فك الارتباط بين دوائر الأطراف والفاعلين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني

بقلم: عمّار ياسين محمّد، مُحامِ وباحث في دراسات السّلام والصّراع

انتهينا في تحليل ظاهرة الصّراع الدُّولي[1] إلى أنها وبالرغم من بناءها الدقيق سواءً من حيث النشأة أو الانتقال من محطّةٍ لأُخرى، لكن أطراف اللُّعبة  والفاعلين المُنخرطين فيها يُعوّل عليهم كثيراً في تحديد مسارها في الأجلين القريب والمُتوسّط على وجه التحديد. الآن، نُحاول فك الارتباط بين دوائر الأطراف و/أو الفاعلين المُنخرطين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني للقدرة على قراءة ما بين السّطور.

بالنّظر إلى حداثة الأدبيات المُعاصرة في حقل السّلام والصّراع، بدهيٌّ أن يكون هناك ربط ما في الحديث عن الأطراف والفاعلين ومدى تأثيرهم في الظواهر الصّراعية المختلفة، غير أنه في حالاتٍ عديدة، منها الحالة الرُّوسيّة-الأُوكرانية، تبرز أهميّة الفصل بين تلك الدوائر. فالأطراف (Parties) في الحالات الصّراعية باختلافها هُم الأركان الظاهرة فيه، طرفي الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني مثلاً هُما روسيا وأُوكرانيا، وطرفي الصّراع الصّيني-التّايواني هُما الصين وتايوان، وأطراف أزمة سد النهضة هُم دولة المنبع (إثيوبيا) ودول المصب (مصر والسُّودان) وهكذا، بحيث لا يستقيم الحديث عن حالة صراعية معينة من دون الإشارة المُباشرة و/أو غير المُباشرة لهم وللدور المفصلي الذي يؤدّونه؛ بغض النّظر عن مدى هذا الدّور وتأثيره.

أمّا الفاعلون (Actors) فهم المُنخرطون في الصّراع حتى ولو لم يكونوا جُزءً منه، فعلى سبيل المثال الولايات المُتحدة والصين، فاعلون وليسوا أطرافاً في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني، ومثلهم القوى الأُوروبية المُختلفة فضلاً عن الأنماط الحديثة وغير الشائعة من الفاعلون المؤثّرون في العديد من الحالات الصّراعية حول العالم مثل حلف الناتو في حالتنا تلك.

الفاعلون الدُّوليُّون (State Actors) والفاعلون من دون الدولة (Non-State Actors)

في العديد من الظواهر الصّراعية، مُجرد فصل دوائر الأطراف والفاعلين ليس كافياً لفهم أبعادها المختلفة، فحتى بعد الفصل نحتاج إلى الاقتراب أكثر ومعرفة حقيقة الأدوار الظاهرة والكامنة، مَن يقوم بماذا على وجه التحديد؟ مَن يستفيد من الحالة الصراعية وبالتالي يدفع نحو استمرارها وانتقالها من دائرة لأُخرى؟ ومن يرغب في إنهاء الصّراع لكنه غير قادر على ذلك؟ ومَن يقدر على ذلك ولكنه غير راغب في إنهاء الصّراع؟ التصوُّرات عديدة.

في هذا الصّدد، نجد أن الفاعلون الدُّوليُّون هُم كُل كيان دولي مُعترف به، مُنخرطٌ أو راغبٌ في الانخراط في حالة صّراعية معينة، سواءً أكان هذا الانخراط في صورة مادية في شكل مُساعدات مالية و/أو عسكريّة لطرفٍ على حساب آخر، أو كانت سياسيّة في صورة حشد دولي وتأييد قرارات أُممية، وغيرها.

الإشكالية الكبيرة هنا ليست في دائرة الفاعلون الدُّوليُّون، ولكن في دائرة الفاعلون من دون الدولة، والذين هم بطبيعتهم مُتنوّعون، ومُتعددون ومُتفاوتون في القوّة والقدرة على حسم المسار. ومن بين هؤلاء: الأُمم المُتحدة بأجهزتها المعنية بالمحافظة على الأمن والسِّلم الدُّوليين، المبعوثون الدُّوليُّون التّابعون للأُمم المُتحدة، الاتحاد الأُوروبي وحلف الناتو، صُندوق النقد الدولي، العديد من المُنظّمات الإقليميّة والدُّوليّة المعنيّة، شبكات المصالح في الداخل والخارج، حركات التمرُّد الداخليّة (انفصاليُّو لوجانسك ودونيتسك في أُوكرانيا، على سبيل المثال) وشركات الأمن الخاصّة العابرة للحدود (فاجنر وأفريكوم في إفريقيا)، وصولاً إلى الجماعات المتطرّفة (بوكو حرام في أنحاء متفرقة من إفريقيا)، والقائمة تطول.

وبالتّطبيق على الحالة الصّراعية الرُّوسيّة-الأُوكرانية نجد ثلاث سمات أساسيّة في دائرة الفاعلين:

السّمة الأُولى: هناك فاعلون دوليُّون مُنخرطون في الصّراع مثل: الولايات المُتحدة، الصين والاتحاد الأُوروربي وبيلاروسيا[2]، وفاعلون من دون الدولة مُنخرطون أيضاً في الصّراع، مثل: محكمة العدل الدوليّة[3]، وانفصاليُّو لوجانسك ودونيتسك في الداخل الأُوكراني.

السّمة الثانية: هُناك تعدُّد في أنماط الفاعلين، دوليّون ومن دون الدولة، إقليميّون ودوليّون، في الداخل والخارج.. إلخ. اتساع رقعة الفاعلين في الحالة الصّراعية الرُّوسيّة-الأُوكرانية إلى هذا الحد، يفتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول طبيعة أهداف ومصالح هؤلاء الفاعلين على اختلافهم.

السّمة الثالثة: هناك صور غير معتادة في دائرة الفاعلين المُنخرطين في مُجريات الأحداث على الأرض، انفصاليُّو الداخل في إقليمي دونيتسك ولوجانسك؛ مدعومون من طرف أساسيّ في الصّراع ويُحاربون طرفه الثّاني الأساسيّ كذلك. الأكثر غرابة في هذه السّمة بالذات هو اضطّرار الجيش الأُوكراني فتح جبهة إضافيّة وضرب إقليمي دونيتسك ولوجانسك الواقعين ضمن الحدود الداخليّة الخالصة، في ظل دعم الجيش الروسي للإقليمين الانفصاليين وتفاديه التعرُّض لأيّ منهما وسط هجماته.

وبالتالي، يجمع الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني كافّة التقسيمات[4] الخاصّة بالفاعلين سواءً من حيث المصالح ومدى الانخراط في الصّراع: رئيسيُّون، ثانويُّون وجانبيُّون/ خارجيُّون، أو من حيث المُستوى الذي يُمثّلونه في الصّراع: مُستوى قاعدي، مُستوى أوسط، ومُستوى قيادي. وهو ما يظهر صعوبة التنبُّؤ بمساراته أو الجزم بوجود نقطة تحوُّل إيجابية أو سلبيّة في مُجرياته.

 

ماذا تعني خريطة الفاعلين[5] وإلى ماذا تُشير؟

Snip20220324 51 فك الارتباط بين دوائر الأطراف والفاعلين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني

تعني خريطة الفاعلين، بحسب فيشر، وجود مُستويات فائقة من التّعقيد في مُختلف الحالات الصّراعية، مردّها إلى الأوزان النسبيّة لمُختلف الفاعلين بحسب القُرب أو البُعد من دائرة الصّراع، وكذلك بحسب القدرة على التأثير وطبيعة ونوع العلاقة حتى فيما بين الفاعلين أنفسهم. إنّ أحجام الدوائر على سبيل المثال تُشير إلى الوزن النسبي لكُل فاعل، والخط المُستقيم الممدود يُشير إلى العلاقة الجيّدة الممتدة من فاعل لآخر، والخطّين المُتوازيين يُشيران إلى وجود علاقة وطيدة قد تصل إلى حد التّحالف، والنّقاط تُشير إلى علاقة غير رسميّة أو مُتقطّعة بين الفاعلين، والسّهم يُشير إلى وجود نفوذ يُمارس من فاعل على آخر؛ بداية السّهم تُشير إلى الفاعل الأقوى ورأس السّهم تُشير إلى الفاعل الذي يُمارَس عليه نفوذ، أمّا الخط المُتعرّج فيُشير إلى وجود حالة صراعيّة بين طرفين فأكثر، ومثله الخط المُستقيم الذي يفصله خطّين متوازيين يُشير إلى علاقة مقطوعة أو مُنتهية بين طرفين أو فاعلين فأكثر، والمُستطيل يُشير إلى قضيّة الصّراع التي يدور حولها، أمّا ربع الدائرة الكبير فيُشير إلى وجود فاعل من القوّة بمكان إلا إنه يُتابع عن كثب ولم ينخرط بصورة ظاهرة في الصّراع.

 

لنعود مُجدّداً ونملأ خريطة الفاعلين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني!

Snip20220324 52 فك الارتباط بين دوائر الأطراف والفاعلين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني

لنبدأ بربع الدائرة غير المُكتمل، والذي يُمثّل قوّة ضاربة في الصّراع غير أنه يمكث بعيداً ليراقب عن كثب؛ ستحل فيها الصين بطبيعة الحال. أمّا الدائرة الأكبر في دوائر الاشتباك فستكون روسيا، والتي هي في حالة صراعيّة مع جارتها أُوكرانيا، وتُمارس نفوذاً على كُل من بيلاروسيا وإقليمي دونيتسك ولوجانسك الانفصاليين في الداخل الأُوكراني، مع ملاحظة النفوذ المُركَّب الذي يُمارَس بحق إقليمي دونيتسك ولوجانسك من قِبل روسيا وبيلاروسيا معاً، بحيث يظهر أن الإقليمين هما الحلقة الأضعف على الإطلاق. من ناحيةٍ أُخرى هناك تقارب شديد بين أُوكرانيا والاتحاد الأُوروبي ممثّلاً في حلف الناتو الذي تطمح في عضويته، والذي هو في الوقت نفسه في علاقة مقطوعة مع روسيا، وبين كُل هؤلاء توجد تُركيا، حيث إنّها لديها علاقة جيدة بكُل من روسيا والناتو وأُوكرانيا؛ ولهذا السّبب بالمناسبة سعت تُركيا للحيلولة دون تفاقم الصّراع وتقديم نفسها وسيطاً[6] لحلحلة الموقف.

أمّا قضيّة الصّراع في حالتنا تلك فبالغة التعقيد ويتوقّف الكاتب عن الإشارة إليها في عبارة مُحددة؛ وذلك لتعلُّقها بماضي وحاضر ومستقبل النظام الدولي الذي يمر بفترة أقرب إلى انتقالية، ليس مستقراً بما يكفي ولا يمكن أن يوصف بالمُتزعزع؛ أوقع ما يُمكن وصفه به هو غير المستقر.

يتّضح من الرّبط السابق عدّة نقاط:

النُّقطة الأُولى: أنماط الفاعلين المُنخرطين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني ليست واحدة.

النُّقطة الثانية: أدوار الفاعلين المُنخرطين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني ليست مُتشابهة.

النُّقطة الثالثة: أهداف الفاعلين المُنخرطين في الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني ليست مُتّسقة.

هذا، وعلى الرغم من القيمة الكبيرة لخريطة الفاعلين للتعرُّف أكثر على الفاعلين المُنخرطين في الصّراع وطبيعة علاقتهم ببعضهم البعض ومداها، إلا إنه من المهم الإشارة إلى ضرورة ملء أكثر من خريطة فاعلين بشكل دوريّ[7] وبالنظر لمُستجدات ما يجري على الأرض ودخول لاعبين جُدد أو التحوُّل في مواقف أيّ منهم تجاه القضيّة الصّراعية، وذلك للوقوف على ديناميّة (حركيّة) العلاقات فيما بين الأطراف و/أو الفاعلين، والتي هي دائمة التقلُّب بحسب المصالح.

وعلى ذلك، يرتبط فهم مآل الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني بدرجة كبيرة بفهم أبعاده المختلفة والدوائر المُتشابكة لأطرافه وفاعليه، وبالتالي إفساح المجال للحديث عن قضايا أُخرى متّصلة بقضيّة الصّراع المُحتدم، ومنها: طبيعة النّظام الدولي المُضطّرب في ظل المُستجدات الحالية وجدليّة أُحادية القطب أم ثنائيتها، أو الاعتماد على وجود حالة من التوازن المعقول في القوى الدولية المُصدّرة نفسها كمسؤول عن العالم وما يجري فيه.

 

المصادر:

[1] انظُر: “ظاهرة الصّراع الدولي بين النظرية والتطبيق: الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني أُنموذجاً”. ورقة بحثيّة للكاتب، منشورة بتاريخ 28 فبراير 2022: https://bit.ly/3hs7Fp3

[2] Tatsiana Kulakevich, 3 reasons Belarus is helping Russia wage war against Ukraine. The Conversation, March 3, 2022: https://theconversation.com/3-reasons-belarus-is-helping-russia-wage-war-against-ukraine-177984

[3] UN international court of justice orders Russia to halt invasion of Ukraine. The Guardian, March 16, 2022: https://www.theguardian.com/world/2022/mar/16/un-international-court-of-justice-orders-russia-to-halt-invasion-of-ukraine

[4] رانيا حسين خفاجة، مقرر تحليل الصّراعات، مُقرر غير منشور في تحليل الصّراعات، برنامج الدبلوم المهني في إدارة الصّراعات والأزمات، كُلية الدراسات الإفريقية العُليا، جامعة القاهرة، العام الدراسي: 2020-2021.

[5]  Herbert, S. (2017). Conflict analysis: Topic Guide. Birmingham, UK: GSDRC, University of Birmingham.

[6] Patrick Wintour, Erdoğan offers to mediate between Ukraine and Russia. The Guardian, Feb 3, 2022:

https://www.theguardian.com/world/2022/feb/03/turkish-president-erdogan-mediate-ukraine-russia

[7] رانيا حسين خفاجة، مصدر أُشير إليه سابقاً.

كلمات مفتاحية