كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

إعداد: أحمد محمد فهمي 

ضرب إعصار “دانيال”، القادم من البحر الأبيض المتوسط، السواحل الشرقية لليبيا بقوة، وتحديدًا مدن بنغازى والبيضاء وسوسة والمرج وشحات، إلى جانب مدينة درنة التى تُعتبر واحدة من بين أكثر المدن التى تعرضت لأضرار كارثية جراء هذا الإعصار.

وقد أسفرت هذه الكارثة عن وقوع الآلاف من القتلى والجرحى، بالإضافة إلى الآلاف من المفقودين، وتوقع رئيس بلدية المنطقة المتضررة أن يصل عدد القتلى فى درنة جراء هذه الفيضانات الكارثية إلى ما بين 18 و20 ألف شخص، بالنظر إلى عدد الأحياء المدمرة.

وبناءً على المعلومات المتداولة، فإن مدينة درنة الشرقية هى الأكثر تضررًا من الفيضانات، حيث أظهرت الصور ومقاطع الفيديو المنازل والحقول وهى مغمورة بالمياه، وتقع المدينة فى نهاية الوادى المعروف باسم “وادى درنة”، وهو نوع من الأودية الجافة إلا فى موسم الأمطار. ويعود السبب الرئيسى فى تفاقم هذه الأزمة بشكل كبير إلى انهيار السدود فى الوادى، وهما سدّ أبو منصور وسدّ البلاد، لأن تلك السدود كانت تحتجز كميات من المياه، إضافة إلى الكميات الكبيرة من الأمطار التى تساقطت بسبب الإعصار، بالتالى عند انهيار تلك السدود جرفت مبانى بأكملها إلى البحر، وهذا ما أوضحه اللواء أحمد المسمارى، المتحدث باسم الجيش الوطنى الليبى، حيث أكد أن “الكارثة جاءت بعد انهيار السدود فوق درنة، لتجرف أحياءً بأكملها وبسكانها إلى البحر”، بالتالى أعلنت الحكومة الليبية فى وقت لاحق أن مدينة “درنة” أصبحت مدينة منكوبة.

وقبل وصول “دانيال” إلى ليبيا، ضربت كل من اليونان وتركيا وبلغاريا، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 26 شخصًا، ومن هنا يناقش هذا التقرير العوامل التى أدت إلى وقوع هذه الكارثة، التى خلفت وراءها الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين، مع إبراز الجهود المصرية (برًا وبحرًا وجوًا) فى التعامل مع الكارثة الإنسانية.

عامل الإهمال والفساد الحكومى:

تكشف الكارثة فى درنة عن تأثير الفساد الذى انتشر على مر العقود وأثر على البنية التحتية، وتظهر تداعيات عدم الاهتمام بالبنية التحتية، إذ تسببت فى وقوع تلك الكارثة الإنسانية الجسيمة، وهذه المشكلة كان بالإمكان تجنبها، وفقًا لتصريحات الأمم المتحدة، إذ لم تُجر أعمال صيانة للسدين اللذين تم بناؤهما فى سبعينات القرن الماضى، فى عهد نظام العقيد معمر القذافى، واللذان كانا مخصصين لحماية المدينة من الأمطار الغزيرة، لمدة تزيد على عقدين من الزمن، وهذا الفساد والإهمال الحكومى يأتيان كجزء من السياق الأوسع للتحديات التى تواجهها ليبيا فى مجال الإدارة والتخطيط البنيوى.

وقد أشارت دراسة أجريت فى جامعة عمر المختار الليبية عام 2022 إلى أن السدود فى منطقة وادى درنة تعرضت للتآكل بمرور الزمن، وأصبحت غير قادرة على احتجاز المياه نتيجة للعواصف والظروف الطبيعية الأخرى، وخلصت الدراسة إلى أن المنطقة معرضة لمخاطر الفيضانات، ولذا يجب اتخاذ إجراءات فورية بإجراء عملية الصيانة الدورية للسدود القائمة، لأنه فى حالة حدوث فيضان ضخم فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادى والمدينة.

كما أنه وقبل وقوع الكارثة فى درنة بيومين، حذرت مؤسسة “راية” لعلوم الفضاء، وهى منظمة ليبية غير حكومية، من الخطر المحتمل الناتج عن ملء سد وادى درنة ومن تأثيرات تشبع التربة بالمياه وانهيار السد.

وبالإضافة إلى ذلك، فبحسب تقرير صدر عام 2021 عن ديوان المحاسبة الحكومى الليبى، كانت هناك خطط من الحكومة لصيانة وتأهيل السدين بعدما وقعت عقودًا مع شركة “برسيل” التركية، لكن لم تنفذ تلك الخطط كما لم يعرف مصير الأموال المخصصة للصيانة والتى كانت تبلغ نحو 1.3 مليون دولار، متهمة وزارة الموارد المائية بالتقاعس وإهمال العقود الموقعة.

عامل تدهور الأوضاع السياسية:

تعانى ليبيا منذ عام 2011 واقعًا سياسيًا معقدًا وغير مستقر، نتج عنه انقسام سياسى حاد بين حكومتين فى الشرق والغرب، حيث يتنازعان على السلطة والموارد، هذا الانقسام أدى إلى تعثر الحكومات فى اتخاذ القرارات والإصلاحات الضرورية. بالإضافة إلى ذلك، تستمر الصراعات المسلحة بين مجموعات مسلحة متنوعة فى ليبيا، مما أسهم فى انعدام الأمان وعدم الاستقرار فى معظم مناطق البلاد.

وتعرضت ليبيا أيضًا لتدخلات خارجية من دول مختلفة دعمت أطرافًا متنازعة بالسلاح والمرتزقة، هذه التدخلات زادت من تعقيد الوضع السياسى والأمنى، كما تفاقمت الظروف الاقتصادية الصعبة، بما فى ذلك انخفاض أسعار النفط وتدهور البنية التحتية، مما زاد من حدة التوترات ومستويات الفقر والبطالة فى البلاد.

تلك المؤشرات البارزة أدت إلى افتقار ليبيا لوجود هياكل حكومية فعالة قادرة على توجيه الدولة وتقديم الخدمات الأساسية، وقد أثر هذا بشكل سلبى على القدرة على إدارة الأزمات ومواجهة التحديات على الفور، كما أثرت الصراعات المستمرة فى ليبيا سلبًا على البنية التحتية، وهذا يظهر جليًا فى وقوع كوارث مثل تلك التى وقعت فى درنة نتيجة عدم صيانة السدود والبنية التحتية، وهو ما جعل البنية التحتية غير قادرة على تحمل الضغوط البيئية والكوارث.

ونتيجة لذلك انعكست حالة تدهور الأوضاع السياسية فى ليبيا على عدم قدرتها على معالجة كارثة “درنة”، فنظرًا للاستمرار فى الصراعات السياسية والعسكرية فى ليبيا، أصبحت أولويات الجهات المتصارعة تركز على تعزيز مواقفها السياسية والعسكرية بدلًا من التركيز على المشاكل والتحديات الداخلية للمناطق التى تسيطر عليها وتخصيص مواردها وجهودها لحل هذه القضايا، ومن بين هذه القضايا يأتى التحضير والاستجابة لكارثة “درنة” وتنفيذ الخطط التى دعا إليها الخبراء المتخصصون قبل وقوع الكارثة، بجانب غياب وجود إدارة مركزية تعمل على معالجة الكارثة.

كما أن الانقسامات والصراعات السياسية جعلت من الصعب على الحكومات المتنافسة التعاون بشكل فعّال للتعامل مع الكوارث والأزمات، مما تسبب فى تعقيدات فى عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها، نظرًا للأوضاع السياسية والعسكرية الحالية. وهذا ما أثر سلبًا على قدرة السلطة صاحبة القرار على التعامل مع الكوارث وتوجيه الجهود لمساعدة السكان المتضررين، وهذا ما يفسر لجوء حكومة الشرق الليبى إلى مصر للمساعدة الفورية فى التعامل مع الكارثة الإنسانية.

عامل تعقيد عمليات الإغاثة:

بعد زلزال شرق المتوسط الذى ضرب كلًا من تركيا وسوريا فى فبراير الماضى، وعلى الرغم من أن الخسائر السورية بسبب الزلزال لا تقارن بالخسائر التركية الكبيرة والمدمرة، إلا أن ما زاد من حجم المأساة فى سوريا هو تداعيات الزلزال المدمر، بالإضافة إلى ما تعانيه البلاد من تداعيات الحرب منذ عام 2011، والتى أثرت بشكل كبير على عمليات إيصال المساعدات ووصول فرق الإنقاذ، وخاصة فى الشمال السوري، بسبب تأثير العقوبات الدولية والحسابات السياسية للأطراف الداخلية والخارجية، مما ساهم فى تعقيد عمليات الإغاثة.

وقد تكررت الأزمة نفسها فى كارثة “درنة” فبجانب تداعيات الكارثة، إلا أن ما زاد من حجم المأساة هو ما تعانيه ليبيا من تداعيات نظرًا للأوضاع الراهنة والمعقدة وغياب الاستقرار السياسي، مع احتمالات توظيف الأزمة سياسيًا، مثلما حدث فى تركيا من استغلال تداعيات الزلزال المدمر بين قوى المعارضة وحزب العدالة والتنمية الحاكم فى إطار استعدادهم للانتخابات العامة والتى عُقِدَت فى مايو الماضى.

وفى ظل التناحر بين الشرق والغرب الليبى، وأمام عجز السلطات فى الشرق الليبى فى التعامل مع الكارثة، تدخلت الدولة المصرية على خط الأزمة وسارعت فى تقديم مختلف أنواع الدعم لمواجهة تداعيات الأزمة، وهو على غرار مواقفها الإنسانية العديدة فى التعامل مع الكوارث والأزمات، مثلما حدث فى حاله شرق المتوسط والتى قدمت فيها مساعدات كبيرة للطرفين التركى والسورى، وكذلك المساعدات الإغاثية لدولة السودان والعديد من الدول الإفريقية وغيرها من المبادرات التى تؤكد حرص الدولة المصرية على القيام بواجبها الإنسانى تجاه جميع الدول.

الجهود المصرية فى التعامل مع كارثة “درنة”:

فى أعقاب وقوع الكارثة، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال اجتماعه مع الفريق أول محمد زكى وزير الدفاع، والفريق أسامة عسكر رئيس الأركان، وعدد من قادة القوات المسلحة، بتقديم كافة أوجه الدعم الفورى والإغاثة الإنسانية جوًا وبحرًا، ذلك من خلال إرسال أطقم إغاثة ومعدات إنقاذ وإقامة معسكرات إيواء للمتضررين بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة والمؤسسات الليبية.

كما وجه السيد الرئيس – أثناء حضوره اصطفاف معدات الدعم والإغاثة والمساعدات الإنسانية للأشقاء فى ليبيا – القوات والعناصر المتجهة إلى ليبيا ببذل أقصى جهد للتخفيف من آثار الكارثة الإنسانية، كما وجه بتجهيز حاملة الطائرات “ميسترال” للعمل كمستشفى ميدانى بهدف عدم تحميل الأشقاء فى ليبيا أى أعباء.

وهو ما تكلل سريعًا بزيارة الفريق أسامة عسكر رئيس الأركان، إلى ليبيا للتنسيق بشأن تقديم الدعم اللوجيستى والإغاثة الإنسانية العاجلة بالتعاون مع الأجهزة والمؤسسات الليبية المختصة وفقًا لاحتياجاتها لمواجهة تداعيات الإعصار، مع فتح جسر جوى لنقل الدعم اللوجستى، حيث بدأ الإجراء بإيفاد ثلاث طائرات عسكرية تحمل على متنها مواد طبية وغذائية، إضافة إلى إرسال 25 طاقم إنقاذ مجهز بكافة المعدات الفنية اللازمة، بالإضافة إلى طائرة أخرى مخصصة لتنفيذ أعمال الإخلاء الطبى للشهداء والمصابين.

كما تم تجهيز عشر طائرات من طراز شينوك وأوجيستا بالأطقم الطبية والمعدات اللازمة لتقديم خدمات الإخلاء الطبى الجوى وتنفيذ عمليات البحث والإنقاذ، وقد تم تجهيز عربات الإسعاف بالأطقم الطبية لاستقبال كافة المصابين والضحايا بهدف نقلهم إلى المستشفيات وتقديم الدعم الطبى الضرورى.

إضافة إلى ذلك، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة أوامرها بتحرك قوافل محملة بأطنان من المساعدات الإنسانية ومواد الإعاشة وأطقم الإغاثة وكذا عربات الإسعاف وأعداد كبيرة من المعدات الهندسية عبر الطرق والمحاور المختلفة، والمدفوعة من القوات المسلحة بالتنسيق مع كافة أجهزة الدولة، لتحميلها عبر حاملة المروحيات من طراز (ميسترال) لإرسالها بحرًا.

وفى سياق متصل بنطاق المنطقة الغربية العسكرية تم دفع قافلة محملة بمساعدات إنسانية ومستلزمات طبية وفرق البحث والإنقاذ، بالإضافة إلى معدات هندسية لتحركها برًا عبر منفذ السلوم، للمعاونة فى إزالة الآثار الناتجة عن الإعصار المدمر، فضلًا عن عدد من طائرات البحث والإنقاذ والإخلاء للعمل بالمناطق المنكوبة.

ويتضح من تلك الإجراءات، أن الرئيس عبد الفتاح السيسى والقوات المسلحة المصرية استجابوا بسرعة وفعالية للكارثة التى وقعت فى ليبيا، وهذا يشير إلى القدرة على التخطيط والتنظيم والتنفيذ الفعال فى مواجهة الطوارئ، وهو ما يبرز أهمية التعاون الإقليمى فى تقديم المساعدة فى حالات الكوارث، وأهمية الدعم اللوجستى والإغاثة الإنسانية فى تقديم المساعدة والمواد الضرورية للمتضررين، وكذلك الاستعداد لتلبية احتياجات الكوارث بفعالية.

وإجمالًا:

فى المقام الأول، يعتبر تدهور الوضع السياسى فى ليبيا بشكل عام أحد أهم العوامل التى أعاقت التحضير والاستجابة للكارثة التى وقعت فى منطقة “درنة”، والتى أسفرت عن العديد من الكوارث الناجمة عنها، كما يظهر بوضوح أن النزاع الدائر فى ليبيا يعقّد الجهود الإنسانية المحلية ويعيق القدرة على تقديم المساعدة والإغاثة الفورية.

وفى هذا السياق، أصبح من الضرورى للنخب السياسية الليبية أن تضع التركيز على حل هذه الصراعات السياسية وتعزيز الاستقرار الوطنى فى ليبيا، وأن تعمل على معالجة الجذور العميقة لهذه الصراعات ومعالجة سنوات الإهمال والفساد التى ساهمت فى تفاقم المشكلات.

وإذا لم يتم التصدى لهذه القضايا وحلها، فإن استمرار هذا الوضع من شأنه أن يزيد من تعقيدات الأوضاع فى المنطقة ويسهم فى تفاقم الكوارث المستقبلية والتدهور البيئى والاقتصادي. لذا، يتعين دعم الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار والتسوية السياسية فى ليبيا، من أجل تقديم المساعدة الفعالة والاستجابة السريعة للكوارث والأزمات، والتى لولا الاستجابة المصرية السريعة فإن ذلك قد يكون له تأثيرات خطيرة وسلبية على الوضع والمتضررين، مما سيؤدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية بشكل بالغ.

اصطفاف كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

السيسي كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

حفتر كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

دعم كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

دعم 2 كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

WhatsApp Image 2023 09 17 at 10.58.46 كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

WhatsApp Image 2023 09 17 at 10.58.47 1 كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

WhatsApp Image 2023 09 17 at 10.58.47 2 كارثة درنة الليبية: دور العوامل المتداخلة والأسباب الرئيسية

المصادر:

عبد الونيس عبد العزيز رمضان عاشور، دراسة بعنوان: “تقدير عمق الجريان السطحي لخوض وادي درنة”، مجلة جامعة سبها للعلوم البحثية والتطبيقية، متاح على: https://2u.pw/JqtQ2y4.

“التقرير السنوي لديوان المحاسبة الليبي 2021م”، يمكن الاطلاع على التقرير من خلال الرابط التالي: https://2u.pw/l02H9hS.

“كارثة درنة.. جذور عمرها عشرات السنين”، سكاي نيوز عربية، 15/9/2023، متاح على: https://2u.pw/nuqngkc.

“إعصار دانيال: لماذا انهار السدّان في درنة؟”، بي بي سي عربي، 13/9/2023، متاح على: https://2u.pw/OMHtH9z.

مقابلة مع وليد عفّان المتحدث باسم مهجري درنة بالغرب الليبي في حديث للتلفزيون العربي، تحت عنوان “متحدث باسم مهجري درنة بالغرب الليبي: تأخر إغاثة المدينة سببه الانقسام السياسي”، 14/9/2023، متاح على: https://2u.pw/vRn6WGG.

كلمات مفتاحية