إعداد: مصطفى مقلد
مع تصاعد التوترات بين أكبر اقتصادين فى العالم بشأن التجارة وسلاسل التوريد، بعد المنافسة بشأن الألواح الشمسية وأشباه الموصلات والسيارات الكهربائية، تبرز صناعة بناء السفن باعتبارها أحدث بؤر التوتر فى الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث طلبت نقابات الصلب الأمريكية رسميًا من الرئيس “بايدن” إجراء تحقيق فى ممارسات بناء السفن الصينية، حيث تزعم النقابات أن الدعم الذى تقدمه الحكومة الصينية لقطاع بناء السفن يمكنها من تقديم منتجاتها بأسعار أقل، وليس بسبب العمليات الأكثر كفاءة أو التقدم التكنولوجى ما يشكل منافسة غير عادلة، ويهدد الوظائف واستقرار صناعة الصلب الأمريكية.
ويأتى الالتماس بعد أن أعلن الرئيس “بايدن” مؤخرًا عن استثمار بقيمة 20 مليار دولار لتعزيز تصنيع الرافعات المحلية فى الولايات المتحدة لمواجهة إنتاج الصين الرائد فى سوق البنية التحتية الحيوية للموانئ، بعد أن اعتبر الرافعات الصينية فى الموانئ الأمريكية تشكل خطرًا محتملًا على الأمن السيبرانى الأمريكى.
وتعهد الرئيس الأمريكى بالنظر فى العريضة المقدمة من النقابات، وتُسلط هذه الخطوة الضوء على المخاوف الغربية المتزايدة بشأن السياسات الاقتصادية للصين وتأثيرها على ديناميكيات التجارة العالمية، كما أن هذا الالتماس ليس مجرد قضية اقتصادية، بل قد يحمل معه تبعات جيوسياسية وجيواقتصادية، وقد حثت النقابات الممثل التجارى الأمريكى على اتخاذ تدابير تشمل فرض رسوم على السفن صينية الصنع التى ترسو فى الموانئ الأمريكية، وإنشاء صندوق بمساهمة من تلك الرسوم لمساعدة الصناعة المحلية والعاملين فيها على المنافسة.
ويمنح قانون التجارة الأمريكى لعام 1974 الرئيس القدرة على مواجهة أى تصرفات تتخذها حكومة أجنبية تنتهك اتفاقيات التجارة الدولية أو تثقل كاهل التجارة الأمريكية أو تقيدها بشكل غير عادل، وعند تلقى الالتماس، سيقوم الممثل التجارى الأمريكى بموجب المادة 301 من القانون بالتحقيق فى الممارسات التجارية غير العادلة المزعومة ويمكنه اتخاذ الإجراءات اللازمة إذا تبين أن الممارسات غير مبررة أو تمييزية.
وعبرت وزارة التجارة الصينية عن معارضتها الحازمة لهذه الخطوة، منتقدة الحمائية التجارية أحادية الجانب فى قطاع بناء السفن والتى تتجاهل قواعد منظمة التجارة العالمية، ويرى الصينيون الالتماس باعتباره خطوة مخططة تهدف إلى البحث عن “علاجات” لصناعة أمريكية تتدهور، مع تجاهل الأسباب الحقيقية لذلك التدهور، وإنكار المزايا النسبية للصين فى تلك الصناعة.
ويعرب خبراء أمريكيون، عن قلقهم من التأخر عن الصين فى ذلك المسار خصوصًا فى ضوء ما أظهره الصراع الأوكرانى من أن الحروب يمكن أن تستمر لفترة طويلة، والحاجة لوجود صناعة فاعلة، وكذلك تمتع الصين بميزة عسكرية فى مواجهة الولايات المتحدة فى غرب المحيط الهادئ، حيث تتركز أغلب سفنها، فى حين أن البحرية الأمريكية موزعة فى مهام أخرى بعيدًا عن هنا، ومن المتوقع أن يُظهر توظيف المهندسين البحريين “تغييرًا طفيفًا” من عام 2022 إلى عام 2032 فى الولايات المتحدة، وفقًا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكى.
إن الحصة العالمية لصناعة بناء السفن الأمريكية قد انخفضت بشكل كبير، ولكن لا يمكن إنشاء علاقة سببية بين الانخفاض والإعانات الصينية، حيث كان قد أُغلق سبعة أحواض بناء السفن العامة من الستينيات إلى التسعينيات، ويمكن أن تعزى الفجوة فى قدرات بناء السفن إلى عدة عوامل، بما فى ذلك جهود الصين المركزة على تسريع التحديث العسكرى، والأولوية الإستراتيجية للتوسع البحرى لتأكيد مصالحها البحرية، والاستخدام الفعال لقدراتها الصناعية التجارية.
لذا؛ تسعى الولايات المتحدة لإصلاح أسطولها البحرى، باعتبار أن إعادة بناء البحرية التجارية الأمريكية ستساعد فى دعم سلاسل التوريد بما يتوافق مع مساعيها الأشمل التى تسير مع جهود قانون خفض التضخم، ففى نهاية فبراير الماضى، أجرى وزير الدفاع الكورى محادثات مع وزير البحرية الأمريكية “كارلوس ديل تورو” فى سيول ودار فى النقاشات الحديث عن أحواض بناء السفن الكورية لمراقبة قدراتها العسكرية والتجارية فى مجال بناء السفن واستكشاف إمكانات التعاون المستقبلى فى القطاع البحرى، ثم سافر “ديل تورو” إلى اليابان، وناقش الجهود المبذولة لإحياء الصناعة البحرية الأمريكية مع كبار المسؤولين التنفيذيين
فى مجال بناء السفن، وترى الولايات المتحدة أن الاستثمارات الكورية الجنوبية واليابانية يمكن أن تساعد الولايات المتحدة على زيادة قدرتها على مواكبة الصين.
وتهيمن الصين بالفعل على صناعة بناء السفن العالمية، حيث قامت فى عام 2019 بدمج أكبر شركتين لصناعة السفن لإنشاء شركة صناعية وعسكرية عملاقة مملوكة للدولة، وساعدها هذا على التفوق على زعماء العالم السابقين كوريا الجنوبية واليابان، وفى عام 2022، قامت الشركات الصينية ببناء ما يقرب من نصف الحمولة الإجمالية للسفن التجارية التى تم بناؤها
فى ذلك العام، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، وقد سمح هذا الحجم للدولة بتوسيع أساطيلها التجارية والعسكرية بسرعة.
يقول خبراء، إنه يتعين على الدول الكبرى فى مجال بناء السفن فى العالم تعزيز التضامن والحفاظ على المنافسة الصحية بين شركات بناء السفن، بدلًا من محاولة إعاقة تنمية الآخرين، ويحذر الخبراء من أنه إذا تم تطبيق إجراءات حمائية، فسوف تتأثر الطلبيات المستقبلية للسفن الجديدة، بينما سيتأثر وكلاء الشحن أيضًا بشكل كبير، بالتالى تحمل تلك القضية آثارًا عالمية، ليس فقط فى تأجيج التوترات التجارية، بل فى زيادة التركيز على القوة العسكرية المتنامية لبكين وصناعة الشحن التجارى الضخمة التى تدعمها.
مصر يمكن أن تستفيد من ذلك السياق، حيث أسست هيئة قناة السويس صندوق استثمار لزيادة قدرة الهيئة على تنمية مرافقها وتطويرها من خلال الاستغلال الأمثل لأموالها، من خلال مساهمة الصندوق بمفرده أو مع الغير فى تأسيس الشركات، أو فى زيادة رؤوس أموالها، والاستثمار فى الأوراق المالية، بالإضافة إلى ذلك فإن الصندوق سيستثمر فى شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها، وفى سياق موازٍ، أسندت إدارة هيئة قناة السويس، لكبرى الشركات الاستشارية العالمية المتخصصة، إجراء دراسة لمشروع الازدواج الكامل للمجرى الملاحى للقناة، على أن يمول المشروع من موازنة الهيئة دون تحميل الموازنة العامة أعباءً إضافية.
ونفهم من تلك الخطوات أن هناك رغبة مصرية قوية للإبقاء على قناة السويس كأهم ممر ملاحى يربط الشرق بالغرب فى ضوء ظهور مشروعات منافسة، وعليه، يمكن دعم تلك المساعى من خلال دعم سوق الصناعة البحرية فى إقليم قناة السويس بتوطين وترقية صناعة السفن، لتسهم فى زيادة معدلات نقل البضائع والحاويات حتى فى أوقات الأزمات، بالتعاون مع دول ترتبط بمصر بعلاقات “إيجابية” ولديها تجارب متقدمة فى ذلك المجال، مثل كوريا وفرنسا تركيا، خاصة مع عودة الزخم لذلك الملف بعد الاهتمام الدولى نتيجة التنافس (الأمريكى- الصينى) بشأنه، وهو ما قد يوفر فرصة دافعة للاستثمار فى ذلك المجال فى مصر، على غرار استفادة دول مثل فيتنام والفلبين وماليزيا من تحويل سلاسل الإمداد عن الصين بعد قرارات أمريكية نتيجة التنافس بين القوتين.