إعداد: دينا لملوم
استكمالًا للجهود والمبادرات الإنسانية التى تقودها السعودية إزاء ترسيخ حالة السلم والاستقرار فى المنطقة، استقبلت اجتماعًا لمستشارى الأمن الوطنى وممثلى عدد من الدول بشأن الحرب الأوكرانية، وهو ما يعكس مدى الرغبة السعودية فى احتضان أى مبادرات من شأنها حلحلة الأزمة والتوصل إلى سلام دائم، يدفع نحو عملية تسوية وتخفيف وطأة التداعيات التى خلفتها الحرب التى كسرت حاجز العام ونصف العام، نحو مسيرة تسببت فى أزمة طاحنة مازالت تعصف باقتصادات العالم بأسره.
محادثات جدة:
استضافت المملكة العربية السعودية على مدار يومى 5 و6 أغسطس الجارى محادثات حول الوضع فى أوكرانيا، وقد استقبلت مدينة جدة وفودًا لممثلى أكثر من 40 دولة ومنظمة دولية، بما فى ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى، إضافة إلى مستشارى الأمن الوطنى؛ للتباحث حول حالة الحرب الطاحنة التى تدور رحاها فى أوكرانيا منذ أكثر من عام، وعلى الرغم من تشابك وتعقد المشهد، إلا أن المملكة تسعى حثيثة للعب دورًا دبلوماسيًا على الساحة الدولية، كما أن هذه المحادثات تهدف إلى إشراك مجموعة من الدول فى عمليات دعم وتوطيد السلام، لا سيما أعضاء تجمع البريكس التى تبنت مواقف حيادية تنأى بعيدًا عن دعم أوكرانيا، حيث تقف على مسافة واحدة من روسيا وأوكرانيا، وتجدر الإشارة إلى أن هذه القمة جاءت لتستكمل مسار مناقشات السلام التى استضافتها كوبنهاجن يونيو الماضى، بمشاركة مسؤولين أوكرانيين ودول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبى، فضلًا عن السعودية وبعض الدول الأخرى، وتقدم زيلينسكى خلالها بمقترح لعقد قمة سلام من شأنها التأسيس لتسوية عادلة تنهى حالة الحرب، ويختلف هذا الاجتماع عما سبقه من الوساطات التى عُقدت فى أوروبا؛ نظرًا لتمحورها حول كيفية تقديم الدعم العسكرى لأوكرانيا والتنديد بالغزو الروسى، أما قمة جدة فكان الهدف الرئيسى منها، هو محاولة وضع حل للأزمة بما يحقق السلام بين الدولتين وتهيئة المناخ لإنهاء الحرب وتعميم الأمن والسلم فى المنطقة.
وتجدر الإشارة إلى أن الصين قد أوفدت مبعوثها “لى هوى” إلى القمة؛ وذلك ضمن الإطار الدبلوماسى المتوازن الذى تتبعه الصين فى النزاعات، حيث أكدت ضرورة مواصلة العمل على بناء تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، وهو ما يمثل تحولًا إيجابيًا فى موقفها تجاه هذه الأزمة خاصة بعد عزوفها عن المشاركة فى المحادثات التى عُقدت فى كوبنهاجن فى هذا الإطار.
دبلوماسية سعودية:
لاقت المملكة العربية السعودية ترحيبًا من قبل روسيا التى أعربت عن امتنانها لمواقف المملكة البناءة واستعدادها الدائم لبذل الجهود؛ لإيجاد سبل لحل المشاكل المعقدة المرتبطة بالأزمة الأوكرانية، ومازال الجانبان الروسى والسعودى يواصلان تأكيد الاهتمام المتبادل بمواصلة التنسيق الوثيق للسياسة الخارجية على الصعيدين الثنائى والدولى، كما أن جهود محمد بن سلمان قد نجحت خلال الفترة الماضية فى إبرام صفقة تبادل أسرى بين الجانبين الروسى والأوكرانى، أُفرج خلالها عن 10 سجناء أجانب أسروا فى أوكرانيا، وذلك استمرارًا لجهوده فى تبنى المبادرات الإنسانية تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، ولعب دور الوسيط عبر المحادثات المختلفة؛ سعيًا لوقف نزيف الحرب الدائرة فى كييف، كما أن هذه المحادثات تشكل مثالًا حيًا على مدى نجاح الدبلوماسية متعددة الأقطاب التى تتبعها الرياض، حيث الحفاظ على علاقات متوازنة مع أوكرانيا وروسيا والصين، والحليف التقليدى واشنطن.
دلالات مهمة:
بالنظر إلى التواجد الهندى البرازيلى فى القمة، نجد أنه ربما تلعب هذه القوى الوسيطة دورًا مهمًا على الساحة الدولية باعتبارهم قادة لحركة عدم الانحياز المتجددة، وبالتالى فإن تنوع الجهات والدول التى شاركت فى هذه القمة له دلالات خاصة تعكس مدى الرغبة الجماعية؛ لوضع حل للحرب فى أوكرانيا وإيقاف مسلسل الدماء الذى تمخض عنها، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى يمر بها العالم بأسره على خلفية هذه الحرب، أيضًا تأتى هذه المحادثات وسابقتها التى تمت فى كوبنهاجن بناءً على رغبة الطرف الأوكرانى؛ كرد على مزاعم بوتين حول عدم رغبة كييف فى إحلال السلام، حيث إن هذه المشاورات والمسارات السلمية التى تسلكها أوكرانيا تعد محاولات جادة تسعى من خلالها لإنهاء حالة الحرب وتوطيد السلام، على الجانب الآخر نلاحظ أن مشاركة هذا العدد من دول العالم فى القمة يعبر عن مدى الاستياء الجماعى جراء تداعيات هذا النزاع، ومن ثم الحرص على اتخاذ كافة التدابير اللازمة لإنهاء الحرب التى لم تعد تضر دولتى الصراع فحسب، بل انتشرت عدواه إلى النصف الجنوبى من سكان الكرة الأرضية.
لماذا لم تتم دعوة موسكو؟
ربما أرادت الرياض إقصاء روسيا جانبًا من هذه القمة؛ لاحتمالية تعقيد مسارات العمل الدبلوماسى والجهود المبذولة لتحريك المياه الراكدة حول القضية الأوكرانية، وبالنظر إلى الغرب نجد أنه من أكثر المتضررين جراء الحرب الروسية، وهو أيضًا من داعمى كييف فى هذه الحرب، وهو ما زاد من تعقيد المشهد وتفاقم الأزمة؛ لذلك كان من المجدى أن يتم الجلوس على طاولة المفاوضات الأوروبية دون وجود روسيا؛ حتى لا تتذمر الدول الغربية متعددة الرؤى والمواقف، وعليه فقد كانت المشاركة الدولية بمثابة التزام يقع على عاتق هذه الدول تلتزم به وتُلزم أوكرانيا هى الأخرى، كل هذه الأمور بعيدة عن روسيا؛ تجنبًا لحدوث أى صدام مباشر أو سيادة حالة من الاستياء تعرقل مسار المحادثات، أيضًا ربما رغب العاهل السعودى فى رفع الحرج عن بلاده إذا ما أقدم على دعوة موسكو إلى هذا اللقاء الذى قد كان من المحتمل أن يتم رفضه من قبل روسيا؛ وذلك لاحتدام حالة الاحتقان بينها وبين كييف، بعد الهجمات المضادة التى شنتها ضد روسيا، وتدهور الأوضاع الحالية فى هذا الصدد.
مخرجات قمة جدة:
اختتمت قمة جدة بتأكيدها على أن المحادثات التى تمت أسهمت فى بناء أرضية مشتركة للسلام، وقد ساد نوعًا من الخلاف حول بعض نقاط صيغة السلام التى تقدمت بها أوكرانيا، وهو ما دفع مشاركى القمة إلى العمل على صياغة وثيقة إطارية تتبناها قمة سلام مستقبلية، كما أنهم اتفقوا على عقد اجتماع آخر للمستشارين السياسيين فى غضون ستة أسابيع، وقد نص البيان الختامى للقمة على التالى:
1- الاتفاق على استمرار التشاور بشأن الأزمة الأوكرانية.
2- تأكيد ضرورة الاستفادة من المقترحات التى تم تقديمها وبحثها خلال الاجتماع.
3- أهمية مواصلة التشاور الدولى وتبادل الآراء بما يسهم فى حشد الجهود الدولية التى تعمل على تمهيد الطريق أمام عملية السلام فى أوكرانيا.
4- عزم مسؤولين أوروبيين على تشكيل مجموعات عمل لمعالجة بعض المشكلات التى خلفتها رُفات الحرب.
ختامًا:
تتسارع جهود السعودية لمحاولة صياغة دور إقليمى فاعل ومؤثر؛ لكى تصبح قوة وسيطة على المسرح العالمى تتمكن من خلالها التوسط فى حلقات النزاع الدائرة حول العالم، وهو ما اتضح فى دخولها المبكر على خط الأزمة الأوكرانية، سواء على الأراضى السعودية أو خارجها، وتؤكد هذه القمة التعددية الدبلوماسية من قبل فواعل عدة عبر العالم، فلم تعد الجهود المبذولة لحلحلة هذه الأزمة تقتصر على أطراف بعينها؛ حيث تسارعت الوساطات المختلفة لإنهاء حالة الصراع التى أضرت بالاقتصاد العالمى، ومؤخرًا باتت الرياض تستعرض قوتها المختلفة عبر الانخراط فى قضايا عدة تؤسس لها مكانة ريادية ومحورية على الساحة الدولية، وربما تتعرقل مساعى السلام والمحادثات التى تُعقد من أجل حل الأزمة الأوكرانية، ولكن يبقى الأثر للسعودية التى تبنت هذه المواقف الإيجابية حيال هذه الحرب، وإظهار مدى الرغبة فى وقف معاناة الشعوب عبر كبح جماح التداعيات الخطيرة التى تتفاقم حدتها يومًا تلو الآخر، كما أن التنوع الدولى الذى شهدته القمة، واستجابة أكثر من 40 دولة ذات ثقل للتواجد فى هذا المشهد يشير إلى مدى الرغبة الجماعية الملحة لوضع حد لهذه الاستنزافات التى لا تكاد أى دولة عبر العالم تخلو من تبعاتها.