إعداد: جميلة حسين
بعدما استطاعت قوات التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية إلحاق الهزيمة العسكرية بتنظيم داعش فى سوريا فى معركة الباغوز عام 2019، تبقى للتنظيم إرث يحاول من خلاله إعادة الصعود مرة أخرى، يتضمن المعتقلين من عناصر تنظيم داعش فى السجون السورية خاصة تلك التى تسيطر عليها قوات “قسد” بجانب الآلاف من عوائل التنظيم فى مخيمات اللاجئين كمخيم الهول والروج، مثل هذا الإرث الداعشى فى حد ذاته تهديد على المستوى الداخلى والخارجى خاصة مع محاولات التنظيم لتهريب هؤلاء العناصر وإعادة توظيفهم داخل الجماعة، لترتيب أوراقهم الداخلية نحو حلم الخلافة.
حوادث متكررة
تحتوى “الحسكة” على أكبر مجمع سجون فى منطقة شمال شرق سوريا تقع تحت إشراف قوات سوريا الديمقراطية، حيث يتضمن سجون كسجن “الصناعة – غويران”، وسجن “الكم الصينى” فى مدينى الشدادى، وسجن “علايا” فى مدينة القامشلى، وغيرها من السجون، فضلًا عن السجون التابعة للفصائل التركمانية الخاضعة للجيش التركى فى الشمال، ويقدر العدد الإجمالى لهؤلاء الأفراد طبقًا لأحد التقارير ما يفوق 12 ألف عنصر من جنسيات متنوعة، ويتضمنون قُصَّر تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عامًا يبلغ أعدادهم أكثر من 700 شخص معتقلين فى سجون غير أدمية بحاجة إلى الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية.
تمثل معتقلات داعش أهدافًا لشن هجمات من قبل التنظيم الراغب فى تحرير عناصره من ناحية، ومن ناحية أخرى رغبة هؤلاء المعتقلين فى الهروب من تلك السجون واستغلال أى فرصة متاحة للحاق بالخلايا النائمة للتنظيم فى المناطق الصحراوية، ومن أبرز الهجمات التى شهدتها سجون “الحسكة” على مدار العام الماضى وهذا العام ما يلى:
- 20 يناير 2022: تعتبر تلك العملية من أكبر العمليات التى شهدها سجن “غويران” المعروف بسجن “الصناعة” لتحرير التنظيم الكثير من مقاتليه من السجون، حيث سيطر التنظيم على السجن لمدة 5 أيام قبل أن تستعيد قوات “قسد” سيطرتها على السجن مرة أخرى، الأمر الذى أسفر عن سقوط أكثر من 200 عنصر من قوات “قسد” بعد نشوب اشتباكات مع إرهابيى التنظيم، ومثَّل ذلك الهجوم مرحلة مهمة فى عودة ظهور التنظيم من جديد.
- 6 فبراير 2023: شهد سجن “راجو” الذى يضم حوالى 1300 شخص يشتبه فى انتمائهم للتنظيم، حالة من العصيان مستغلين الزلزال الذى تعرضت له سوريا وتركيا، واستطاع 20 شخصًا منهم الفرار بفعل التصدعات التى حدثت فى عدد من السجون جراء الزلزال.
- 18 يونيو 2023: شهدت إحدى السجون الواقعة فى مدينة “رأس العين” شمال “الحسكة” التابعة لما تعرف بالشرطة العسكرية المرتبطة بالفصائل التركمانية الخاضعة للجيش التركى، هروب 25 سجينًا منتمين إلى داعش.
- 27 أغسطس 2023: شن تنظيم داعش هجومًا على سجن “غويران” لمساعدة عناصره على الهرب، وأدى هذا الهجوم إلى اندلاع اشتباكات بين قوات سوريا الديمقراطية وعناصر التنظيم المهاجمين أسفرت عن فرار العديد من العناصر المعتقلين الذين قدروا بنحو 800 عنصر، وخسارة التنظيم لحوالى 374 من الأفراد المهاجمين والهاربين على حد سواء، وعليه فرضت قوات “قسد” حظر تجوال فى “الحسكة” لمحاولة الحصول على العناصر الهاربة من التنظيم، فضلًا عن وصول أنباء عن التحضير لمحاولة هروب جماعى من جانب العناصر المحتجزة.
التعبئة البشرية
يحاول تنظيم داعش الحفاظ على استمرارية تواجده وإعادة بنائه عن طريق عدد من الآليات، أبرزها توفير القوة البشرية لتعزيز صفوفه المتواجدة فى منطقة البادية السورية والجنوب السورى وتعويض العناصر الذى فقدها بعد الهزيمة العسكرية اللاحقة به فى سوريا والعراق، ولعل استمرار وجود مراكز الاعتقال التى تحوى الآلاف من مقاتلى داعش يجعلها هدفًا للهجوم لإطلاق سراح عناصره المحتجزين مستغلين بذلك حالة عدم الاستقرار والفوضى التى تشهدها الساحة السورية.
معضلة تأمين السجون
على الرغم من محاولات قوات سوريا الديمقراطية لتوفير الحماية اللازمة للسجون الواقعة تحت سيطرتها التى تحوى العديد من الجنسيات، إلا أنها حذرت كثيرًا من أنها لا تملك القدرة على احتجاز الآلاف من مقاتلى داعش الذين تم أسرهم خلال السنوات الماضية، والتى من المفروض أن تقدمهم إلى المحاكمة لاسيما مع ضعف قوة التأمين.
ولمحاولة تحجيم الضغط والمسؤولية المفروضة عليها تجاه هؤلاء المحتجزين الخطرين أعلنت الإدارة الكردية لشمال شرق سوريا فى يونيو الماضى اعتزامها بدء محاكمة هؤلاء المقاتلين إلا أنه لمن يتم الإعلان عن أى محاكمة حتى الآن، نظرًا لضعف النظام القضائى للإدارة الكردية واللازم لعقد أى محاكمة من جانب، ومن جانب آخر عرقلة بعض الدول لتنفيذ أحكام إعدام ضد رعاياها.
جيل إرهابى بالوراثة
تعانى سجون “الحسكة” من خطر احتجاز القُصًّر المرتبطين بذويهم من الإرهابيين، مما يخلق ساحة جديدة من الإرهابيين والمتطرفين بالوراثة، وكثيرًا ما طالبت الإدارة الذاتية الكردية وقوات “قسد” بالدعم الدولى لإعادة هؤلاء إلى بلدانهم الأصلية وخضوعهم لبرامج تأهيل وإعدادهم لحياة أدمية وطبيعية بدلًا من استغلالهم من جانب التنظيم، كما رغبت الجهات الإنسانية ومنظمات الإغاثة الدولية فى إطلاق سراح هؤلاء وعدم معاقبتهم على جرائم ذويهم وعائلتهم باعتبارهم ضحايا، فضلًا عن ما ينتج عن احتجازهم من تشجيعهم على التطرف وزرع أفكار تحث على العنف خاصة فى ظل الوضع المتردى المحيط بهم فى تلك السجون، وتعتبرهم بعض الجهات والدول خطرًا محتملًا نظرًا لتلقى بعضهم تدريبات عسكرية من قبل التنظيم.
التطورات الإقليمية
أظهرت عدد من الأحداث السياسية والاقتصادية والنزاعات المتنوعة مدى براعة تنظيم داعش فى استغلال الأزمات واستثمارها لصالحه من أجل توسيع نفوذه، ولعل الأحداث المحيطة فى منطقة الشرق الأوسط حيث انشغال بحرب غزة منذ عملية طوفان الأقصى والتصعيد العملياتى فى سوريا، فضلًا عن التطورات المتعلقة بالميليشيات التابعة لإيران والقواعد الأمريكية وفى سوريا والعراق، إلى جانب الفراغ الذى تركته الميليشيات فى مناطق تمركزها فى حال تحويلها باتجاه الحدود السورية مع لبنان أو هضبة الجولان لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل، كل ذلك أسهم فى خلق قدر من المساحة الواسعة للتنظيم لتكثيف عملياته وتنفيذ إستراتيجيته الخاصة بإعادة التوسع من جديد.
مسؤولية دولية
يعكس الموقف الدولى خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبى تجاه أزمة السجون والمخيمات فى شمال شرق سوريا حالة من التخاذل والتباطؤ فى التعامل مع هذا الخطر الذى عبر عنه الخبراء بأنه قنبلة موقوتة، لما تحمل تلك الأماكن من عناصر مليئة بالتطرف والأفكار المتشددة التى ينعكس خطرها على المجتمع، فعلى الرغم من قيام بعض الدول باستعادة مواطنيها المحتجزين فى المعتقلات والمخيمات ولكن هؤلاء المواطنين يمثلون نسبة ضئيلة من العدد الإجمالى المتواجدين فى سوريا، ويمثل هذا النطاق الضيق مدى تخوف الدول من الإرهاب المحتمل على أراضيها خاصة أن المقاتلين العائدين يحتاجون موارد مخصصة لهم وبرامج دمج وتأهيل واسعة ورقابة، وفى الوقت ذاته قد يواجهون رفضًا من مجتمعاتهم.
وفى ضوء ضرورة النظر إلى المسؤولية الدولية تجاه تلك القضية عُقد نهاية شهر نوفمبر الماضى اجتماع دولى فى مدينة جنيف السويسرية جمع ممثلين عن بعض الدول الأوروبية والآسيوية، فضلًا عن ممثلين من الإدارة الذاتية للأكراد فى شمال شرق سوريا، وناقض الاجتماع قضية الإرهابيين المحتجزين فى السجون الواقعة فى مناطق الأخيرة ووضع عوائلهم المحتجزين فى المخيمات “الهول – الروج”، كما ركز على التحديات التى تواجه الإدارة الذاتية فى معالجة القضايا المرتبطة بالخلايا النائمة للتنظيم والرغبة فى تقليل المخاطر الأمنية، وتمت الإشارة إلى ضرورة تحمل المسؤوليات تجاه قضية المحتجزين وعوائلهم مع الإدارة الذاتية من قبل المجتمع الدولى من خلال المساعدة فى تأمين المخيمات ومراكز الاحتجاز وبالإضافة إلى رعاية عمليات الترحيل وإقامة مراكز للتأهيل.
الاستفادة من الهجمات التركية
تمثل الهجمات التى تشنها تركيا على الأكراد فى شمال شرق سوريا سياقًا محفزًا لتنظيم داعش لتنفيذ مخططاته خاصة تلك المتعلقة بالتعبئة الداخلية لعناصره، حيث تشهد المنطقة الشمالية سلسلة من الهجمات التركية الجوية والبرية التى استهدفت البنى التحتية وعددًا من المنشآت الحيوية والخدمية ومواقع لقوات سوريا الديمقراطية، فضلًا عن الهجمات المتكررة على منطقة “روجافا” باستخدام الطائرات المسيرة، ويعتبر البعض أن التهديد التركى الأخطر متمثل فى حال شنت تركيا هجومًا بريًا من أجل تنفيذ مخطط المنطقة الآمنة فى العمق السورى، الأمر الذى ينعكس على المعتقلات التى لن يتمكن من تفرغيها ونقل المحتجزين فيها إلى أماكن أخرى ويتوقع فرار جزء منهم.
مما سبق؛ تشير القضايا المرتبطة بتنظيم داعش إلى نقطة مفادها أن خطر التنظيم متفشى فى الأرجاء ولم يتمكن من دحره بشكل كامل، فقضية المحتجزين من العناصر الداعشية فى المعتقلات السورية تمثل ثغرة مهمة للتنظيم العائد للتمدد، وفى ذات الوقت تعتبر بيئة محفزة لجيل متطرف وعنيف، ومن المتوقع استمرارية تلك المعضلة فى ظل بقاء هذا العدد الهائل من العناصر دون محاكمة أو عودة لبلدانهم الأصلية مرة أخرى من جانب، وربما من جانب آخر استخدام الآلاف من عناصر داعش المعتقلين كورقة ضغط تحافط بها أمريكا على وجودها داخل سوريا بالتوازى مع الوجود الروسى، ويساعد فى إطالة أمد زعزعة الأمن والاستقرار السورى.