قراءة في رسائل مونديال قطر 2022

إعداد : رضوى الشريف

كرة القدم هي ظاهرة ثقافية أصبحت مع الوقت أداة مهمة لتحفيز الحقائق الاجتماعية، والممارسات المتعلقة بالهويات، ووسيلة لتمرير الأيديولوجيات والفلسفات الجديدة، وهذا بالفعل ما قدمته قطر باستضافتها لبطولة كأس العالم لكرة القدم هذا العام.

عندما أُعلن أن قطر ستستضيف أول بطولة لكأس العالم لكرة القدم في الشرق الأوسط والعالم العربي، كان رد فعل الكثير على مستوى العالم سلبًا في البداية، وذلك بسبب الجدل القائم حول ملفات حقوق الإنسان والعمالة الخارجية هناك، لكن الدوحة أحرزت تقدمًا في قضايا حقوق الإنسان واتخذت خطوات مبكرة لإصلاح نظام التوظيف، وهذا بالفعل ما أكده رئيس اتحاد كرة القدم “الفيفا”، جياني إنفانتينو، الذي كان أكثر وضوحا وحسما في التصدي للهجوم الذي يتعرض له المونديال في قطر، وطالب أن يعتذر الأوروبيون للشعوب، بدل إعطاء الدروس، مُعتبرا أن الشعارات، والدروس الأخلاقية تنمُّ عن نفاق، مُذكرا أن وضع العمال في قطر أفضل من ظروف المهاجرين في أوروبا. كما تضاءلت الاتهامات التي لاحقت تنظيم البطولة، حيث شيدت المديرة الإقليمية لمنظمة العمل الدولية، ربا جرادات، بإصلاحات سوق العمل في قطر، مؤكدة إنها نُفذت بوقت قياسي.

وعلى هامش استعدادات قطر لاستضافة كأس العالم، ابهرت الدوحة العالم منذ اليوم الأول للمونديال، وأثبت أنها كدولة يُنظر لها على أنها صغيرة إلا أنها يمكن أن تُبدع، وتحقق ما لا تفعله دول كبرى؛ فكانت افتتاحية كأس العالم مبهرة، والمفردات البصرية التي استُخدمت بها أفضل التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي كان لها دلالاتها، إلا إن المونديال حمل عدة رسائل سياسية بجانب الرسائل الحضارية والعقائدية والإنسانية الملموسة والتي لا يمكن إغفالها.

أولا: رسائل عقائدية

كانت مراسم تجهيز قطر لكأس العالم بداية من الطائرات التي حملت ضيوف المونديال، مرورا بفنادق الإقامة حتى الملاعب مهندسة بإبراز وتعزيز القيم الإسلامية، ومن شواهد هذا حرص الدوحة على تعريف ضيوفها بتراثها العربي الإسلامي الذي تعرض لكثير من التشويه المنظم من قبل دوائر غربية معادية للعرب وللحضارة الإسلامية، ولتحقيق هذا الهدف أقامت الدوحة قرى تراثية كما أضفت مسحة رائعة على المعالم الأثرية القائمة وهي رسالة قطرية إلى العالم بأن الحضارة العربية الإسلامية جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية.

ومن شواهد إبراز القيم الإسلامية أيضا، الشارات والإعلانات الإسلامية التي زينت المرافق الرياضية والسياحية والتي تحمل عبارات تدعو إلى جعل المنافسات الرياضية وسيلة من وسائل تعزيز الإخاء الإنساني وتشجيع الحوار بين الثقافات والحضارات ووضع حد للحروب والصراعات.

ثانيا: رسائل حضارية

حرصت قطر على إظهار الهوية العربية من أقصى الخليج إلى أقصى المغرب العربي، حيث تضمنت الاحتفالات في أول يوم لانطلاق المونديال عروضاً ثقافية وتراثية وموسيقية احتفت بما تتميز به المنطقة العربية من ثقافة وتاريخ وفنون مشتركة. كما شهد الحفل أيضا عرضاً موسيقياً مزج بين الأناشيد الوطنية للدول العربية المشاركة بالبطولة مع أعلام تلك الدول بأصوات وصور مبهرة، إلى جانب عروض للألعاب النارية.

كما أسست قطر رابطة الجمهور العربي وهي مبادرة غير مسبوقة في تاريخ كأس العالم وتهدف هذه الرابطة إلى بناء قوة تشجيعية عربية تدعم وتؤازر المنتخبات العربية المشاركة في المونديال بروح واحدة وهتافات موحدة، لتعزيز الهوية العربية والاستمتاع بالمونديال من المدرجات.

فعلى الرغم من وجود انقسامات سياسية بين الدول العربية، إلا أن احتفالات الجماهير انطلقت بسعادة غامرة في أنحاء العالم العربي بعد فوز السعودية المفاجئ على الأرجنتين وكذلك فوز المغرب التاريخيّ على بلجيكا وإسبانيا والبرتغال. فقد استمتعت الجماهير العربية بإنجازات الدول العربية المشاركة، وهو أحد أكبر المفاجآت في تاريخ البطولة.

مونديال قطر قراءة في رسائل مونديال قطر 2022

أيضا مع بدء المباريات، كان هناك بعض الأشياء التي بحث عنها ضيوف المونديال، فقطر لديها سياق ثقافي وقانوني مختلف عن العديد من البلدان التي سبقت واستضافت كأس العالم. لهذا السبب، حاولت الحكومة القطرية استيعاب قضايا مثل الكحول ومجتمع الميم (LGBT)، بدون أن يتنافى ذلك مع تقاليد المجتمع العربي.

وحددت كيفية تعامل قطر مع هذه القضايا فائدة القوة الناعمة، حيث منعها لكل السلوكيات التي تنافي الذوق العام ليس إكراها للآخرين على نمط أخلاقي معين بل حرصا على وضع حدود للحريات المطلقة.

ثالثا: رسائل سياسية

بالرغم من أن الفيفا ترفع شعارا “في كرة القدم لا مكان للسياسة”، وواقع الحال أن كل الإسقاطات السياسية كانت واضحة بامتياز سواء داخل الملاعب أو خارجها، ومن أبرز الرسائل التي قرأت خلال المونديال الآتي:

مساندة عربية وعنصرية غربية

حضر العديد من الزعماء العرب لمساندة الأمير القطري الشيخ تميم بن حمد، فالرئيس المصري، وولي العهد السعودي، وحاكم دبي، وقبلهم كان العاهل الأردني، والرئيس الجزائري، والرئيس الفلسطيني.

وفي المقابل كان واضحا غياب الزعماء الأوروبيين، وهي صورة لا يمكن تفسيرها إلا في سياق سياسي، فالحملات المنظمة ضد قطر ما زالت تُلقي بظلالها، ولا يمكن استبعادها، وتجاهلها.

ومقارنة بجهود الدول المضيفة السابقة لكأس العالم، لم تكن العديد من الدول الأوروبية التي تحتج على كأس العالم في قطر صريحة كما هي خلال مونديال 2018 في روسيا، والتي كانت في ظل بناء موسكو لجسر يربطها بجزيرة القرم التي ضمتها بشكل غير قانوني عام 2014، وانتهاكات موسكو التعسفية ضد مجتمع الميم، وهذا إن دل على شيء واحد فهو يدل على تناقض المعايير والعنصرية الغربية ضد البلدان المسلمة.

المصافحة التاريخية

في التفاصيل التي التقطتها الكاميرات في افتتاحية المونديال، كانت المصافحة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس التركب رجب طيب إردوغان، والتي كانت بها أول الخطوات لبدء مسار المصالحة، وهو أمر لم يُكذبه أردوغان بقوله للصحفيين “إنها خطوة لتطبيع العلاقات”.

تركيا ومصر قراءة في رسائل مونديال قطر 2022

بالرغم من وجود محاولات سابقة للدفع بتطبيع العلاقات بين البلدين، ورفع مستوى ملفات التفاوض الذي لا يمكن أن يتم إلا على مستوى وزراء الخارجية أو الرؤساء وهو الأمر الذي لم يتحقق في السنوات الماضية، وبالتالي قد كان اللقاء المباشر بينهما في مناسبة ليست سياسية بمثابة دافع مهم لمحاولة رفع مستوى وملفات التفاوض خاصة وأن قطر في الفترة الأخيرة أظهرت نوع من أنواع التقارب مع مصر وهي أيضا أحد الدول التي تمتلك علاقات وثيقة مع تركيا. ولعل هذا الحدث سيوفر مساحة لتبادل بعض وجهات النظر حول مختلف القضايا المطروحة بينهما وكانت السبب في توتر علاقاتهما، ومن جهة أخرى قد يكون هذا اللقاء بداية لوساطة قطرية بين مصر وتركيا حول تذليل الصعوبات ورفع الحرج عن تركيا فيما يتعلق طلب العودة مجددا للمفاوضات.

الغائب الحاضر

فرضت القضية الفلسطينية حضورًا بارزًا في أحداث وملاعب مونديال قطر، حيث شوهد مشجعون إمّا يرفعون العلم الفلسطينيّ وإما يرتدون كوفية فلسطينية وإما يرددون شعارات تضامنية مع شعب فلسطين في كل المباريات تقريبًا. ذلك بجانب حرص لاعبين المنتخبات العربية التي شاركت في البطولة على رفع العلم الفلسطيني بجانب علم دولتهم.

المغرب قراءة في رسائل مونديال قطر 2022

يأتي هذا في وقت أصبح فيه انتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين وتوسيع مشاريعها الاستيطانية في قطاع غزة موضوعًا مطروحًا بقوة في المجتمع الدولي، وعلى هذا النحو، كان من المدهش رؤية موجة من الدعم القوي لفلسطين في كأس العالم.

لذلك يمكن القول إن قطر باستضافتها لكأس العالم نجحت في تحقيق أهم هدف على الإطلاق، بجمع الدول العربية لكسر شوكة التطبيع الذي يهدف لتمزيق وحدة الصف العربي وتفتيتها، وهي الحقيقة التي اعترفت بها وسائل الإعلام الإسرائيلية التي كتبت عن توجس إسرائيل من عودة التحام العرب فيما بعد المونديال بما يقضي عن أحلامها وعن مشروعها في جر مزيد من الدول العربية إلى صفها.

أم المباريات

كان أطرف ما تم تداوله قبيل المواجهة بين فريقي أميركا وإيران، أنهما لأول مرة تخوضان الصراع خارج العراق، حيث أخر مرة التقت أميركا وإيران في كأس العالم كانت عام 1998 في فرنسا، وأطلق على المجموعة “أم المباريات”، وتعود المواجهة مرة ثانية بعد 24 عاما في الدوحة والصراع بين البلدين لايزال حاضرا، وشوارع طهران تشتعل بالاحتجاجات منذ ما يزيد عن شهرين ونصف الشهر بعد مقتل مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق.

وفي أول مباراة لإيران أمام منتخب انجلترا التقطت عدسات المصورين امتناع لاعبي إيران عن ترديد النشيد الوطني لبلادهم، وفُسّر ذلك على أنه تضامناً مع المحتجين والمحتجات في الشوارع الإيرانية، ولم يكن مخفياً وجود يافطات في المدرجات تذكر بالانتفاضة، والقمع الذي يتعرض له الناس في طهران، والمدن المختلفة.

الخاتمة

لا يمكن إنكار نجاح قطر في تهيئة كل الظروف الممكنة لإقامة هذا الحدث العالمي ولا يقف النجاح عند المرافق المقامة والملاعب المشيدة والمشاريع المنجَزة بل يتعداه إلى النجاح الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي، حيث يبدو أن قطر نجحت في استخدام كرة القدم كأحد أبعاد استراتيجيتها للأمن القومي، وإذا كان كأس العالم هي لحظة التتويج لاستراتيجية قطر لكرة القدم، فهي أيضًا نقطة تحوّل في السياسة الخارجية للبلاد.

وعندما تنتهي البطولة، ستحتاج الدوحة إلى التفكير في طُرُقٍ جديدة لتعزيز طموحاتها الدولية. ستتطلّب (استراتيجية ما بعد كأس العالم) من الأمير القطري إعطاء مضمونٍ جديد للموقف العالمي للبلاد – من موازنة موقفها بين الصين والولايات المتحدة إلى المساعدة في تعويض نقص الطاقة في أوروبا وأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة الخضراء.

وفي حين أن هذا قد يمثل تحولا نحو المزيد من الأمور الأمنية، فإن القرارات الأخيرة التي تمنح قطر حقوق استضافة كأس آسيا لكرة القدم 2023 والألعاب الآسيوية 2030 تشير إلى أن اهتمام الدولة الشديد بالقوة الناعمة لكرة القدم – والرياضة – سيظل قائمًا.

 

كلمات مفتاحية