إعداد : دينا لملوم
لم تكن العقوبات الدولية وليدة اللحظة، بل قديمة قدم الإنسانية، وبالتزامن مع العقوبات السياسية والاقتصادية، ظهر مؤخرًا ما يعرف بالعقوبات الرياضية والبيئية، ولكن فى ظل هذا التطور الملحوظ، واستمرار فرض سياسة العقوبات على أى دولة تحاول المساس بأمن النظام الدولى، إلا أن الشواهد التاريخية أثبتت مدى فشل هذه السياسة فى التحكم فى حجم الانتهاكات الجسيمة التى ترتكب من قبل العديد من الدول فى حق المجتمع الدولى، فباتت الفجوة بين الواقع والتطبيق تتسع شيئًا فآخر، حتى أصبحت هذه الانتهاكات تستفحل قواها، وكانت منحة لبعض الدول، كروسيا التى اعتادت على العقوبات لسنوات، حتى تمكنت من توظيف هذه السياسة لصالحها، والاستفادة منها على أكمل وجه، ولبنان والعراق، وأخيرًا إيران، وسياسة الاستفحال النووى التى سلكتها، وكعادة أى ضغط، فقد خلفت العقوبات بعض التداعيات، إلا أنها مازالت تصب فى صالح الدول.
الجذور التاريخية لظهور سياسة العقوبات:
قبل الحديث عن التطور التاريخى للعقوبات الدولية، يمكن التطرق إلى ماهية هذه العقوبات، فهى عبارة عن حزمة من القرارات السياسية والاقتصادية لصيقة الصلة بالمساعى الدبلوماسية الحكومية، التى تستخدمها الدول والمنظمات ضد دول ومنظمات أخرى، بهدف حماية الأمن القومى، ومنع اختراق قواعد القانون الدولى، ومن ثم تهديد الأمن والاستقرار العالمى، ومن هنا فإن ظهور العقوبات الدولية لم يكن بالحديث، بل هى أداة قديمة، اتبعها المصريون والآشوريون فى مواجهة خصومهم، وكانت عقوبات اقتصادية بالأساس، حيث تم فرض حصار اقتصادى وقطع التجارة مع المدن الأخرى التى تربطها علاقات عدائية مع دولهم، وترجع أول عقوبة اقتصادية فى التاريخ إلى القرن الخامس قبل الميلاد، عندما قامت أثينا بفرض عقوبات اقتصادية ضد مدينة إغريقية أخرى، بسبب محاولة الأخيرة المساس بأرض مقدسة تابعة لأثينا، وعلى الرغم من فشل هذه السياسة، إلا أنهم واصلوا اتباعها حتى برزت بشكل واضح فى عالمنا المعاصر.
ومع تشكيل نظام دولى جديد تمخض عن الحرب العالمية الأولى، بدأت العقوبات الاقتصادية تأخذ منحى المساواة القانونية، واستُغلت الأداة الاقتصادية لفرض هذه المساواة إبان تشكيل عصبة الأمم عام ١٩٢٠، ولكن العصبة فشلت أيضًا فى فرض عقوباتها على الأطراف المعتدية، وحتى بعد فشل العصبة وإعادة هيكلة النظام العالمى، إلا أن الفشل كان حليفًا للمجتمع الدولى فى تلك الحقبة، التى شهدت حربًا باردة بين المعسكرين الشرقى والغربى، وفى ظل صعوبة تطبيق العقوبات الرادعة فى إطار هذه الحرب، ظهر لدينا نوعًا من العقوبات الأحادية التى تقوم بها الدول الأقوى اقتصاديًا ضد خصومها الأضعف.
أنواع العقوبات:
- العقوبات الاقتصادية: تشمل قطع كل أوجه التبادل التجارى مع الدولة المستهدفة، مع احتمالية طردها من المنظمات الدولية المتعلقة بالشق التجارى، أيضًا يمكن وقف المساعدات الاقتصادية، وحرمان الدولة من الحصول على المنح والقروض من المؤسسات الدولية، بجانب وقف التحويلات المالية من وإلى الدولة، وتجميد أرصدتها فى البنوك، بالإضافة إلى وضع قيود على حركة الطيران، حيث حظر الطيران ومنع السفر إلى تلك الدولة، فضلًا عن منعها من الهبوط فى مطارات الدول الأخرى.
- العقوبات السياسية: تنصب على منع الدولة المستهدفة من المشاركة فى المحافل الدولية، مع استبعاد مواطنيها من تولى المناصب فى المنظمات الدولية، هذا إضافة إلى حرمان الدولة المُعاقَبة من حق التصويت، حيث قام مجلس أوروبا عام ٢٠١٤ بتعليق حق وفد روسى فى التصويت، بسبب قيام روسيا بضم القرم، وكذلك حرمانه من حق التمثيل فى بعض الهيئات التنفيذية للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، أيضًا يتم معاقبة الدولة المخالفة بمنع مسؤوليها من السفر إلى دول أخرى، مثل قيام العرب بعد الأزمة السورية عام ٢٠١١ بفرض حظر على سفر كبار المسؤولين السوريين إلى الدول العربية، بالإضافة إلى قرار جامعة الدول العربية بتجميد عضوية سوريا، وتصعيد الضغوط على دمشق؛ لوقف أعمال العنف الموجهة ضد الشعب السورى، وقمع المتظاهرين.
- العقوبات الدبلوماسية: هى عبارة عن تدابير وإجراءات تتخذها الدولة فى محاولة للتعبير عن عدم رضاها إزاء إجراءات معينة، فتعمل على خفض مستويات التمثيل الدبلوماسى، وقد تصل إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية، حال زيادة حدة التوترات، وفشل كافة محاولات التسوية بين الطرفين، ومن ثم إغلاق السفارات والقنصليات فى الدولة المستهدفة، ولعل الشاهد الأبرز فى هذه الحالة، قيام العديد من الدول بقطع العلاقات مع النظام السورى منذ اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١، جراء قيامه بارتكاب جرائم عديدة ضد مواطنيه، وهو ما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، أيضًا وقف المفاوضات مع الدولة المستهدفة، مثلما قامت اليابان بوقف المفاوضات مع روسيا فيما يتعلق بالاستخدام السلمى للفضاء والاستثمارات التكنولوجية، ناهيك عن إلغاء تأشيرات الدخول للمسؤولين الروس.
- العقوبات العسكرية: تُعنى بمنع توريد المعدات والآلات العسكرية، وكذلك إلغاء بعض الصفقات العسكرية المتعلقة بالتسليح، ناهيك عن حظر الطيران العسكرى فوق أراضى الدولة ذاتها، وتمثل ذلك فى قيام الاتحاد الأوروبى بفرض حظر على الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية، فضلًا عن وضع قيود على التكنولوجيا المستخدمة فى المجالات العسكرية، حرمان ولقد ساهم حرمان موسكو من التكنولوجيا الأمريكية فى شل قدرتها على الحفاظ على عملياتها العسكرية فى أوكرانيا، حيث اتضح وجود معدات عسكرية روسية معبأة بأشباه الموصلات التى انتزعتها القوات الروسية من غسالات الأطباق والثلاجات، الأمر الذى كبّدها خسائر باهظة، وهذه كانت تكلفة قيود التصدير التى قادتها الولايات المتحدة ضد روسيا.
- العقوبات الإعلامية: تشمل القيام بحجب مواقع معينة داخل دولة ما، أو حتى وقف بث قنوات فضائية داخل تلك الدولة، وكذا منع أى سياسى تابع لهذه الدولة من الظهور عبر وسائل الإعلام الخاصة بالدول المتحفظة على سلوك هذه الدولة.
- العقوبات الرياضية: تعد هذه العقوبات حديثة نسبيًا، ويتم توجيهها نحو القيام بمنع الفرق الرياضية لدولة ما من الاشتراك فى المسابقات الدولية، أو حتى حرمان هذه الدولة من تنظيم البطولات الدولية، حيث قام الاتحاد الدولى والأوروبى لكرة القدم بمنع كافة المنتخبات الروسية من المشاركة فى البطولات الدولية، منها كأس العالم ٢٠٢٢، بسبب العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا.
- العقوبات البيئية: ظهرت مؤخرًا قضايا البيئة التى شكلت تهديدًا كبيرًا لكافة دول العالم، وزيادة معدلات الاحتباس الحرارى، التى أثرت بشكل ملحوظ على القضايا المناخية، فباتت الدول الصناعية تشكل تهديدًا خطيرًا للبيئة، ومن ثم فقد زادت وتيرة الاهتمام بقضايا المناخ والبيئة، والسعى إلى تحجيم الأنشطة التى تضر بها، من خلال فرض العقوبات على الدول التى تصدر عنها انبعاثات ضارة، للعمل على استخدام التقنيات والوسائل الصديقة للبيئة والحد من هذه الانبعاثات، وهو ما تناولته قمة المناخ الـ٢٧ التى انعقدت فى شرم الشيخ بمصر نوفمبر الماضى.
أسباب فرض العقوبات:
تسعى الدول والكيانات الدولية لفرض العقوبات على الدول التى تمثل انتهاكًا للقانون الدولى، وفى هذا الصدد جاء قرار مجلس الأمن الدولى رقم ٦٦١ بفرض عقوبات على العراق إثر قيامها بغزو الكويت عام ١٩٩٠، حيث تم فرض حصار بحرى وجوى على العراق؛ لإجبارها على الانسحاب من الكويت.
أيضًا محاولة تطويق أى خطر من شأنه المساس بالأمن والسلم الدوليين، ولعل أبرز مثال على ذلك هو البرنامج النووى الإيرانى، فقد فرضت عليها عقوبات وقيود على المواد الصاروخية والأسلحة التى يمكنها استخدامها لتصنيع أسلحة دمار شامل، إلا أن هذه العقوبات لم تكن مُجدية، ولم تحقق هدفها المنشود، بل فى ظل هذه القيود كانت القدرة النووية لإيران تتضاعف ووصلت إلى نسب عالية من تخصيب اليورانيوم، وكانت آخر نسبة هى ٨٤٪، وهو ما يجعل الظروف مواتية لتصنيع قنبلة نووية، فكيف للعقوبات أن تحيا فى ظل هذا التنامى المروع الذى يشكل تهديدًا عالميًا؟.
على الصعيد الآخر تنامى الأذرع النووية لكوريا الشمالية، التى لا تزيدها العقوبات سوى تعنتًا وإصرارًا على مواصلة برنامجها النووى، فعلى الرغم من حظر مجلس الأمن الدولى برامج الصواريخ الباليستية والأسلحة النووية لكوريا الشمالية، إلا أنها لن تتردد فى تطوير أسلحتها وإجراء عروض عسكرية، حيث قامت فبراير الماضى بإطلاق صاروخًا باليستيًا عابرًا للقارات سقط فى بحر اليابان، ومازالت تواصل هذه الأعمال، كأنها تقوم بذلك نكاية فى الغرب والعقوبات المفروضة عليها.
وقد تسعى العقوبات إلى منع الإجراءات التى اتخذتها الدولة المستهدفة، وليكن فيما يتعلق بقضايا الانفصال، مثل قيام الأقلية البيضاء فى “روديسيا” بإعلان الرغبة فى الاستقلال عن البلاد، وهو ما أعقبه قيام مجلس الأمن عام ١٩٦٥ بحظر كافة المواد الاقتصادية والعسكرية والنفطية.
الجهات المعنية بفرض العقوبات:
يتم فرض العقوبات إما بطريقة أحادية الجانب، أى تقوم بها دولة تجاه دولة أخرى، أو عقوبات أممية تتم من خلال كيانات دولية كالأمم المتحدة، أو الاتحاد الأوروبى.
العقوبات الأحادية: تأتى الولايات المتحدة الأمريكية على رأس الدول التى تقوم بفرض عقوبات على الدول التى تشكل انتهاكًا للقانون الدولى، ففى ظل الحرب الروسية على أوكرانيا، انهالت العقوبات عليها من قبل العديد من الدول، ففرضت الولايات المتحدة عقوبات على عدد من البنوك الروسية، ومنعت مواطنيها من التعامل مع البنك المركزى ووزارة المالية الروسية، أيضًا قيام اليابان بتجميد الأرصدة المخصصة للمشاريع الجديدة فى روسيا، واتجاه دول أوروبا إلى فرض العديد من القيود على روسيا، ولعل قيامها بإزالة البنوك الروسية من نظام “سويفت” واحد من أشد الإجراءات العقابية التى استخدمتها هذه الدول لمعاقبة روسيا.
وتتمثل العقوبات الأممية فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، فالتاريخ خير شاهد على توجيه العقوبات ضد أى محاولة لانتهاك حقوق الإنسان أو اختراق مبادئ القانون الدولى، وهو ما حدث مع روسيا، ولكن لابد من فرض عقوبات على إسرائيل أسوة بروسيا، فكل منهما يشكل انتهاكًا للإنسانية، ولابد من الامتثال لمبدأ المعاملة بالمثل بين الدول.
كيف تعاملت روسيا مع سياسة العقوبات:
لم تكن العقوبات على روسيا وليدة اللحظة، بل وقعت موسكو تحت طائلة هذه العقوبات لأكثر من عقد من الزمان، ولم تقف مكتوفة الأيدى أمام هذه العقوبات، بل وظفت الأزمة لصالحها، حتى أصبحت مصارفها قادرة على التكيف وامتصاص الصدمات الاقتصادية المتعثرة، فى ظل العقوبات الغربية التى عصفت بها.
وبعد العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبى عقوبات صارمة على موسكو، وتوقع الخبراء حدوث انخفاض حاد فى الناتج المحلى الإجمالى، الأمر الذى سوف يقلص من المكاسب الاقتصادية التى ستحصل عليها روسيا، ولكن حدث عكس ذلك، إذ إن الاقتصاد الروسى وصل لمعدلات أداء عالية أفضل بكثير مما كان متوقعًا، فقد تغيرت دفة الأمور لصالح روسيا، حيث ارتفاع أسعار النفط، أدى إلى زيادة عائدات روسيا منه، واستخدامه فى دعم الموارد المالية، وزاد الطلب على النفط والغاز الروسى، فظهر مشترون جدد كالصين والهند وغيرهما من الدول، واستطاعت روسيا تحقيق فائضًا تجاريًا قياسيًا، وتمكنت من توظيف الأزمة لصالحها، فعملت على استخدام الأموال المتدفقة من النفط والغاز الطبيعى، لدعم الصناعة والحفاظ على استقرار وضعها الاقتصادى والاجتماعى.
وانخفضت معدلات البطالة بشكل ملحوظ؛ لذا فنجد أن العقوبات لم تزعزع الدولة الروسية، بل كانت عاملًا إضافيًا مكنها من ترسيخ قدماها، فالواقع أثبت أن العقوبات تكون أكثر فاعلية قبل أن يتم فرضها، وكدولة مثل روسيا اعتاد شعبها على العيش فى ظل العقوبات لسنوات، فإن هذه السياسة لن تكون أداة فعالة لدحر روسيا عن العمليات العسكرية التى تقوم بها فى أوكرانيا. ويرى خبراء أن استمرار عمل أغلب الشركات الغربية داخل روسيا كان عاملًا مهمًا ساعدها على تحقيق الصمود الاقتصادى، ومن هنا يتضح لنا مدى السياسة الحكيمة التى اتبعتها روسيا فى التعامل مع العقوبات والتضييق الاقتصادى عليها، فقد تمكنت من توظيف مواردها بشكل جيد، لاحتواء الموقف وحالت دون حدوث صدمة للاقتصاد الروسى من شأنها إضعاف موقفها أمام خصومها، هذا بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها مع شركاء كالصين، تلك الورقة الرابحة بالنسبة لموسكو، أيضًا اقتناع الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” بأنه يخوض حربًا وجودية ضد أوكرانيا والغرب، ومن ثم عدم الانصياع إلى العقوبات وتغيير سياساته تجاه الأزمة الأوكرانية، ومن ضمن المساعى الروسية للتغلب على سياسة العقوبات، تسعى موسكو لإزالة الدولرة، وتطوير بدائل أخرى لنظام “سويفت”، فضلًا عن إنشاء عملات رقمية للبنوك المركزية.
هل ستدخل شركة “روساتوم” ضمن حزمة العقوبات الروسية؟
تعمل شركة “روساتوم” المنفذة لمشروع محطة الضبعة النووية فى مصر، على إمداد الأسلحة الروسية بالتكنولوجيا والمواد الخام التى تساعدها فى حربها ضد أوكرانيا؛ مما أدى إلى الدعوة لفرض عقوبات على تلك الشركة، بسبب المخاوف التى ساورت المجتمع الدولى إزاء المشاركات التوسعية لـ “روساتوم”، حيث إنها تشارك بشكل كبير فى صناعة الطاقة النووية المدنية فى جميع أنحاء العالم، ومن بينها تعهدها ببناء المفاعل النووى فى محطة الضبعة فى مصر.
وفى ظل هذه العقوبات أكد السفير الروسى لدى مصر، أن الجدول الزمنى لبناء محطة الضبعة لن يتغير، وسيستمر العمل عليها فى غضون الوقت المحدد لذلك، ولكن هناك مخاوف بشأن ما إذا تعرضت هذه الشركة لوقوع عقوبات فعلية عليها، أن تضر بالمشروع المصرى، وتعرقل من عملية بناء المفاعل النووى، وتعطيل مشروع إنتاج الكهرباء المزمع إنشاؤه على خلفية هذه المحطة النووية، والذى يعد إنجازًا تاريخيًا له تأثير اقتصادى هائل سيصب فى مصلحة عدد كبير من القطاعات على الأصعدة المختلفة.
العقوبات المفروضة على لبنان والعراق وإيران نموذجًا:
أولًا.. لبنان: فرضت الولايات المتحدة الأمريكية بفرض عقوبات على مصرف لبنان “جمال ترست بنك”، والشركات التابعة له؛ بسبب قيامه بتمويل حزب الله، ذلك الكيان الذى وضعته الولايات المتحدة على قائمة المنظمات الإرهابية منذ عام ١٩٩٧، وتثار المخاوف بشأن انتقال العدوى لمصارف أخرى، فى ظل الوضع الاقتصادى المذرى الذى تعانى منه لبنان، ولم يكن هذا المصرف وحده هو من طالته العقوبات، بل لقى “البنك اللبنانى الكندى” نفس المصير عام ٢٠١١، على خلفية قيامه بتبييض الأموال لصالح حزب الله، ودائمًا ما تعمل أمريكا على فرض عقوبات على كل من له علاقة بحزب الله، وكان آخرها فرض عقوبات على الاقتصادى البارز “حسن مقلد”، وتوجيه الاتهامات له؛ بسبب علاقات مالية مزعومة مع ميليشيا “حزب الله”.
ثانيًا.. العراق: فى خضم عام ١٩٩٠ قامت العراق بالغزو العسكرى للكويت، مما جعل مجلس الأمن يوجه العقوبات الاقتصادية والمالية بشكل موسع نحو العراق؛ باعتبار ما قامت به تجاه الكويت انتهاكًا وتهديدًا للأمن الدولى، وقد أدت سياسة العقوبات التوسعية نحو العراق إلى زيادة المعاناة الإنسانية وحدوث انخفاض فى معدلات الغذاء والدواء، مما جعل الأمم المتحدة تتدخل، ولكن من أجل الحصول على النفط مقابل الغذاء، ومنع البلاد من شراء أى مستلزمات صناعية مقابل إيرادات النفط، وكالعادة الشعب هو من تشبع بهذه المعاناة وتألم منها، وفى عام ٢٠٢٢ تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية واتخذت سياسات صارمة ضد التحويلات الدولارية من العراق إلى إيران، الأمر الذى أدى إلى انخفاض قيمة الدينار العراقى فى السوق السوداء، كما قامت الولايات المتحدة بإدراج عدد من البنوك العراقية التى تتعامل بشكل أساسى مع إيران ضمن القائمة السوداء، فى محاولة لقطع أيدى الحرس الثورى الإيرانى ومنعه من الحصول على تدفقات مالية من العراق.
ثالثًا.. إيران: قد كان البرنامج النووى الإيرانى سببًا فى تدفق سيل من العقوبات على طهران، سواء من قبل الدول الكبرى أو المنظمات الدولية، أو الاتحاد الأوروبى، فى محاولة لدحر طهران للتراجع عن هذا البرنامج الذى يعد تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، ويمكن إجمال هذه العقوبات فى الآتى:
العقوبات الأحادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، فرضت عدة عقوبات على إيران بدءًا من أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين عام ١٩٧٩، وتلاها القيام بفرض حظر اقتصادى تام عام ١٩٩٥، ثم قامت بفرض قانون العقوبات عام ١٩٩٦، والذى يقضى بفرض عقوبات على الشركات التى ثبت استثمارها فى قطاعى النفط والغاز الإيرانى، وفى عام ٢٠١١ قامت بتشديد العقوبات على كل من قدم دعمًا لتطوير قطاع النفط فى إيران، بجانب تجميد أرصدة مؤسسات مالية أجنبية لها علاقات تجارية مع البنك المركزى الإيرانى فى مجال النفط.
وفى ظل تنديد مجلس الأمن الدولى بسياسات إيران التى تسعى نحو التوسع فى المجال النووى، فرض عام ٢٠٠٦ حزمة من العقوبات الاقتصادية الصارمة، حيث عمل على فرض حظر على مشتريات الأسلحة الإيرانية، وفرض قيود على القروض المالية لإيران، ناهيك عن حظر تزويد “طهران” بمعدات ذات استخدام مزدوج “أى مدنى وعسكري”.
وقد جاءت عقوبات الاتحاد الأوروبى لتسلك ذات المسار، وبالرغم من سيل العقوبات الذى غرقت فيه طهران، إلا أنها مازالت تسلك منحى التوسع والانتشار النووى، حتى أوشكت على صنع قنبلة نووية، بعد قيامها مؤخرًا بتخصيب اليورانيوم بنسبة كبيرة وصلت إلى ٨٤٪، ومازالت مستمرة لا تعبأ لأحد.
كل هذه الشواهد كانت على سبيل المثال لا الحصر، فسلسلة العقوبات مازالت مستمرة، ومازالت الأطراف الدولية المختلفة تتوغل داخل الدول المخالفة لقواعد القانون الدولى، ولمبادئ السلم والأمن الدوليين، ومازال السباق مستمر، ومازال المجتمع الدولى يعانى.
أسباب عدم فاعلية العقوبات:
ترجع أسباب فشل العقوبات فى تحقيق أهدافها ومنع حدوث انتهاكات للقانون الدولى إلى:
- اتباع سياسة التحايل من خلال الاعتماد على دول مجاورة، تتمكن من خلالها الدولة المفروض عليها العقوبات من تمرير السلع، وبيع وتصدير مصادر الطاقة كالنفط والمواد الخام.
- غياب الشرعية الدولية للعقوبات، أى عدم صدورها من قبل جهات أممية كمجلس الأمن الدولى، ومن ثم تصبح حبرًا على ورق لا تعترف بها بعض الدول.
- وجود حالة من الاستقرار السياسى وتماسك النخبة الحاكمة من عوامل فشل العقوبات، حيث تعد الأنظمة الهشة والانقسامات الداخلية من محفزات نجاح العقوبات.
- وجود استثناءات فى تطبيق العقوبات، كأن يتم استثناء موارد معينة من تلك العقوبات، خاصة فى ظل عجز الدولة الفارضة للعقوبات عن الاستغناء عن هذه الموارد، مثل قيام الصين باستثناء الرقائق الإلكترونية من العقوبات المفروضة على تايوان والمتعلقة بحظر الاستيراد والتصدير معها.
التداعيات الناجمة عن العقوبات الدولية:
ثمة عدد آثار وتداعيات مترتبة على العقوبات المفروضة على الدول المستهدفة، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا:
سياسيًا: قد تخلق سياسة العقوبات حالة من عدم الاستقرار السياسى، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات وانتشار السخط العام وزيادة عدد المتظاهرين، فضلًا عن حدوث تشوش فى اتجاهات السياسة الخارجية وعدم وضوحها، وتضييق الخناق على بعض أنشطتها الخارجية، ومنعها من المشاركة فى المحافل الدولية، كالنظام السورى الذى حُرم من أحضان جامعة الدول العربية لسنوات، وشهد مقاطعات دبلوماسية من قبل العديد من الدول العربية.
اقتصاديًا: شل حركة الاقتصاد الرسمى فى الدول، وتغلغل الأنشطة غير الرسمية، ومن ثم التأثير بشكل سلبى على معدلات التنمية، ووقوع الأصول المالية والنقدية تحت طائلة العقوبات من شأنه التأثير على قطاع الإنتاج، وما يليه من ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وحدوث نقص فى السلع الغذائية.
اجتماعيًا: كنتيجة لتدنى الأوضاع الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسى، تصاب بالدولة بالشلل المؤقت فى بعض القطاعات، حيث انتشار الفساد، وانخفاض مستوى التعليم، والصحة بسبب العجز فى توفير الأدوية، لذا فيحدث فى نهاية المطاف ارتفاع حاد فى معدلات الفقر، ومن ثم حدوث انفلات أمنى، فتصبح الدولة أرض خصبة للصراعات وظهور الجماعات المسلحة.
ولكن يمكن القول، إن هذه العوامل تتفاوت من دولة لأخرى، بحسب قدرتها على امتصاص هذه الصدمات والقدرة على توظيفها بشكل جيد، أى إعادة تدوير الأزمات والضغوطات وتحويلها إلى قناة مفتوحة تتمكن من خلالها تحسين أوضاعها وزيادة مواردها، وذلك مثلما فعلت روسيا.
ختامًا:
لقد أثبتت التجارب على مدى حقب من الزمان مدى فشل نظام العقوبات برمته وعدم فاعليته فى التصدى للانتهاكات التى تعترى النظام الدولى، وتضر بأمن واستقرار البلاد، ومن ثم فإن فقدان هذا الأسلوب لتحقيق أهدافه تكون نتيجته فقدان المبرر لاستمراره، والاعتماد عليه، بل التمادى فى استخدامه يجعله يتحول من هدف إلى غاية لتحقيق مآرب ومصالح سياسية، وبعد إثبات مدى إخفاق نظام العقوبات الممارس بطريقة أحادية أو أممية، يمكن الجزم بالفشل الذريع لهذه الأداة، التى لا تؤدى فى النهاية سوى إلحاق الضرر بطرف واحد وهو الشعب الضحية الأولى فى هذا المشهد؛ لذا فلابد من أن يراجع الغرب سياساته، ويعيد النظر فى خياراته، وأن تركز الجهود صوب الهدف المنشود، ألا وهو الحد من التجاوزات التى من شأنها زعزعة الأمن والاستقرار العالمى، والبحث عن سبل أخرى مُجدية، تجعل الدول التى تتجاوز قواعد النظام الدولى تقف عند حدها فى الوقت المناسب، وتجعلها تكف عن سياساتها العدائية الموجهة ضد الإنسانية، ولابد من أن تكون الإجراءات رادعة ومؤلمة حتى تكف أيدى المخربين عن العبث بالنظام العالمى وفق أهوائهم ومصالحهم، دون الالتفات إلى حق الشعوب فى العيش فى ظل استقرار وسلام، أيضًا ينبغى التنفيذ الجيد لما يتم وضعه لمعاقبة الدول المتجاوزة، وألا تكون العقوبات مجرد حبرًا على ورق لا تنفيذ لها على أرض الواقع.