عواقب جسيمة…ماذا بعد بدأ المرحلة الثانية لانسحاب بعثة “مينوسما” من مالى؟

إعداد: جميلة حسين 

تدهورت العلاقة بين بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام فى مالى وبين المجلس العسكرى الانتقالى بعد انقلابين عسكريين متتالين فى مالى منذ عام 2020 وذلك بعد عدد من الاتهامات الأممية للسلطات فى مالى بالتورط فى العديد من الهجمات الدموية التى شهدتها مالى، وكذلك الاتهامات المتبادلة من جانب الانقلابيون بالعجز الأممى عن التعامل مع التحدي الأمني الذى يواجه الدولة وتأجيج التوترات الطائفية، فضلاً عن انتهاك السيادة و التدخل فى عمل السلطات، الأمر الذى جعل السلطات العسكرية المؤقتة  فى مالى تطالب بالسحب الفورى للبعثة فى غضون 6 أشهر وهو ما أثار غضب دولى واسع حيث وصفتها الأمم المتحدة بأنها عملية “معقدة وطموحة”، وبعد مرور المرحلة الأولى وانسحاب حوالى 1100 من أصل 15 ألف جندى جاء الوقت لتعلن فيه الأمم المتحدة عن بدء المرحلة الثانية وهى الأصعب على حد وصفها لوجيستياً وأمنياً.

ماهية بعثة “مينوسما”؟                                     

قام مجلس الأمن فى عام 2013 بإنشاء بعثة “مينوسما” بغرض المساهمة فى حفظ الأمن والاستقرار فى مالى كذلك دعم الجهود الخارجية والداخلية لاستعادة الاستقرار ودعم العمليات السياسية والأمنية فى البلاد، وذلك من خلال قوة بلغ عددها حوالى 15 ألف عنصر من بين عناصر عسكرية ومدنية بالإضافة إلى متطوعين وموظفين محليين وآخرين من الأمم المتحدة، ومن أبرز عشر دول مساهمة بقوات عسكرية على الترتيب هي “تشاد، وبنجلاديش، ومصر، والسنغال، والنيجر، وكوت ديفوار، وتوجو، وغينيا، وبوركينا فاسو، وألمانيا”، وتعتبر بعثة “مينوسما” من البعثات الأممية كبيرة العدد، فضلا عن كونها أغلى بعثة سلام للأمم المتحدة حيث تبلغ ميزانيتها  1.2 مليار دولار.

بعد صدام السلطات بالبعثة طلب المجلس العسكرى فى مالى بإنهاء جهود البعثة فى البلاد، صوت صوت مجلس الأمن الدولى بالإجماع على الإنهاء الفورى لقوات حفظ السلام فى الأراضى المالية وفقاً للقرار رقم (2690) فى 30 يونيو الماضى، ووضع خطة للانسحاب المنظم بحلول نهاية العام الحالى وذلك بالتشاور مع الحكومة الانتقالية في مالي وبالتنسيق مع الدول المساهمة في البعثة وبعد انتهاء المرحلة الأولى من الانسحاب التى أدت إلى خروج 1100 عنصر من المشهد المالى، تبقى 4 أشهر لإعادة حوالى 13 ألف عنصر إلى وطنهم وفصل 1786 موظفا مدنيا وفقا لمصادر الأمم المتحدة، فضلاً عن نقل شحنة مكونة من حوالي 5500 حاوية بحرية من معدات الوحدات والتابعة للأمم المتحدة وحوالي 4 آلاف مركبة، وإغلاق وتسليم 12 معسكرًا وقاعدة عمليات مؤقتة للسلطات المدنية المالية، ومن أبرز القواعد للبعثة متواجدة فى “تيساليت” و”أغيلهوك” و”كيدال” في الشمال، و”دوينتزا” و”موبتي” في الوسط، و”أنسونغو” في الشرق.

تداعيات الانسحاب

تكثيف التواجد الإرهابى فى مالى:

اتاحت الأزمة السياسية فى مالى وخروج القوات الفرنسية من المشهد الفرصة للجماعات الإرهابية التى يقع على رأسها تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين” التابع لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش “ولاية الصحراء الكبرى” لبسط نفوذها وتحقيق مكاسب سياسية ومالية، ليأتى خروج البعثة الأممية ليزيد من الأمر سوءاً ويخلق حالة من الفراغ الأمنى خاصة فى ظل صعوبة تغطية القوات المالية جميع المناطق مما يتطلب وجود قوات نظامية مسلحة للحفاظ على الأمن واستقرار المواطنين، ليفسح المجال أمام تلك الجماعات المتطرفة لمزيد من شن الرعب والهجمات الدموية التى شهدتها الساحة المالية أمام تنامي قدراتهم التنظيمية وقدرتهم على استهداف مناطق حيوية، فقد شهد مطلع هذا الشهر هجومين إرهابين منفصلين ينسبوا إلى تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين في منطقة بامبا بين غاو وتمبكتو أدت إلى قتل حوالى 64 شخص منهم 49 مدنيا و15 جنديا واعتبرت تلك الهجمات الإرهابية هي الأكثر عنفاً وتنظيماً.

تعميق الاتجاه السياسى والعسكرى نحو روسيا:

ينظر المجلس العسكرى الانتقالى فى مالى إلى روسيا كبديل للحلفاء الغربيين ومصدر للدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى، فى الوقت التى تستغل روسيا علاقتها بمالى من أجل تعزيز وجودها العسكرى فى المنطقة عبر توظيف عناصر الدعم لها ويظهر أبرزها فى نشر عناصر من مجموعة فاجنر التى بلغ عددها حوالى ألف مقاتل. وعلى الرغم من صعوبة تأكيد وجود اتفاق رسمى بين قوات فاجنر الروسية والحكومة الانتقالية فى مالى، على غرار ما حدث فى جمهورية إفريقيا الوسطى، ولكن من المتوقع تطور العلاقات الروسية المالية خلال الفترة المقبلة خاصة فى مجالات التعاون الأمنى والعسكرى لتعزيز قدرات الجيش المالى. وبعد وفاة قائد فاغنر (يفغيني بريجوجين) تعهدت روسيا أمام الأمم المتحدة بمواصلة تقديم مساعدة شاملة إلى مالي مواجهة التمرد والهجمات الإرهابية التى يشنها المتطرفون.

على صعيد أخر قامت روسيا بإنهاء كل العقوبات الأممية المفروضة الهادفة لحماية اتفاق السلام لعام 2015 في مالي من خلال استخدامها لحق “الفيتو” ضد تجديد نظام العقوبات الذى انتهى فى نهاية الشهر الماضى، وكان يشمل حظر سفر وتجميد أصول ضد ثمانية من الماليين المدرجين على القوائم السوداء للأمم المتحدة لتهديدهم جهود السلام،  الأمر الذى خلق حالة من التوتر من جانب الأمم المتحدة فى مقابل قيام لجنة الخبراء التى تعتبر” مصدراً مركزياً للمعلومات حول الوضع في مالي” باتهام روسيا بأنها تريد إلغاء تفويض اللجنة من أجل  نشر الحقائق غير المريحة حول تصرفات فاغنر في مالي من خلال مشاركتهم فى القتال.

انعاكاسات على اتفاق الجزائر:

من شأن انسحاب البعثة الأممية فى مالى التأثير على  اتفاق السلم والمصالحة المعروف ب”اتفاق الجزائر” الذى وقع فى عام 2015 بين حكومة مالي المركزية والحركة العربية للأزواد (التنسيقية من أجل شعب الأزواد) من أجل إعادة بناء الوحدة الوطنية للبلاد على قواعد تحترم وحدة أراضيها وتأخذ في الاعتبار تنوعها الإثني، فى الوقت الذى يعانى فيه الاتفاق من خلخلة فى مضمونه نتيجة التوترات المتصاعدة بين السلطة العسكرية في مالي والجماعات الانفصالية المتمردة في الشمال الذين يتهموا السلطة العسكرية بـاستهداف مواقعهم وعدم التزام المجلس العسكرى بتنفيذ مطالبهم المرتكزة حول منح الحكم الذاتي لإقليم الأزواد، وإدماج المجموعات الأزوادية المسلحة في الجيش المالي وإعطاء الاهتمام بالمنطقة تنمويًا. ومن ثم في ظل انسحاب القوات الأممية وتهديد اتفاق الجزائر يشهد الوضع الأمنى فى الشمال نتيجة مأساوية بالتزامن من توسع نفوذ داعش وتنظيم نصرة الإسلام والمسلمين هناك، الأمر الذى يتوجب على السلطة العسكرية إجراء حوار فاعل مع الأزواديين.

التداعيات الإقليمية:

يؤثر هشاشة الوضع الأمنى فى مالى على منطقة غرب أفريقيا ككل فمع الانسحاب التدريجى للبعثة تتأثر الديناميكيات الأمنية في المنطقة مما ينعكس على  تفاقم التحديات الأمنية وتهديد الاستقرار الإقليمي فضلاً عن تمدد الجماعات المتطرفة وتوسيع عملياتها عبر الحدود مستهدفة الدول المجاورة  مثل بوركينا فاسو والنيجر فضلا عن الاتجاه نحو الدول الساحلية على خليجي غينيا مثل بنين، وغانا، وكوت ديفوار، والسنغال. مما يتطلب تدخل من جانب الاتحاد الأفريقى والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “الإيكواس” لتقديم الدعم لدولة مالى وانقاذ الوضع المتردى.

تداعيات أمنية على البعثة:

بدأ ظهور العديد من الصعوبات منذ تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الانسحاب فى شهر يوليو الماضى والتى انتهت بالانسحاب من قاعدة فى ميناكا الواقعة فى شمال شرق البلاد والتى احتاجت إلى 51 ساعة لقطع مسافة 57 كيلومترا للوصول إلى منطقة تمبكتو وذلك بسبب طبيعة المنطقة الوعرة  وموسم الأمطار وانعدام الأمن حيث تعرضت البعثة لهجومين، ومع بدء المرحلة الثانية من الانسحاب يتوقع التعرض لمزيد من الصعوبات الأمنية على البعثة خاصة مع ضيق الوقت الزمنى لإنهاء عملية الانسحاب بصورة تامة، وما يزيد من صعوبة الأمر التطورات فى دول الجوار خاصة النيجر التى شهدت انقلاب مؤخراً حيث تعتمد خطة الانسحاب على استخدام مناطق تستلزم المرور عبر النيجر.

دعم صينى مقابل تحذير أمريكى

دعا نائب مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة (داي بينغ) المجتمع الدولي لمواصلة تقديم الدعم لمالى بعد الانسحاب المقرر لبعثة “مينوسما” ومساعدة مالي على مواجهة التحديات بجميع أنواعها خاصة فى مجالات الحد من الفقر والتنمية والأمن الغذائي وحماية النساء والأطفال من أجل تحقيق السلام والاستقرار فى البلاد ومنطقة غرب افريقيا ككل ، كما أكد على ضرورة مواصلة مجلس الأمن لدعم العملية السياسية والأمنية فى مالى، وحث الوكالات الإنسانية الدولية على حجم المساعدات المقدمة لمالي وتجنب ربطها بأي شروط سياسية. ذلك بالتزامن مع إشادة الصين للجهود المبذولة من جانب السلطات المالية فى ظل أوضاع سياسية غير مستقرة تشهدها منطقة الساحل مؤخراً بجانب استغلال التنظيمات الإرهابية لهذا الوضع مما ينعكس على تهديد الأمن والاستقرار فى المنطقة.

من ناحية أخرى أثار ما تداول بشأن انسحاب البعثة غضب أمريكى وتحذيرات واسعة النطاق من جانبه للتداعيات الخطيرة المحتملة على خروج البعثة الأممية من مالى، وواقع الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت متواجد فى المشهد فى منطقة الساحل عبر تقديم دعم لوجيستى واستخباراتى لعملية برخان الفرنسية المتواجدة فى مالى بذريعة مناهضة القوى الإرهابية فى مالى قبل إنهاء مهامها وخروجها من البلاد. وما يعرقل التواجد الأمريكى فى  مالى فى الوقت الحالى ومساعدتها على الجبهة الأمنية أمرين الأول القوانين الأمريكية بشأن التعاون مع الحكومات غير المنتخبة، وثانيا قيام الحكومة الانتقالية فى مالى بتوطيد التعاون مع روسيا وخاصة مجموعة فاغنر.

مما سبق؛ يمثل انسحاب بعثة “مينوسما” من المشهد المالى مجموعة واسعة من التداعيات تؤثر بدورها على الوضع الأمنى وحالة عدم الاستقرار فى البلاد والدول المجاورة، ويزيد من معدلات العنف والدموية من جانب الجماعات الإرهابية مما يتسبب فى سقوط العديد من العناصر المدنية والعسكرية، فضلاً عن احتمالات مزيد من التقارب المالى الروسى فى ظل تراجع الدعم الغربى التقليدى. الأمر الذى يستلزم ضرورة انخراط المجتمع الدولى بشكل عام والأفريقى بشكل خاص من جانب الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “الإيكواس” ومجموعة الساحل الخمس ومبادرة أكرا،  لاتباع استراتيجيات بديلة لمواجهة التحديات الأمنية ومنع تصاعد التدهور الأمنى فى مالى وتعزيز التعاون الإقليمى فى منطقة غرب أفريقيا.

كلمات مفتاحية