قراءة في تطورات الأوضاع في السودان

إعداد : أكرم السيد 

وصل المشهد السياسي السوداني إلى انسداد واضح، وهذه المرة لا يتعلق الأمر بخلافات بين المدنيين والعسكريين كما كان الحال خلال السنوات التي أعقبت إسقاط نظام البشير، بل بدا الخلاف جليا هذه المرة بين طرفي المكون العسكري نفسه إن جاز التعبير. هذا الخلاف ظهر في تحركات لقوات الدعم السريع في أجزاء متفرقة من البلاد منذ أيام، نفت قوات الدعم السريع على إثرها الاتهامات التي وجهت إليها بأن المغزى من هذه التحركات هو التمهيد لبدء أعمال عسكرية.

لتثبت أحداث يوم أمس السبت، والتي شهدت صداما عسكريا مباشرا بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بأن قوات الدعم كانت تمهد لصدام مسلح مع الجيش السوداني. هذا الصدام  الذي نتج عنه إلى الآن مقتل العشرات من العسكريين والمدنيين على السواء فضلا عن إصابة المئات يضرب في مقتل فرصة التوصل إلى اتفاق سياسي كان قد ارتفعت الآمال المتعلقة بقرب التوصل إليه من أجل تحول مدني حقيقي سعت إليه عدد كبير من القوى السياسية السودانية طوال الأشهر الماضية، وتوسطت فيه قوى إقليمية ودولية عدة من أجل لم شمل الفرقاء السودانيين. وأمام هذا المشهد العبثي الذي لا منتصر في استمراره، فإن ثمة مصالح شخصية قد كشفت عنها هذه الأحداث بعيدة كل البعد عن المصلحة العليا للدولة السودانية، هذه المصالح الشخصية المشار إليها قد دفعت إلى لجوء قوات الدعم إلى ما لجأت إليه من مواجهة عسكرية مباشرة لا تسعى إلى إنهائها أو التوقف عنها حتى يتحقق النصر على حد قولها. فمن المعلوم أن من شأن انضمام قوات الدعم إلى القوات المسلحة السودانية فيما يعرف بالدمج، من شأن ذلك أن يجرد قوات الدعم من مختلف المزايا التي كانت تحصل عليها، وسيلزمها الانضمام إلى الجيش بأن تخضع إلى ضوابط وقوانين المؤسسة العسكرية السودانية، وكل ذلك لم تعتاد عليه قوات الدعم السريع منذ أن أنشأها عمر البشير في خضم حربه في إقليم دارفور لتقاتل بالنيابة عن الحكومة السودانية. إن قوات الدعم السريع أساسا من حيث النشأة والمهام لا يمكن اعتبارها “قاعدة” في المشهد السياسي بل “استثناءً” عن القاعدة، ففي بلد مثل السودان الذي يطمح بأن يصل إلى تحول ديمقراطي يعود بالنفع على كافة أفراد الشعب، لا يمكن تصور فكرة تعدد القوات العسكرية فيه، إذ أن الأساس هو وجود قوات مسلحة سودانية موحدة ومهنية، وما خلاف ذلك من قوات دعم سريع أو غيرها يجب أن يخضع إلى ضوابط ولوائح القوات المسلحة ضمانا لاستقرار وأمن البلاد. جديرٌ بالذكر أيضا أن استمرار التصعيد بين القوات المسلحة وقوات الدعم من شانه أن يُفقِد ثقة القوى السياسية في المكون العسكري بأكمله، فمن الطبيعي أن يكون المكون العسكري هو الضامن لأي تحول ديمقراطي مرتقب، إلا أن تصاعد المواجهة بين عناصر المكون العسكري يرسخ في أذهان القوى السياسية صعوبة أن يضمن المكون العسكري المرحلة الانتقالية وهو يخوض حربا ضد بعضه البعض. في المقابل فإن من شأن المواجهة الجارية الآن أن تصب في مصلحة القوى المدنية، حيث ستضفي هذه المواجهة على القوى المدنية “امتيازا أخلاقيا”، بمعنى آخر فإن أي اختلاف بين القوى المدنية وبعضها البعض لم يسفر قط عن مواجهات مسلحة، في حين أن الخلافات بين المكون العسكري قد أدت إلى مواجهة مسلحة لا نعلم هل ستتزايد وتيرتها أم سيتم احتوائها، هذه المفارقة سوف تزيد من تمسك القوى المدنية فيما بعد انتهاء المواجهات -طالت أم قصرت- بضرورة تولي سلطة مدنية زمام الفترة الانتقالية لحين إجراء انتخابات. واتصالا بالأحداث التي تشهدها البلاد، فقد جرت خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية ردود فعل من قوى إقليمية ودولية عديدة قد انخرطت في الفترة السابقة في جهود التسوية التي شهدتها السودان. وتمثلت ردود بلا استثناء في التنديد بما يجرى والمطالبة بالتهدئة والعودة إلى طاولة المفاوضات. ولعل أبرز ردود الأفعال، رد الفعل المصري الذي أدان ما يجرى من مواجهات قد تصل بالسودان إلى نفق مظلم. ونشير هنا إلى رد الفعل المصري على وجه الخصوص ردا على اتهامات قد حاول البعض إلصاقها بالقوات المسلحة المصرية كقوات الدعم السريع في السودان، والتي ربما تجد في توجيه الاتهامات لقوى خارجية فرصة لكسب موقف دعائي قد يجلب لها بعضا من الدعم الشعبي التي هي في حاجة إليه ليعزز من موقفها الحالي ويعطي لتصرفاتها الحالية شرعية هي في حاجة إليها. لكن على أية حال فإن استقرار السودان ووحدة مؤسسته العسكرية هي ما يهم مصر في المقام الأول، ووسيلتها في ذلك هو استخدام الأدوات الدبلوماسية والسياسية التي تعلي من لغة الحوار لا المواجهة، كنهجها الثابت في دعم استقرار دول الجوار شرقا وغربا. كذلك نود الإشارة إلى الموقف الأمريكي مما يجرى في السودان، والذي وإن بدا رافضا لما يجرى على الأرض من تطورات محتدمة، إلا أنه يبدو وأن الاهتمام الأمريكي بالملف السوداني ليس من أولويات الإدارة الأمريكية الحالية، بل ربما يأتي الملف السوداني في مرتبة أدنى في سلم أولويات الولايات المتحدة، حيث تعتمد واشنطن في هذا الملف على الوسطاء الإقليمين، وتعول على جهودهم في إحداث أي تقدم في المشهد. وبالعودة إلى ما يجرى في السودان، فإن جوهر الخلاف بين القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع معروفة، وقد أبدى كل طرف منهما شروطه كي تتم عملية دمج قوات الدعم إلى الجيش، لكن يبدو أن انضمام قوات الدعم إلى القوات المسلحة ليست على هوى قوات الدعم لما فيها من تجريد من الدور الفاعل في المشهد السياسي وما يصاحب ذلك من امتيازات، وهذا يفسر لنا لجوء قوات الدعم إلى الانتشار في أرجاء البلاد ومن ثم المواجهة، كورقة أخيرة يريد بها قائد قوات الدعم “حميدتي” أن يثبت بأنها طرف فاعل ومؤثر على الأرض، مما يعزز من موقفه التفاوضي في حالة تم الاحتكام مرة ثانية إلى طاولة المفاوضات. وعلي أية حال فإن الزعم حول لمن تكون الغلبة على الأرض أمر قد يكون من المبكر حسمه الآن، لاسيما في ظل تضارب البيانات التي يصدرها الجيش السوداني وقوات الدعم بين الحين والآخر، لكن من الناحية العملية فإن الكفة تميل إلى صالح الجيش السوداني نظرا لتفوقه الكمي والنوعي. وبشكل عام، فإننا أمام مسارين للوضع الجاري، إما التهدئة ونجاح جهود الوساطات -التي بدأت بالفعل- في أن تصل إلى وقف لإطلاق النار، وإما أن يتواصل التصعيد بين الجيش وقوات الدعم، وهو ما تدعم احتماليته الأوضاع الميدانية إلى الآن، وفي هذه الحالة فإن مستقبلا غامضا ينتظر السودان، سوف يزيد الأوضاع في السودان تعقيدا فوق تعقيد.

كلمات مفتاحية