علاقة تبادلية: التغيـرات المناخية والصراعـات فى إفريقيا

إعـداد: ميار هانى 

باحثة فى الشأن الدولى 

تشهد قضية التغيرات المناخية حضورًا قويًا على الساحة الدولية فى الوقت الراهن، خاصةً مع استضافة الإمارات العربية المتحدة لمؤتمر الأطراف التابع لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية “COP28″، وذلك بعد تحولها من كونها واحدةً من التهديدات التى قد تواجه البشرية فى المستقبل البعيد إلى قضية مصيرية تستدعى التحرك العاجل للتصدى لها، وقد برز بوضوح خلال الآونة الأخيرة أن ثمة علاقة بين التغيرات المناخية وتفاقم الصراعات، وهو الأمر الذى يستحق الدراسة عن كثب، وفى هذا الإطار، تسعى هذه الورقة للوقوف على طبيعة العلاقة بين التغيرات المناخية والصراعات، مع تسليط الضوء على الحالة الإفريقية، وذلك على النحو التالى:

رؤى مـخـتـلـفـة

اختلفت الرؤى فيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين التغيرات المناخية والصراعات والحروب، وفيما يلى يمكننا أن نميز بين ثلاثة اتجاهات فى هذا الشأن:

الاتجاه الأول:

ينظر أنصار هذا الاتجاه لطبيعة العلاقة بين الطرفين باعتبارها علاقة تأثير مباشر، فكلما تزايدت حدة التغيرات المناخية، زادت الصراعات المسلحة على المستويين الداخلى والخارجى؛ إذ تؤول التغيرات المناخية الحادة إلى تحولات عدة فى أماكن الموارد الطبيعية من الأراضى الصالحة للزراعة والمياه العذبة وهطول الأمطار، وهو ما يقود الأشخاص والجماعات للبحث عن سبل لاستدامة البقاء من خلال السيطرة على مناطق توافر تلك الموارد، ومن ثم زيادة حدة التنافس واشتعال الصراعات العنيفة.

ووفقًا لدراسات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 40% من الصراعات الداخلية المسلحة، خلال الأعوام الستين الماضية، ارتبطت بالتنافس على امتلاك الموارد الطبيعية، وخلال أحد جلسات مجلس الأمن لمناقشة الأسباب الجذرية للصراعات، أشار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش إلى دور الموارد الطبيعية فى إشعال النزاعات، قائلًا: إن «استغلال الموارد الطبيعية أو التنافس على امتلاكها، يمكن أن يؤديا إلى نشوب الصراعات العنيفة».

الاتجاه الثانى:

يرى أنصار هذا الاتجاه عدم وجود علاقة مباشرة بين الطرفين، بل إن التغيرات المناخية هى عامل ضمن مجموعة من العوامل التى تسهم فى حدوث الصراعات، ومنها على سبيل المثال: انخفاض معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هشاشة مؤسسات الدولة، تراجع قدرة الدولة على احتواء الأزمات؛ وبالتالى فالتغيرات المناخية عندما تتفاعل مع الضغوط الأخرى الموجودة فى سياق معين، يمكن أن تزيد من احتمالات اندلاع النزاعات العنيفة.

الاتجاه الثالث:

يرى أصحابه أن العلاقة بين الطرفين هى علاقة عكسية، بمعنى أن التداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية قد تؤدى فى كثير من الأحيان إلى التعاون والتكامل وتجنب النزاع، وعلى سبيل المثال: فقد أدى زلزال “تسونامى” عام 2004 إلى تعاون وتكاتف دول جنوب شرق آسيا بشكل خاص، والمجتمع الدولى بشكل عام لتجنب أضراره.

وعليه، يتمثل الطرح الملائم هنا فى رؤية أكثر اعتدالًا، تنظر إلى العلاقة بين التغيرات المناخية والصراعات باعتبارها علاقة ارتباطية وليست سببية، فهى لا تمثل فى حد ذاتها سببًا صريحًا لاندلاع النزاعات، لكنها تعد أحد العوامل المحفزة له.

عـلاقـة تـبـادلـيـة

كيف يؤثر تغير المناخ على الصراع؟

أولًا: تصاعد الحروب الأهلية:

تُسهم التداعيات الناجمة عن التغيرات المناخية، كارتفاع درجات الحرارة والجفاف والفيضانات.. إلخ، وتأثيرها فى الموارد الطبيعية، إلى جانب مجموعة من العوامل متمثلة فى تردى الأوضاع الاقتصادية والهشاشة السياسية والضغط الديموغرافى، فى تقويض قدرة الدولة على الوفاء باحتياجات المواطنين الأساسية المتمثلة فى الغذاء والماء والطاقة وغيرها، فضلًا عن تنامى ضعفها، مما يؤدى إلى اشتعال الصراعات الداخلية، وهو الأمر الذى من الممكن أن يتحول إلى حرب أهلية، وبالتالى قد يمثل التغير المناخى تحديًا قويًا لاستقرار الدول.

وقد أشارت دراسة شاملة أجراها مجموعة من الباحثين عام 2009، حول العلاقة بين التغيرات المناخية ومخاطر الصراعات الأهلية فى إفريقيا، إلى وجود علاقات تاريخية قوية بين تصاعد الحروب الأهلية والاحترار فى إفريقيا، إذ سجلت السنوات ذات المعدلات المرتفعة من الاحترار زيادة فى تصاعد العنف والصراعات.

ووجد تقرير صادر فى عام 2020، أن احتمال نشوب النزاعات أعلى فى المناطق التى يعيش فيها الرعاة والمزارعون على مقربة من بعضهم البعض، إذ يمكن أن يؤدى ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1 درجة مئوية إلى زيادة بنسبة 54٪ فى خطر الصراع بين المزارعين والرعاة، وفى المناطق التى لا تتعايش فيها المجموعتان، ينخفض الخطر إلى 17٪.

ويأتى فى مقدمة تلك الصراعات، الصراع فى نيجيريا، إذ لا تعود جذور التوترات بين “رعاة الفولانى”،  ومعظمهم من المسلمين، والمزارعين ومعظمهم من المسيحيين، إلى الأزمات البيئية، ومع ذلك، فإن تقلص الأراضى المتاحة للزراعة والرعى أدى إلى تفاقم الاحتكاكات القديمة، فقد تسبب هذا الصراع فى مقتل أكثر من 3600 شخص خلال ثلاثة أعوام فقط، كما وصل ذلك النزاع إلى ذروته فى النصف الأول من العام نفسه، ليسجل ما يزيد على 1300 قتيل وفقًا لمجموعة الأزمات الدولية، وهو ما يتجاوز 6 أضعاف التداعيات الناجمة عن عمليات تنظيم “بوكو حرام” فى نيجيريا فى المدة نفسها.

ووفقًا لمؤشر الدول الهشة لصندوق السلام، فإن منطقة القرن الإفريقى تشمل بعضًا من أكثر الدول ضعفًا فى العالم – الصومال وإثيوبيا وإريتريا وكينيا والسودان وجنوب السودان، وتُظهر المنطقة جزء من أوضح المؤشرات على العلاقة بين تغير المناخ والصراع – أى الصراعات بين المجتمعات الزراعية والرعوية التى ترسبها الجفاف المناخى والتقلبات المائية.

وتثير مناطق شمال وشرق مالى، وشمال بوركينا فاسو، وشمال وشمال غرب النيجر، ومنطقة بحيرة تشاد قلقًا خاصًا، حيث تشهد كل منها تصاعدًا حادًا فى العنف نتيجة للصراعات بين الرعاة والمزارعين.

ثانيًا: خلق بيئات حاضنة للإرهاب:

وفقًا لما طُرح من تأثير التغيرات المناخية على الموارد الطبيعية، إلى جانب مجموعة من العوامل الأخرى، وتسببها فى هشاشة الدول وزيادة فرص الصراعات؛ فإن النتيجة المحتملة هنا هى تحول هذه المناطق إلى بيئة خصبة للإرهاب.

إذ يُسهل ذلك للمنظمات الإرهابية ممارسة نفوذها فى ظل البيئات الهشة المتأثرة بالصراعات، بل وتسعى لتعويض ما خلفته الدولة من نقص فى الخدمات الأساسية من أجل الحصول على الشرعية من قبل المواطنين، ومع انعدام الأمن الغذائى أو ندرة المياه، يصبح المواطنون أكثر عرضة للتجنيد من قبل المنظمات الإرهابية مقابل توفير سبل عيش بديلة.

ففى حوض بحيرة تشاد، على سبيل المثال، يتنافس حوالى 30 مليون شخص فى نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون على مصدر المياه المتقلص بشكل كبير، والذى فقد نحو 90% من مياهه السطحية منذ عام 1960، وقد أسهم ذلك فى زيادة عمليات الاختطاف والقتل ونمو المنظمات الإرهابية، مما جعل 10 ملايين شخص بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، وقد أعلن رئيس تشاد بوضوح فى الأمم المتحدة أن “واحة الصحراء” هى مجرد صحراء الآن يتصارع المزارعون والرعاة على المياه القليلة المتبقية بها، ويهاجر الرعاة بحثًا عن مراعى أكثر خضرة مما يؤدى إلى صراعات، شبابنا ينضمون للجماعات الإرهابية بسبب قلة الوظائف والظروف الاقتصادية الصعبة”.

وفى شمال شرق نيجيريا، حيث يعيش أكثر من 50٪ من السكان على الزراعة وصيد الأسماك والإنتاج الحيوانى، أدى الجفاف المتزايد إلى القضاء على العديد من سبل العيش مما جعلهم عرضة للتجنيد من قبل “بوكو حرام”.

وفى مالى وبوركينا فاسو والنيجر، استغلت الجماعات الجهادية فى الآونة الأخيرة التنافس بين الرعاة والمزارعين على الأرض والمياه لأغراض التجنيد والضرائب الخاصة.

ووفقًا لدراسة حديثة أجراها “ماركوس كينغ” من جامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة عام 2017، يناقش كيف كانت الصومال عرضة بشكل خاص لهذه العلاقة بين المناخ والصراع وتسليح المياه، من خلال تغيير جماعة “الشباب” الجهادية تكتيكاتها التقليدية فى حرب العصابات والبدء فى قطع مصادر المياه عن المدن المحررة حتى يتمكنوا من إظهار نوعًا من القوة والوجود على الأقل.

كيف يؤثر الصراع على المناخ؟

أولًا: عواقب مناخية ضارة:

تعد الصراعات أحد الأسباب وراء حدوث التغيرات المناخية، وذلك من خلال استخدام الأسلحة الثقيلة أو المجرَّمة دوليًا، كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية، أو من خلال تدمير البنية التحتية، كالمنشآت النفطية والمنشآت الصناعية والصرف الصحى وغيره، والتى تتسبب بدورها فى تدمير الأنظمة البيئية الموجودة من خلال تلوث المياه والتربة أو إطلاق الملوثات فى الهواء، وقد أدى ذلك إلى تخصيص منظمة الأمم المتحدة يوم السادس من نوفمبر من كل عام باعتباره يومًا دوليًا لمنع استخدام البيئة فى الحروب.

وعلى سبيل المثال، أدى الصراع فى إثيوبيا بين جبهة تحرير شعب “تيغراى” والجيش الإثيوبى إلى إزالة جزء كبير من الغطاء النباتى،  وهو الأمر الذى سيؤثر على الصمود أمام تغير المناخ.

ثانيًا: تقويض قدرة الدولة على التعامل مع تغير المناخ:

كما يؤدى النزاع المسلح إلى تدمير النشاط الاقتصادى والبنية التحتية الحيوية.. إلخ، هو ما يتسبب فى تآكل القدرة المحلية على مواجهة المخاطر البيئية والتكيف معها، وبالنظر إلى التأثير القوى للصراع على القدرة على التكيف، فمن المقلق للغاية أن الصراع العنيف آخذ فى الازدياد فى إفريقيا، وينظر بالفعل إلى القارة على أنها الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ.

الـخـاتـمـة:

على الرغم من كون القارة السمراء أقل المساهمين فى الانبعاثات الكربونية بنسبة لا تتجاوز الـ٤% من الانبعاثات العالمية، إلا أنها الأكثر عرضة لتبعات التغيرات المناخية، والتى تتسبب فى تفاقم الأسباب التقليدية للصراعات، فضلًا عن خلق بيئة يمكن أن تزدهر فيها التنظيمات المسلحة، وتفتح لها المجال أمام مزيدٍ من التمكن والنفوذ، وعلى الصعيد الآخر، فإن الصراع العنيف يضعف المجتمعات والبلدان بحيث لا تكون فى وضع يمكنها من مواجهة المخاطر البيئية والتكيف معها، فضلًا عن كونه أحد الأسباب وراء حدوث التغيرات المناخية.

وعليه، إذا ما لم نستثمر أكثر فى دعم تلك المجتمعات الموجودة فى الخطوط الأمامية لحالة الطوارئ المناخية، للتكيف بشكل أفضل والاستعداد للزيادة التى لا مفر منها فى الظواهر الجوية المتطرفة، فمن المحتمل أن تكون هناك زيادة فى الظروف المسبقة لحدوث الصراع والعنف، وتُجدر الإشارة إلى أن التكيف الناجح مع المناخ مستحيل فى غياب السلام، من دون السلام على أرض الواقع، ستكون الإجراءات الرامية إلى معالجة مخاطر المناخ مقيدة وغير فعالة، فينبغى النظر إلى بناء السلام على أنه الخطوة الأولى والأكثر أهمية نحو معالجة مخاطر المناخ المعقدة.

كلمات مفتاحية