صناعة الوهم والتضليل: آليات التعبئة الإعلامية ضد القضية الفلسطينية

إعداد: جميلة حسين 

بالتزامن مع الحرب الميدانية التى تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين بعد أحداث “طوفان الأقصى” تمارس الأولى نوعًا من الحرب الدعائية والإلكترونية لمواجهة التحدى الذى تفرضه فصائل المقاومة وما يتبعه من انتفاضات، حيث تحاول إعادة رسم الصورة الواقعية بقدر من التضليل والتزييف بما يحقق مصالحها ويمثل غطاء لما تقوم به من انتهاكات ومجازر بحق الشعب الفلسطينى، ومن ثم تستغل المساحة المؤثرة لشبكات التواصل الاجتماعى وأهمية الوعى لدى العديد من الجماهير لبث أفكار ومعلومات تساعدها على إدارة المشهد على المدى القريب والبعيد.

تطوير الآلية الدعائية الإسرائيلية

واقع الأمر أن الاعتماد على الآلية الدعائية أو حرب المعلومات ليست بجبهة مستحدثة للمنظومة الإسرائيلية، بل يثبت التاريخ أنه دوما ما يتم استخدام وسائلها المختلفة لتحقيق أجندتها الخاصة فى خدمة مصالحها، ولعل عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” مثال بارز لأشهر الدعايات المزيفة التى اكتسبت شعبية واسعة فى القرن الماضى لدى الحركة الصهيونية والغرب، واستُخدمت من جانب سلطة الاحتلال لتبرير تهجير السكان الفلسطينيين الأصليين أثناء قيام دولة إسرائيل عام 1948 لسلب وتجاهل حقوق الشعب الفلسطينى فى أرضه، وعبر السنين حتى الآن شهدت إسرائيل العديد من التطورات فيما يتعلق بالآلة الدعائية وساحة الوعى والتى برزت بعد الحرب على لبنان التى اعتبرت حرب فاشلة من أجل كسب التأييد والدعم الجماهيرى لها، وكذلك خلال الحرب على غزة أو ما يعرف بمجزرة غزة فى ديسمبر عام 2008 والتى ظهر فيها استخدام  الجيش الإسرائيلى لوسائل التواصل الجديدة مثل “تويتر”.

أما عن الأجهزة المرتبطة بإدارة هذه الحرب الافتراضية والتى تتمثل فى الإذاعة والتليفزيون والصحافة والإعلام الإلكترونى، وأجهزة الأمن الإسرائيلية حيث الجيش من خلال الناطقين باسمه وأشهرهم (أفيخاى أدرعى) المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، بجانب الأذرع الإعلامية والاستخباراتية ووزارة الخارجية ورئاسة الوزراء، وارتبط الخطاب الدعائى الإسرئيلى المستهدف للجمهور الإسرئيلى والفلسطينى والعربى والدولى بعدد من الأهداف أبرزهم:

بالنسبة للمجتمع الفلسطينى: لتحقيق الردع والتهديد خاصة للمقاومة، وتحريض الرأى العام الفلسطينى ضد فصائل المقاومة خاصة حماس وتشويه الحقائق فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والرد على الدعاية الفلسطينية للدفع نحو تقليص شعبيتها، فضلًا عن محاولة إثبات أن الفلسطينيين غير مؤهلين لإقامة دولة مستقلة تحقق الاستقرار فى المنطقة.

بالنسبة للمجتمع الإسرائيلى: لضمان تأييدهم فى حروبها المستمرة حتى تحقق أهدافها، ودعم الشعب للكيان الإسرائيلى، والاهتمام بمعنويات الشعب ضد أى تأثيرات سلبية، كذلك إثبات إدعاء أن فلسطين هى نقطة ارتكاز وتجمع يهود العالم.

بالنسبة للمجتمع العربى: للتشكيك فى مقومات الأمة العربية، وإحباط معنويات الشعوب العربية ومحاولة إثبات عدم قدرتهم فى التأثير نحو القضية الفلسطينية وخلق نوع من الزعزعة بين الشعبين الفلسطينى والعربى، وإثبات قدراتها وقوتها للعب عبر عرض إنجازات ومقومات الجيش الإسرائيلى.

بالنسبة للمجتمع الدولى: لكسب الدعم الدولى خاصة من القادة السياسيين فيما يخص سياستها داخل الأراضى الفلسطينية وشرعنة هجماتها العسكرية، وإثبات وجهة نظر متناقضة للشعب الفلسطينى على أنه ضحية عدوان إسرائيلى عنيف، وكسب تعاطف الرأى العام الدولى نحوها.

نشر الادعاءات الكاذبة وتزييف الحقائق

انتشرت الأخبار المضللة من جانب سلطة الاحتلال الإسرائيلى منذ اليوم الأولى من عملية “طوفان الأقصى” وتصاعدت بقوة مع إعلان العملية المضادة للعدوان الإسرائيلى على غزة والمعروفة باسم “السيوف الحديدية”، واستخدمت ما يعرف بالفظائع الدعائية لنشر أخبار كاذبة عن المقاومة الفلسطينية لتضخيم أعمال تلك المقاومة ووصفها بالوحشية، وذلك لإعطاء شرعية لعملياتها فى قطاع غزة، كما تلجأ إلى استخدام خاصية الذكاء الاصطناعى لتزييف الصور والفيديوهات واستخدامها ضد المقاومة لتشويه صورتها ونزع إنسانية الفلسطينيين فى نظر المجتمع الدولى، ومن أبرز تلك الإدعاءات الباطلة:

  • الادعاء بأن المقاومة اغتصبت النساء الإسرائيليات: جاء التصريح من جانب الصحيفة الأمريكية “لوس أنجلوس تايمز – Los Angeles Times” عبر مقال بعنوان “من هو المسؤول عن هجوم حماس على إسرائيل؟ هذا النقاش بدأ يخرج عن السيطرة” لتناقش فيه جرائم الاغتصاب التى ارتكبتها المقاومة، ثم عاد لحذف هذا الخبر والاعتراف بأنه لم يثبت حدوثه وغير واقعى.
  • الادعاء بقطع رؤوس الأطفال: جاء هذا الادعاء من جانب “بنيامين نيتنياهو” وكرره المسؤولون الغربيون، حيث تم استخدام الذكاء الصناعى لنشر صورة لطفل إسرائيلى محترق، كما نشرت قناة إسرائيلية خبر العثور على جثث لـ40 طفلًا إسرائيلى مقطوعى الرؤوس، وانتشر الخبر بصورة واسعة حتى أصبح حقيقة مطلقة بالنسبة لمؤيدين إسرائيل وجاء تفاعلهم فى صورة خطاب للتحريض على إبادة قطاع غزة.

وقد وثق المركز العربى لتطوير الإعلام الاجتماعى “حملة” تضم حوالى 19 ألف منشور لمحتوى باللغة العبرية على منصة إكس (تويتر سابقًا) يحرض على الكراهية والوحشية ضد الفلسطينيين منذ اليوم الأول من عملية “طوفان الأقصى”، كما  أكد المركز أن تلك الخطابات تتصاعد على جميع وسائل التواصل الاجتماعى، ومن الحالات التى تم رصدها بلغت فيها من خطابات الكراهية والإدعاءات المضللة نسبة 50% و30% على التوالى من المحتوى الزائف فضلًا عن خطابات العنف والتحريض.

تحجيم المحتوى المناهض

حاولت الأجهزة الدعائية المختلفة لسلطة الاحتلال الإسرائيلى بمساعدة الأجهزة الغربية العمل على خلق نوع من الرقابة وحجب المحتوى المؤيد للفلسطينيين والأحداث الراهنة بشكل عام، والتى تعكس وقائع القصف العنيف ضد الفلسطينيين على منصات السوشيال ميديا مثل فيسبوك وانستغرام عن طريق حجب صفحات إعلامية وحسابات شخصية وحذف بعض، مع إطلاق صور وتدوينات غير موثوقة ومضللة ضد الفلسطينيين وتدعو إلى قتلهم وإبادتهم وتدمير قطاع غزة، وتعطى رئيس سلطة الاحتلال (بنيامين نتنياهو) الشرعية فى الدفاع عن النفس والانتقام للإسرائيليين عن طريق ارتكاب مجازر فى القطاع بأكمله.

وبطبيعة الحال تستغل إسرائيل المشهد الحالى فى استمرارية الضغط على شركات التواصل الاجتماعى “ميتا، تيك توك، إكس” لكسب تعاطف المجتمع الدولى تجاهها ومجابهة الحقيقة، والحرص أن تلك المنصات تعكس أجندتها التى تحث بالأساس على نشر خطابات الكراهية ضد الفلسطينيين ومن يؤيدهم.

ولعل تحذير إسرائيل ومعها الاتحاد الأوروبى متمثل فى المفوضية الأوروبية للمنصات الاجتماعية بضرورة ضبط نشر المعلومات المضللة والتدوينات الداعية إلى العنف ضد المقاومة الفلسطينية، وذلك بعد مؤشرات تلقتها خدمات المفوضية الأوروبية بانتشار محتوى إرهابى وعنيف وخطاب كراهية ضد الإسرائيليين وفقا لمزاعمهم، وعليه دعا مفوض الاتحاد الأوروبى (تييرى بريتون) مؤسس منصة “إكس/ تويتر سابقًا” (إيلون ماسك) قائلًا: “المحتوى المتداول عبر الإنترنت والذى يمكن أن يرتبط بحماس، يعد محتوى إرهابيًا وهو غير قانونى، ويجب إزالته بموجب قانون الخدمات الرقمية، واللائحة التنظيمية للحد من المحتوى الإرهابى عبر الإنترنت”.

وفى خضم تلك المواجهة وضع إيلون ماسك و(ليندا ياكارينو) الرئيسة التنفيذية لشركة “إكس” قائمة بالقواعد العامة للمنصة والإجراءات التى اتخذتها الشركة ضد المحتوى غير القانونى لعشرات الآلاف من المنشورات، وحذف الحسابات المرتبطة بحركة حماس.

تسييس المصطلحات

كانت وما زالت اللغة جزءًا من من الاستعمار الإسرائيلى لتوظيف مصالحها وتبرير احتلالها لأرض ليست من حقها، والتشنيع بالخصم فى خطاباتها خاصة من جانب الساسة الإسرائيليين بوصف الفلسطينى بأنه إرهابى وانتقامى ومذنب وليس ضحية، وتصاعد الاعتماد على تلك الآلية عبر الانتفاضات الفلسطينية المختلفة التى وصفتها بأنها أعمال عنف فلسطينية موجهة ضد الإسرائيليين كانتفاضة الحجارة 1987، وانتفاضة الأقصى 2000، وانتفاضة القدس 2015، وفى الأحداث الأخيرة يظهر التناقض الواضح فى المصطلحات بين الخطاب الإعلامى الإسرائيلى والفلسطينى، حيث حاولت السلطة الإسرائيلية استخدام إسقاطات سياسية داعمة لأجندتها وتبرير القصف داخل فطاع غزة كتشبيه “طوفان الأقصى” بهجمات 11 سبتمبر عام 2001، وتشبيه حركة “حماس” بتنظيم داعش، كذلك تشبيه “المقاومين الفلسطينيين” بالنازيين، و”عمليات التوغل واقتحام المدن الفلسطينية” بالعمليات الوقائية.

كذلك حاولت سلطة الاحتلال دوما توظيف مصطلح “الصراع” الذى يحول الأرض المحتلة إلى أرض متنازع عليها، والمستوطنين إلى السكان الإسرائيليين، والمستوطنات إلى أحياء، والانتهاكات والمجازر الإسرائيلية إلى القتل بغرض الدفاع عن النفس، وغيرها من المصطلحات والعبارات على سبيل المثال إن إسرائيل واحة للديمقراطية الغربية فى وسط عالم عربى متقلب، والفلسطينى هو المعتدى والإسرائيلى هو المعتدى عليه وأن الفلسطينيين بدأوا الحرب والإسرائيليين يدافعون عن أنفسهم، فضلًا عن عكس الحقوق التاريخية المطلقة للمستوطنين والإغفال المتعمد لحقوق الفلسطينيين، ومن ثم يخدم كل ما سبق هدف إسرائيل فى اندثار أحقية الفلسطينيين وشرعيتهم فى الوطن ومطالبهم بالعودة إلى أرضهم.

الاستهداف الممنهج للصحفيين

يحاول الاحتلال الإسرائيلى استخدام آلية استهداف الصحفيين ومقرات المؤسسات الإعلامية لحجب نقل الصورة الواقعية من الانتهاكات والعنف والضغط الممارس من قبل سلطة الاحتلال على الشعب الفلسطينى بصورة مستمرة، فتشير الإحصائيات إلى أن هناك أكثر من 144 صحفيًا فلسطينيًا وأجنبيًا تعرضوا لاعتداءات جيش الاحتلال خلال تغطيتهم الأحداث بفلسطين المحتلة خلال السنوات الأربع الأخيرة، وتضمنت الاعتداءات إطلاق النيران والقنابل الصوتية والقنابل المسيلة للدموع أشهرهم مراسلة قناة الجزيرة (شيرين أبو عاقلة) التى تم اغتيالها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلى برصاصة فى الرأس، أثناء تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين، وأثار اغتيالها ردود فعل واسعة على المستوى الداخلى والخارجى، ومن أبرز الصحفيين والصحفيات الذين استشهدوا منذ إطلاق عملية طوفان الأقصى (سعيد رضوان الطويل)، و(محمد رزق صبح)، و(إبراهيم لافى)، و(محمد الصالحى)، و(سلام ميمة)، و(أسعد شملخ).

مما سبق؛ إن الفضاء الافتراضى التى تستخدمه السلطة الإسرائيلية المحتلة لعكس وتزييف الواقع عبر المعلومات المغلوطة والمضللة لتقديم نفسها على أنها ضحية وليس معتدية، وتبرير انتهاكاتها الممارسة ضد حقوق الفلسطينيين والتى تخالف قواعد القانون الدولى وحقوق الإنسان، ولكن لا تُحاسب على تلك الانتهاكات بل تتمادى فى عنفها وسياستها الققهرية وتدميرها لمربعات سكنية تسببت فى مقتل عائلات بأكملها، الأمر الذى يستوجب تكاتف وتوحيد الفصائل والشعوب التى تعلم حقيقة هذا الاعتداء، بل وتستمر فى حملتها المناهضة ضده للتعبير عن آرائها بكافة السبل دون توقف أو إحباط جراء السياسة القمعية لتضليل واختزال الواقع.

كلمات مفتاحية