم كلا الجانبين هذا النوع من الطائرات، خصوصًا من جانب أوكرانيا، التي استخدمت طراز “بيرقدار تي بي2” التركية الصنع، ولاحقًا الأمريكية والألمانية والمحلية الصنع، وجرى استخدام هذه الطائرات في مجموعة متنوعة من الأدوار، مثل تنفيذ الضربات ضد أهداف أرضية روسية، وتوجيه القصف المدفعي، ومهامّ استطلاع ومراقبة واستهداف وقصف المواقع، بينما حصلت روسيا على طائرات “شاهد-136” الانتحارية بعيدة المدى وطائرات “مهاجر 6” الهجومية قصيرة المدى من إيران بدءا من أغسطس 2022، لاستخدامها في أوكرانيا.

ولم يقتصر استخدام الطائرات المسيرة على الدول، بل اُستخدمت أيضًا من قبل الجماعات الإرهابية؛ فقد أطلق الحوثيون على السعودية أكثر من 430 صاروخًا باليستيًّا، وأكثر من 851 طائرة درون، بينما شنت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق، العديد من الهجمات باستخدام الدرون في العام 2021، وقد شملت تلك الهجمات اعتداءات على السفارة الأمريكية في بغداد. وفي جنوب أفريقيا، استخدمت الجماعات المتشددة وتنظيم داعش، الطائرات بدون طيار في مواجهتهم للجيش في مقاطعة كابو ديلغادو الغنية بالغاز، التي تشهد حربًا بين حكومة موزمبيق والجماعات المتطرفة المتمردة، بينما نشرت حركة الشباب في الصومال، طائرات بدون طيار لأغراض المراقبة وتنفيذ عمليات إرهابية.

قدرات واستخدامات متعددة للطائرات المسيرة

تختلف استخدامات الطائرات المسيرة على الصعيد العسكري؛ حيث تتعدد مهامها بحسب ما تحمله من معدات وتجهيزات تقنية، ما بين أغراض استطلاعية كالرصد والتعقب والتجسس، وما بين أغراض عملياتية كالقصف وإطلاق الصواريخ وإلقاء المتفجرات وغيرها من المهام الحربية الأخرى.

وقد جاءت رغبة الدول في حيازة الطائرات المسيرة مدفوعة بما تمتلكه من قدرات وإمكانيات قد تجعلها هي السلاح الأهم في حروب وصراعات المستقبل؛ حيث أدت التطورات المتسارعة في التكنولوجيا إلى زيادة إمكانات الطائرات بدون طيار في اتجاهات متعددة، أهمها: القدرة على حمل أسلحة متنوعة ومتعددة، دقة تمييز الأهداف وتدميرها باستخدام أنظمة توجيه حديثة سواء كانت رادارية أو حرارية أو ليزرية، القدرة على الهبوط والإقلاع العمودي أو من ممرات قصيرة، أو إطلاقها من منصات متحركة، وظهور أنواع تجمع بين خصائص ومميزات الطائرات ذات الأجنحة الثابتة والمروحيات.

كذلك تتمتع المسيرات بمداها الواسع؛ نظرًا لتطور تكنولوجيا بناء الطائرات من المواد المركبة، والتي تتمتع بخفة وزنها بشكل كبير مقارنةً بالمواد التقليدية، فضلًا عن استخدام تكنولوجيا الإخفاء؛ لتقليل إمكانية اكتشافها، كما يمكن للطائرات بدون طيار أن تتخذ القرارات دون الرجوع إلى المحطة الأرضية بالإضافة إلى التحكم عن بُعد؛ وأن تحلل كم كبير من البيانات التي ترسلها بواسطة تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وتعد الطائرات المسيرة البديل العسكري الاستراتيجي بالنسبة للعديد من الدول التي تعاني ضعف الوسائل التقنية الحربية التي تكون غالبًا باهظة الثمن؛ حيث عادةً ما تكون الطائرات من دون طيار أرخص وأسهل في التشغيل والصيانة مقارنةً بالصواريخ أو الطائرات المأهولة التي تحل الدرون محلها، مما يجعل من السهل على الدول دمج الطائرات من دون طيار في العمليات العسكرية. كما إنها تقلل الاعتماد على الجنود في عمليات الاقتحام والهجوم المضاد وبالتالي تقلل الخسائر البشرية والمادية، فضلًا عن إنها تحقق عدة أهداف استراتيجية في زمن قياسي، لتوفر بذلك نفقات وكوادر التشغيل والجهد والوقت.

وبناءً على هذه الإمكانيات؛ تعمل الجماعات المسلحة والجهات غير الحكومية على امتلاك الطائرات المسيرة؛ نظرًا لتكلفتها المنخفضة حيث تفتقر المنظمات الإرهابية، التمويل اللازم أو القدرة التشغيلية لشراء الطائرات المقاتلة، كما أنها تستطيع التهرب من الرادار، ويمكنها جمع المعلومات؛ وبالتالي قد تكون بمثابة جواسيس رخيصة لا يمكن اكتشافها، لذلك تهتم بها الحركات المسلحة التي لا تمتلك سلاحًا جويًا قويًا أو القدرة على وضع عملاء بشريين في أراضي العدو.

مخاطر جمة تكمن في إمكانات المسيرات العالية

هذا الانتشار الواسع للطائرات المسيرة، وما تتمتع به من قدرات وإمكانيات ذات تكنولوجيا عالية، حمل في طياته مكامن الخطورة التي يمثلها هذا السلاح الحديث على الأمن العالمي، فوصول هذه الطائرات للجماعات المسلحة الإرهابية واستخدامها بالفعل في هجمات طالت عدد من الدول، فضلًا عن دورها المحوري في الحرب الروسية الأوكرانية، سلط الضوء على التداعيات التي قد تترتب على انتشار الدرون، والتي يمكن إيضاحها على النحو التالي:

على الصعيد القانوني؛ تثير الهجمات بواسطة الطائرات المسيرة عدة تحديات؛ أولها إبراز معضلات قانونية وأخلاقية معقدة، حيث لا يمكن كبح استخدامها من خلال معاهدات الحد من التسلح، كما أنها تؤدي إلى وقوع انتهاكات لسيادة بعض الدول، وانتهاك حقوق الإنسان، وتقويض جهود حل النزاعات بقيادة دولية، فضلًا عن أن تكنولوجيا الطائرات المسيرة فتحت الباب أمام الذكاء الاصطناعي الذي سيمهد لحرب الروبوتات في المستقبل، وعدم وجود أي آلية تحكم هذا الجيل الجديد من أسلحة الدمار الشامل، يمثل تهديدًا خطيرًا.

وثانيها؛ غياب إطار منظم لاستخدامها؛ حيث أن استخدام الطائرات المسيرة دون وجود إطار تنظيمي شامل لحماية المدنيين والالتزام بالقوانين الإنسانية أو فحص للتداعيات التكتيكية والتنفيذية لهذه الحرب التي يُجرى التحكم فيها عن بُعد، يجعل من هذه الطائرات أداة للعنف السياسي غير الخاضع للوائح، وهذه الثغرة في الإشراف الدولي سمحت لقوى عظمى مثل الولايات المتحدة أن تستخدمها في عمليات التصفية والاغتيالات؛ مثلما فعلت في عملية اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020.

أما ثالثها؛ فيتمثل في الخسائر المدنية؛ استهداف المدنيين بهذه الطائرات مخالف للقانون الدولي الإنساني الذي يوفر الحماية للمدنيين من الأعمال العدائية غير المشروعة، ويُخضع الأشخاص المتورطين في تهريب مكونات الطائرات المسيرة، والتي تؤكد الدلائل استخدامها في قتل المدنيين، للعقوبات من قِبل مجلس الأمن والدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

فيما يتمثل رابع التحديات؛ في عدم القدرة على الفصل القانوني بين العمليات العسكرية وعمليات مكافحة الإرهاب التي تتم باستخدامها، وهذا ما يعني أن استخدام هذه الطائرات بدون ضوابط يرسم طريقًا جديدًا يبتعد عن قواعد ومبادئ القانون الدولي المنظمة للأنشطة العسكرية.

أما على الصعيد الأمني والعسكري؛ فقد ينتج عن انتشار هذه الطائرات واستخدامها الواسع غير المنظم وفقًا للوائح قانونية دولية موحدة، مخاطر وتداعيات كبيرة تهدد استقرار الأمن العالمي:

أولها : صعوبة مواجهة الدرون؛ فإذا كان ثمة إمكان للتصدى للمقاتلات والطائرات العسكرية التقليدية كبيرة الحجم، فإنه من الصعب القيام بإجراءات مماثلة فيما يتعلق بالطائرات المسيرة، حيث يُصعب مواجهتها بواسطة التقنيات التقليدية المضادة للطائرات، ما يجعل التصدى لهذا النوع من الطائرات ينطوى على العديد من التحديات؛ إذ تصعب رؤيتها نظرًا لصغر حجمها مما يجعلها غير قابلة للكشف والرصد من خلال أجهزة ورادارات الدفاعات الجوية التقليدية، كما إنها تطير بسرعة أقل وعلى ارتفاع منخفض، وهذا يعني أن العديد من أنظمة الدفاع الجوي ليست مهيأة لإسقاطها لاعتبارات تكنولوجية وأخرى مادية وثالثة لوجستية تشغيلية.

وثانيها : تغيير تكتيكات الحرب التقليدية؛ حيث هناك الكثير من الحديث عن ما يُسمى بـ “أسراب الطائرات المسيرة” مستقبلًا، ويجادل الخبراء العسكريين بأن السرب لن يُحدد بكثرة عدد الطائرات المسيرة المشاركة في الهجوم ولكن بقدرتها على التنسيق فيما بينها دون أي تدخل بشري، بحيث يمكن استخدام أسراب الطائرات المسيرة في هجمات متزامنة ومن مختلف الجهات لتتغلب على المدافعين البشر، ومع مرور الوقت؛ قد يكون لذلك دور كبير في إعادة صياغة مفهوم المعركة.

كما أن انتشار الطائرات المسيرة يعمل على تغيير التوازنات العسكرية أو التسلسلات الهرمية العسكرية في العالم، فبعد أن كانت نتيجة الصراع تُحسم مسبقًا لصالح القوى الكبرى التي تمتلك عتاد عسكري كبير، ووفقًا لما تملكه الدول المتحاربة من الطائرات الحربية والتدريبات وأسلحة، بات هناك عنصر جديد يغير من معادلة القوة العسكرية للدول، يتمثل في امتلاكها للطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية.

أما ثالثها : فيتمثل في امتلاك الجماعات والميليشيات المسلحة لهذه النوعية من الطائرات؛ فقد شهدت الأونة الأخيرة استخدام الدرون من قبل جماعة الحوثيين لاستهداف دول مجلس التعاون الخليجي وخاصةً السعودية والإمارات؛ ففي سبتمبر 2019، نفذ الحوثيون هجومًا على منشآت نفطية تابعة لشركات أرامكو السعودية، وهو ما تسبب في أضرار بالغة أثرت على سير إنتاج النفط، وفي يناير 2022، تم استخدام الطائرات المسيرة من قبل الحوثي أيضًا لاستهداف أبوظبي، فضلًا عن أنه في نوفمبر 2021، نجا رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي من محاولة اغتيال فاشلة بطائرة مُسيّرة، وكذلك تعرض الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في أغسطس 2018، لمحاولة اغتيال فاشلة نُفذت باستخدام طائرة مسيرة كانت تحمل متفجرات.

وتوفر الطائرات بدون طيار عددًا من المزايا للجماعات المسلحة؛ من بينها: سهولة تشغيلها واستخدامها مقارنةً بالأنظمة الأخرى الأكثر تطورًا مثل الصواريخ من طراز “كروز”، علاوة على تكلفتها المنخفضة، كم أنها تُحد من المخاطرة والتضحية بالعنصر البشري، إذ لا تحتاج لوجود طاقم على متنها لتنفيذ العملية، فضلًا عن إنها توفر للمسلحين فرصة الاشتباك مع أهداف قد تكون شديدة الخطورة ويصعب التعاطي معها عبر القوات البرية. وكذلك تمنح المسيّرات، الإرهابيين فرصًا أكبر للإفلات من الرصد الأمني، وتعزز قدرتها على اختراق المنظومة الأمنية لأي دولة تستهدفها، كما توفر لها بدائل قوية وغير تقليدية في جمع المعلومات.

وبناءً عليه؛ من المتوقع مستقبلًا أن تتوسع الجماعات الإرهابية في امتلاك وتطوير أنواع متعددة من منظومات الطائرات بدون طيار، بما قد يؤدي إلى زيادة قدرتهم على استخدامها بشكل يؤثر على أمن الدول، خاصةً وأنه يمكّن للجماعات الإرهابية استخدامها في الهجمات الكيميائية والبيولوجية، وكل هذا ينذر بتغير ملامح الخريطة الجغرافية للحرب ضد الإرهاب، بحيث سيصبح العالم بأسره في مأزق أمني حقيقي.

وأخيرًا :

على الصعيد السياسي؛ قد يترتب على انتشار طائرات الدرون تبعات سياسية عدة؛ أولها تعزيز التنافس بين الدول؛ حيث تساعد صادرات الطائرات المسيرة، الدول المصدرة على التنافس مع الدول الأخرى، ومع تزايد استخدام الدول لهذه الطائرات كوسيلة للمنافسة والتأثير بين الدول، سيصارع صانعو السياسات في الولايات المتحدة والغرب عمومًا حول كيفية الرد على التطور السريع لهذه النوعية من الأسلحة والتي أصبحت ترتبط بمزيد من النفوذ والتأثير، وفي بعض الحالات، سوف تتنافس الدول المصدرة على العملاء أنفسهم، وقد يحصل الفائزون بعقود التصدير على وضع شريك أمني مفضل بالنسبة للمشترين، ما يجعل من الصعب على الدول الأخرى المنافسة، ممارسة نفوذها، وهو ما يُعرف بـ”دبلوماسية الدرون”.

ومن خلال تعميق العلاقات مع الدول المستوردة ومواجهة الخصوم، تهدد دبلوماسية “الدرون” الاستقرار الإقليمي والدولي، وتتحدى تأثير مصدري الأسلحة التقليديين المعروفين مثل الولايات المتحدة، فمثلًا تسلح إيران بشكل روتيني دولًا مثل فنزويلا والسودان وسوريا، التي لم تكن قادرة على الحصول على طائرات “درون” بسبب العقوبات وغيرها من الحواجز السياسية.

وثانيها انتزاع امتيازات؛ إذ تستخدم الدول المصدرة توريد الدرون لانتزاع الامتيازات من المشترين، فعلى سبيل المثال؛ تزود روسيا، إيران الآن بمستوى غير مسبوق من المعدات العسكرية المتطورة وعلى رأسها الجيل الخامس من مقاتلات “سوخوي-35” المتعددة المهام، ويرجع ذلك إلى نقل إيران مسيرات لمساعدة روسيا بكثافة في حربها ضد أوكرانيا.

أما ثالثها فيتمثل في تحول المسيرات إلى أداة دبلوماسية لزيادة النفوذ؛ حيث قد يؤدي بيع الطائرات من دون طيار، في وقت يرتفع فيه الطلب عليها، إلى زيادة القوة الدبلوماسية للدول الموردة، إذ يساهم تصدير الطائرات المسيرة في تعميق العلاقات مع الحكومات المستوردة، فبيع طائرة مسيرة يستلزم تدريب طويل الأمد، ومساعدة لوجستية، واتفاقات صيانة مستمرة، وهكذا تصبح الدولة المستوردة معتمدة على الدولة الموردة في التحديثات وقطع الغيار، كما يجري المصدرون تدريبًا لطواقم الطائرات المسيرة في الدول المستوردة، ويبنون روابط متينة تستمر مع صعود هؤلاء الأفراد إلى رتب أعلى، وتولد هذه العلاقات مسارات جديدة يمكن من خلالها للدولة الموردة أن تؤثر في صنع السياسات.

وتعمل الدول الموردة على تعزيز تلك العلاقات بشكل متزايد من خلال فتح مصانع طائرات درون في الخارج؛ حيث أنشأت إيران خطوط إنتاج طائرات من دون طيار في طاجيكستان وفنزويلا، وتخطط تركيا لبناء مصنع “تي بي 2” في أوكرانيا.

أساليب التصدي لخطر الطائرات المسيرة

في ظل التداعيات والمخاطر سالفة الذكر والتي يمثلها الانتشار الواسع وغير المنظم قانونًا للطائرات المسيرة، وإدراكًا لأهمية وحساسية هذا السلاح والتي ظهرت بصورة واضحة في الحرب الروسية الأوكرانية، كان لا بد على الدول، التحرك في مسار التصدي لخطر طائرات الدرون، ولذلك بدأ المجتمع الدولي يبذل جهود حثيثة في هذا الشأن، معتمدًا في ذلك على أساليب عدة؛ أهمها:

تطوير التكنولوجيات المضادة للطائرات بدون طيار؛ مثل الرادارات، الترددات اللاسلكية، الكاميرات الكهربائية البصرية، أجهزة الاستشعار التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، أجهزة الاستشعار الصوتية التي تكشف الصوت الذي تصدره الأنواع الشائعة من هذه الطائرات، وأشعة الميكروويف والليزر الكثيفة العالية الطاقة، التي ستحقق نتائج شديدة الإيجابية في هزيمة الطائرات بدون طيار.

وقد بدأت الولايات المتحدة في تبني هذا النمط من المواجهة؛ حيث وجه الكونجرس، البنتاجون لتطوير قوة مضادة للأنظمة الجوية غير المأهولة بالبشر، ووضع لهذا الغرض ميزانية بلغت 750 مليون دولار، كما يجري الجيش الأمريكي تجارب باستخدام انفجارات جوية ضخمة أو نبضات كهرومغناطيسية للوقاية من الظهور الحتمي لأسراب المُسيَّرات، كما كثف الأسطول الخامس الأمريكي استخدامه للطائرات البحرية من دون طيار وسفن السطح غير المأهولة والمركبات غير المأهولة تحت الماء، إذ شكل فرقة العمل 59 في سبتمبر 2021.

التشويش؛ وذلك من خلال التدخل في أنظمة اتصالات الطائرات بدون طيار وإحداث تشويش عليها، ويُعد كل من RF وGNSS نوعين أساسيين من أجهزة التشويش المُستخدَمة، وتعمل تلك الأجهزة على تعطيل ارتباط اتصالات التردد اللاسلكي بين المركبة الجوية ووحدة التحكم الأرضية إلكترونيًّا، واختطافها. وقد لجأت أوكرانيا إلى هذا الأسلوب من خلال إجراء تجارب على أرض المعركة مستعينة بآلة دفاع صممتها ليتوانيا تسمى “سكاي وايبر”، التي عرقلت المسيرات وقت طيرانها عن طريق التشويش على اتصالاتها، حيث أرسلت وزارة الدفاع الليتوانية 50 قطعة من “سكاي وايبر” إلى كييف.

تطوير منظومات دفاع للتصدي للطائرات المسيرة؛ حيث وضعت الولايات المتحدة جهازًا جديدًا مضادًا للطائرات المسيرة على مركباتها العسكرية، وهو مزود برادار وكاميرات لرصد هذا النوع من الطائرات، وفي حال اكتشاف طائرة معادية، يرسل الجهاز ترددات راديو للتشويش عليها وإسقاطها، كما أن هناك اهتمامًا متزايدًا بالنظام المحمول والمتنقل، مثل “سكاي وول”، إذ يقوم هذا الجهاز برصد الطائرات، وإطلاق شبكة عليها لتعطيل حركتها.

أما فرنسا؛ فتعمل وزارة الدفاع الفرنسية على امتلاك 6 أنظمة اعتراض مضادة للطائرات المسيرة، بعد توقيع عقد بقيمة 350 مليون يورو، فيما طوّرت مجموعتا “تاليس” و”سي إس” نظام “باراد” الذي تم تحسينه لرصد وتحييد الطائرة المسيّرة الصغيرة ومتناهية الصغر، حيث بمجرد رصد الطائرة المسيرة ومتابعتها تلقائيًا عبر الكاميرات، يقوم المشغل بتنشيط جهاز تشويش على بعد كيلومترين من المسيرة مع دخولها منطقة الحظر، ما يجبرها على الهبوط أو الوصول إلى نقطة محددة مسبقًا.

التدمـير فـي الجـو؛ حيث تُستخدم أنظمة الدفاع الجوي مثل نظام الدفاع الجوي الصاروخي المدفعي المحدث “بانتسير-إس1إم”، والذي أثبت قدرة عالية على ضرب مختلف أنواع الطائرات بدون طيار في سوريا، كما يمكن استخدام الصواريخ التي تُطلَق من مروحيات حربية ومن طائرات مقاتلة، بالإضافة إلى صواريخ أرض-جو لتدمير الطائرات بدون طيار، كذلك تُستخدم بعض الأسلحة التي لم تكن مصممة أساسًا لتدمير الطائرات بدون طيار في تدمير الأنواع الصغيرة والتي تطير بسرعة منخفضة.

وقد بدأت تركيا في تبني هذا النهج؛ حيث تم توقيع عقد بين شركة روكيستان لتصنيع الصواريخ وشركة بايكار لتصنيع المسيرات، من شأنه أن يتم تزويد طائرات بيرقدار تي بي2 وآقينجي، بصواريخ جو – جو، لإسقاط الطائرات المعادية.

إنشاء نظام لـتـنـظـيم اســـتـخـدام الطائرات بدون طيـــار؛ يتضمن معايير قوية تتعلق بتصميم وتصدير وضبط استخدام الطائرات المسيرة ونقل التكنولوجيا العسكرية ذات الصلة، وإبرام اتفاق حسن نية تتفق الدول بموجبه حول كيفية استخدام الطائرات المسيرة بما في ذلك الأمور المتعلقة بعبور الحدود والامتثال للقانون الدولي ووضع أفضل الممارسات بشأن الطائرات المسيرة ونقل التكنولوجيا لأطراف ثالثة، ويُقترح أيضًا أن تشمل اتفاقيات بيع هذه الطائرات، حماية المدنيين والالتزام بحقوق الانسان الدولية والقانون الإنساني.

ولكن رغم هذه الجهود الحثيثة، فإن التصدي للطائرات المسيرة، ليس بالأمر اليسير نظرًا لعدة صعوبات؛ منها: صعوبة الرصد حيث صغر حجمها وارتفاعها المنخفض، احتمالية الهجوم بعدد كبير من الطائرات المسيرة في آن واحد، وجود أنظمة مضادة لأنظمة مواجهة الطائرات بدون طيار حيث تُجهز بعض أنواع الطائرات المسيرة بأنظمة اتصالات مضادة للتشويش، وبعضها يمكن برمجته على الاستمرار في المهمة دون اتصال بالمحطة الأرضية، وهناك بعض الطائرات مصممة بتكنولوجيا الاختفاء عن الرادارات أيضًا، إضافة إلى المخاطر الناجمة عن اعتراض الطائرات في الجو.

إجمالًا

قد باتت الطائرات المسيرة، سلاح خطير لا تمتلكه وتستخدمه فقط الدول الكبرى والمتوسطة، بل وصل إلى الجماعات والمليشيات المسلحة، وهذا الانتشار الواسع والمقترن بالقدرات الهائلة لهذه الطائرات والتي تتعاظم مع تطور التكنولوجيا، يشير إلى أن الدرون هي سلاح الحروب المستقبلية، الذي يحمل في طياته تداعيات كارثية على الأمن العالمي، وبالتالي؛ لا مفر من اتخاذ الخطوات الصارمة التي من شأنها تحجيم هذا الخطر.

كلمات مفتاحية