إعداد: شيماء عبد الحميد
على الرغم من أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أثبتت أن إيران وأذرعها فى دول المنطقة، قادرة على تحريك الشرق الأوسط واللعب بأمنه واستقراره، إلا أن الوضع الحالى فرض على النظام الإيرانى تحديات عدة؛ سواء على المستوى الداخلى أو الإقليمى، حيث اصطدمت حسابات طهران الإقليمية بمعطيات مختلفة وجديدة على المنطقة؛ أهمها وجود حكومة إسرائيلية متطرفة تعانى من هزيمة سياسية وعسكرية غير مسبوقة، تدفعها إلى المجازفة بتوسيع رقعة الصراع وتصدير حربها للخارج من خلال التصعيد ضد طهران، وإدارة أمريكية تحاول تسوية الحرب فى المنطقة وتحجيم الخطر الإيرانى، من أجل تحسين صورتها وتحقيق أى إنجاز قبل الانتخابات الرئاسية المقررة فى نوفمبر المقبل، فضلًا عن فوضى وتدهور فى الخريطة الأمنية للشرق الأوسط، توفر فرصة لعودة تنظيم داعش الإرهابى من جديد، والذى يمثل خطرًا أمنيًا كبيرًا على النظام الإيرانى الشيعى.
وهذه المعطيات جعلت إيران تعانى فى الفترة الأخيرة من ضربات موجعة تلقتها على أكثر من جبهة، حيث الاغتيالات والاستهداف المباشر لقياداتها ونفوذها فى المنطقة من جانب إسرائيل، والاستهداف الداعشى للداخل الإيرانى، إلى جانب التهديدات على حدودها مع باكستان، وهذه الضربات قد وضعت النظام الإيرانى فى مأزق حرج بين الصمت والتمسك بسياسة الصبر الإستراتيجى، ومن ثم اهتزاز مكانتها وصورتها أمام حلفائها، وبين الرد والانجرار إلى مواجهة خاسرة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وفى ضوء هذه الرؤية يمكن قراءة الضربات الإيرانية الأخيرة على سوريا والعراق وباكستان.
تحديات عدة فى الداخل والخارج:
يواجه النظام الإيرانى فى الفترة الحالية، مجموعة من التحديات الأمنية الإقليمية التى تضعه تحت الضغط الداخلى والخارجى، خاصةً وأن القرار الإيرانى لكيفية التعامل مع هذه التحديات، مرتبط بحسابات الداخل المعقدة والتى تضع قيود على حرية التحرك من قبل النظام؛ وأبرز تلك التحديات:
- العرقية البلوشية وجيش العدل السنى؛ يواجه النظام الإيرانى الشيعى منذ سنوات طويلة، تحديًا أمنيًا على حدوده الشرقية مع باكستان، يتمثل فى العرقية البلوشية السنية والتى تتمركز فى محافظة “سيستان بلوشستان” فى جنوب شرق إيران، وإقليم بلوشستان فى غرب باكستان، والذى يشكل موطنًا لمجموعة البلوش الذين يُقدر عددهم الإجمالى بعشرة ملايين نسمة، تعيش غالبيتهم فى باكستان، مع وجود عدة ملايين فى إيران وأقلية أصغر بكثير فى أفغانستان.
ولطالما مثلت تلك العرقية تحديًا مهمًا لاستقرار العلاقات (الإيرانية – الباكستانية)؛ إذ يسعى بلوش باكستان وعلى رأسهم جيش العدل، لتحرير إقليم سيستان بلوشستان الإيرانى من النظام الشيعى الحاكم للبلاد، على خلفية شكوى سكانه ذات الأغلبية السنية من تمييز مزدوج طائفى وعرقى، ومن تعرضهم لتمييز اقتصادى وسياسى من السلطات الإيرانية التى أعدمت أعدادًا كبيرة من البلوش، بتهم عدة أبرزها تهريب المخدرات والنفط. وفى المقابل؛ يشن البلوش المتمركزون فى إيران مثل جيش تحرير بلوشستان وجبهة تحرير بلوشستان، هجمات أيضًا على إقليم بلوشستان الباكستانى قصد تحريره، وبينما اتهمت “إسلام آباد” طهران بتوفير مقر لهذه الجماعات المسلحة لاستهدافها، تؤكد إيران أن جيش العدل يختبئ فى باكستان ويتلقى دعمًا إسرائيليًا من أجل تهديد أمن واستقرار البلاد.
وجدير بالذكر أن جيش العدل عبارة عن حركة سنية مسلحة مناهضة للنظام الإيرانى، تنشط عبر الحدود (الباكستانية – الإيرانية)، وتتلقى دعمًا من إسرائيل والولايات المتحدة، وقد أعلنت الحركة مسؤوليتها عن عدة هجمات منها محاولة الهجوم على الرئيس السابق “محمود أحمدى نجاد” عام 2005، وآخر هذه الهجمات؛ اقتحام مركز للشرطة بسيستان بلوشستان فى ديسمبر الماضى، مما أدى إلى مقتل 11 ضابط شرطة إيرانى.
- اختراق إسرائيلى لشبكة النفوذ الإيرانى فى سوريا ولبنان؛ تتعرض أذرع إيران الإقليمية إلى ضغوط أمريكية وإسرائيلية كبيرة، تضع النظام الإيرانى فى موقف حرج يفرض عليه إما السكوت المهين أمام محور المقاومة الذى تتزعمه طهران أو الرد والدخول فى حسابات خاطئة مع الولايات المتحدة وتل أبيب.
ومن تلك الضغوط؛ الاغتيالات الإسرائيلية لكبار قادة الحرس الثورى الإيرانى وحركة حماس وحزب الله فى سوريا ولبنان وعلى رأسهم نائب رئيس المكتب السياسى لحركة حماس “صالح العارورى” ومستشار الحرس الثورى فى سوريا “رضا موسوى” وآخرهم مسؤول وحدة الاستخبارات فى فيلق القدس بسوريا “صادق أوميد زاده” ونائبه، هذا إلى جانب الهجمات الأمريكية على قوات الحشد الشعبى العراقى، والضربات الأمريكية البريطانية على مواقع للحوثيين فى اليمن وذلك ردًا على تحركاتهم الأخيرة فى البحر الأحمر، فضلًا عن قرار الإدارة الأمريكية بإعادة إدراج الحوثى ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، واستمرار الاشتباكات والهجمات الإسرائيلية على الجنوب اللبنانى مما يزيد من إحراج حزب الله الذى يتجنب الدخول رسميًا فى الحرب حتى الآن.
وتكمن رمزية وأهمية الأحداث الأخيرة فيما تحمله من دلالات؛ حيث تحمل الضربات الإسرائيلية الأخيرة، فى طياتها العديد من الرسائل لإيران؛ أهمها:
- اغتيال العارورى فى بيروت، واغتيال صادق أوميد زده فى حى المزة فى العاصمة السورية دمشق، يحملان دلالة كبيرة؛ حيث تُعد بيروت معقل حزب الله، فيما يُعتبر حى المزة مربعًا أمنيًا شديد الحساسية بالنسبة لإيران؛ كونه منطقة أمنية تشكل تجمعًا لقادة الحرس الثورى وأيضًا الجماعات الموالية لطهران كحزب الله اللبنانى والجهاد الإسلامى وغيرها من الجماعات المسلحة، وبالتالى استهدافه بمثابة اختراق إسرائيلى للمنظومة الأمنية الإيرانية، وفشل واضح للحرس الثورى فى تأمين هذه المنطقة.
- تؤكد هذه الضربات أن الاستخبارات الإسرائيلية باتت متواجدة فى مناطق النفوذ الإيرانية، وأن كل الأهداف الإيرانية فى سوريا باتت معروفة ومستباحة لإسرائيل، كما تعنى أن القوة الاستخباراتية تميل لصالح إسرائيل التى تمكنت من تنفيذ عدة عمليات اغتيال لقيادات بارزة فى إيران وسوريا ولبنان، فى حين فشلت طهران وحلفاؤها فى تنفيذ عمليات مماثلة ضد قيادات إسرائيلية بنفس الأهمية.
- نجاح إسرائيل فى تكوين بنية استخباراتية فى إيران وباقى دول محور المقاومة، وبالشكل الذى يمنحها أفضلية تنفيذ عمليات اغتيال بالوقت والمكان الذى تريده، وذلك من خلال تجنيد العملاء، وتوفير مصادر دقيقة للمعلومات، وشبكة تجسس فاعلة وقادرة على إيصالها لأى شخصية وتحديدًا فى سوريا ولبنان.
- وصول الخطر الداعشى إلى الداخل الإيرانى؛ شهدت إيران يوم 3 يناير الجارى، هجومًا هو الأكثر دموية فى البلاد منذ الثورة الإيرانية؛ حيث وقع تفجيران انتحاريان فى مدينة كرمان بجنوب إيران، قرب مرقد القائد السابق لفيلق القدس فى الحرس الثورى قاسم سليمانى، وذلك خلال مراسم إحياء الذكرى السنوية الرابعة لاغتياله بغارة أمريكية فى مطلع عام 2020، وقد أسفر التفجيران عن مقتل حوالى 100 شخص وإصابة ما يقرب من 284 آخرين.
وفى الرابع من يناير الجارى، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مسؤوليته عن الهجوم، موضحًا أن التفجيرين نفذهما انتحاريان يرتديان حزامين ناسفين، فيما أفادت وزارة الاستخبارات الإيرانية أن أحد الإرهابيين الانتحاريين من الجنسية الطاجيكية، دخل إلى البلاد بشكل غير قانونى يوم 19 ديسمبر 2023.
ويحمل هذا الحدث دلالة كبيرة بالنسبة للنظام الإيرانى؛ حيث إن اختراق تنظيم داعش للأمن الإيرانى وإحداث تفجيرات بهذه القوة وخلال مناسبة لها رمزية كبيرة للنظام الإيرانى والإيرانيين، يشير إلى فشل أمنى واستخباراتى جديد للمؤسسات الأمنية الإيرانية، يزيد من إحراج النظام أمام الداخل والخارج.
وما يزيد الوضع تأزمًا على النظام الإيرانى، هو أن كيفية تعاطى النظام مع تلك التحديات يحدده عدد من المعطيات الخاصة بالوضع الداخلى، والتى تمثل مزيدًا من العبء على إيران؛ ومن هذه المعطيات:
- الانتخابات التشريعية فى مارس المقبل؛ والتى تأتى فى توقيت يعانى فيه النظام الإيرانى من ضعف فى شرعيته بالداخل؛ حيث إنها أول انتخابات بعد انتخابات عام 2020 والتى شهدت أدنى نسبة مشاركة منذ الثورة الإسلامية فى عام 1979، بنسبة مشاركة وصلت لـ42.5%، كما أنها أول انتخابات تشريعية بعد الاحتجاجات العارمة التى ضربت البلاد على خلفية مقتل الفتاة الكردية “مهسا أمينى” فى سبتمبر 2022، ويخشى النظام الإيرانى من تكرار نسب المشاركة المتدنية والتى ستعبر عن اهتزاز وتآكل الشرعية والتأييد الداخلى للنظام.
- حسابات الملف النووى؛ يأتى التصعيد (الإسرائيلى – الأمريكى) ضد إيران، بعد محاولات أمريكية لإعادة إحياء الاتفاق النووى المبرم عام 2015، إلى جانب اتفاق تبادل السجناء الموقع فى سبتمبر 2023، والذى حصلت طهران بموجبه على جزء من أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية، وهذا بالتأكيد يعقد حسابات طهران فى الرد على الاستفزازات الإسرائيلية، لأن من شأن ذلك القضاء على أى احتمالية للعودة إلى الاتفاق مرة أخرى فى حال تم التجديد لـ “جو بايدن”، وخاصةً أنه من المرجح أن تواصل طهران وواشنطن تبادل الرسائل عبر قنوات الاتصال من دون حدوث اختراق دبلوماسى يتعلق بالاتفاق النووى، حتى معرفة نتائج الانتخابات الأمريكية فى نوفمبر المقبل.
- استمرار الأوضاع الاقتصادية الخانقة فى البلاد؛ من المعطيات التى تضغط أكثر على النظام الإيرانى فى الداخل، استمرار الأزمة الاقتصادية التى تمر بها إيران منذ عودة العقوبات الاقتصادية عليها إثر الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى فى 2018، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية الناتجة عن الحرب (الروسية – الأوكرانية) وانتشار فيروس كورونا، هذا إلى جانب تجميد تسليم الأموال المفرج عنها من قبل كوريا الجنوبية إلى طهران فى ضوء اندلاع الحرب على غزة.
- ومن المتوقع أن تزداد هذه الأزمة حدة بعد الأنباء الواردة بشأن تعثر تجارة النفط بين الصين وإيران، والتى تُعد من أهم مصادر النظام المالية فى ضوء العقوبات المفروضة عليه، وذلك على خلفية امتناع طهران عن الشحن ومطالبتها لبكين بزيادة أسعار النفط، مما قد يقلص إمدادات النفط الإيرانى للصين.
- حسابات التقارب الإيرانى مع دول جوارها؛ فإيران تخشى أن تتخذ إجراءات تصعيدية فى المنطقة، من شأنها أن تهدد ما حققته من تقارب مع دول جوارها الإقليمى وخاصةً اتفاقها مع السعودية لعودة العلاقات بين البلدين، وبالتالى إعطاء مبرر لإحياء الرواية (الأمريكية – الإسرائيلية) القائمة على “شيطنة إيران”.
تحركات عسكرية فى اتجاهات عدة:
انطلاقًا من حجم الضغوط التى تعرضت لها طهران فى الآونة الأخيرة، وعلى خلفية التحديات سالفة الذكر، وجدت إيران نفسها مجبرة على التحرك والرد سريعًا، وإظهار جدية أكبر تجاه تلك التهديدات التى تمس أمنها القومى، ولذلك قامت طهران بتنفيذ ضربات عسكرية فى ثلاث دول هى سوريا والعراق وباكستان، مبررة ذلك تحت مبدأ الدفاع عن السيادة والأمن القومى ومكافحة الإرهاب، وهو ما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعانى، والذى صرح بأن “طهران تحترم سيادة الدول الأخرى ووحدة أراضيها، لكنها فى الوقت نفسه تستخدم حقها المشروع والقانونى لردع تهديدات الأمن القومى”، ويمكن توضيح التحركات الإيرانية على النحو التالى:
- استهداف إقليم كردستان العراق؛ أعلن الحرس الثورى الإيرانى أنه نفذ قصفًا بـ11 صاروخًا بالستيًا على مدينة أربيل بشمال العراق يوم 15 يناير الجارى، استهدف ما أسماه “مراكز تجسس تابعة للموساد وتجمعات لجماعات إرهابية مناهضة لإيران”، مما تسبب فى مقتل أربعة وإصابة ستة آخرين.
وكان من بين القتلى؛ رجل الأعمال الكردى الكبير بيشرو دزيى، والذى تتهمه إيران ببيع النفط السورى المهرب لإسرائيل، وتمويل جماعات مسلحة تعمل ضد إيران وسوريا، والعمالة لصالح الموساد الإسرائيلى، وتشغيل متقاعدين عسكريين أمريكيين فى مهام أمنية.
وقد أدان العراق الهجوم الإيرانى، واعتبره الرئيس العراقى عبد اللطيف انتهاكًا للسيادة العراقية، وتهديدًا لاستقرار المنطقة بأكملها، فيما استدعت بغداد سفيرها لدى طهران للتشاور، كما استدعت القائم بالأعمال الإيرانى وسلمته مذكرة احتجاج على هجوم أربيل، وكذلك أعلنت وزارة الخارجية العراقية يوم 16 يناير الجارى، تقديم شكوى ضد إيران إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة.
- استهداف إدلب السورية؛ بالتزامن مع الهجوم على أربيل، أطلق الحرس الثورى الإيرانى 4 صواريخ من طراز “خيبر شكن” تجاه ما أسماه “أماكن تجمع القادة والعناصر الرئيسية للإرهابيين وخاصةً تنظيم داعش فى الأراضى السورية وخصوصًا إدلب”، وبرر الحرس هذا الهجوم بأنه ردًا على تفجيرات كرمان التى أعلن التنظيم مسؤوليته عنها.
- استهداف باكستان؛ فى تصعيد عسكرى غير مسبوق بين الدولتين، شنت إيران غارات جوية على الأراضى الباكستانية يوم 16 يناير الجارى، استهدفت مقرين تابعين لتنظيم جيش العدل الذى ينشط على الحدود بين البلدين، وقد أدت تلك الغارات إلى مقتل طفلين وإصابة 3 آخرين.
وقد بررت طهران هذا الهجوم بأنه بمثابة رد على الهجوم الذى استهدف مركز للشرطة بسيستان وبلوشستان فى ديسمبر الماضى، مما أدى إلى مقتل 11 ضابط شرطة إيرانى، فضلًا عن ادعاء إيران بأن تحركها جاء بناءً على معطيات تشير إلى أن أكثر من 50 مسلحًا كانوا فى الموقع الذى استهدفته فى باكستان، يتهيؤون لتنفيذ عمل إرهابى جديد ضدها.
- نشر سفن حربية فى مياهها الدولية؛ فى ضوء التوترات بمنطقة البحر الأحمر والضربات الأمريكية لمواقع الحوثيين فى اليمن، أعلنت إيران نشر سفنًا حربية فى مياهها الدولية للقيام بمهمة متعددة الأبعاد، ووفقًا لقائد البحرية الإيرانية شهرام إيرانى؛ فإن السفينتين الحربيتين “بوشهر وطنب” غادرا ميناء بندر عباس الإيرانى يوم 19 يناير الجارى، وتشير تقارير إلى أن واحدة من مهام هذه السفن هى تقديم الدعم اللوجيستى والاستخباراتى للحوثى، من أجل تسهيل عملياتها ضد السفن الإسرائيلية والأمريكية.
- الاتهام بالوقوف وراء هجوم على قوات أمريكية فى الأردن؛ أعلنت القيادة المركزية الأمريكية، استهداف طائرة مسيرة لقاعدة أمريكية فى شمال شرقى الأردن بالقرب من الحدود السورية، مما تسبب فى مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة 34 آخرين، وتُعد هذه الخسائر البشرية هى الأولى التى تتكبدها القوات الأمريكية المتمركزة فى الشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب فى أكتوبر الماضى.
وقد سارع الرئيس الأمريكى “جو بايدن”، بتوجيه الاتهام إلى إيران حيث صرح بأن الهجوم انطلق من الداخل السورى وخاصةً من إحدى المليشيات المدعومة إيرانيًا، متعهدًا بمحاسبة كل من تورط فى هذا الهجوم، وهذا قد يُنذر بمزيد من التصعيد فى المنطقة بين واشنطن وطهران، وخاصة على الأراضى السورية.
جاءت التحركات الإيرانية مدفوعة بعدد من الرسائل والدلالات التى أرادت طهران إرسالها إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، وأهمها:
- إظهار القدرة على الردع؛ فقد رغبت إيران من الضربات المتتالية لثلاث دول فى المنطقة، تأكيد جاهزيتها للرد، واستعدادها لمواجهة أعدائها متى ما تطلب الأمر منها، وقدرتها على اتخاذ إجراءات ردع تتناسب مع التهديدات التى تواجهها.
- التأكيد على امتلاكها قدرات صاروخية عالية؛ فقد انطلقت الصواريخ الإيرانية من أقصى جنوب غرب إيران فى خوزستان إلى أقصى شمال غرب سوريا بمسافة تقترب من 1300 كيلومتر، كما قطعت مسافات طويلة فوق القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا، دون أن تكتشفها المضادات الجوية لتلك القواعد، مما يرسل رسالة إلى إسرائيل مفادها أن الصواريخ الإيرانية قادرة على الوصول لأراضيها، كما تبرهن هذه المسافة الطويلة على الدقة العالية التى تتمتع بها صواريخ طهران الباليستية.
- الرغبة فى التغطية على فشلها الأمنى والاستخباراتى؛ والذى ظهر فى الاختراقات المتكررة من قبل إسرائيل لشبكة نفوذها فى سوريا ولبنان، إلى جانب الاختراق الداعشى للمنظومة الأمنية فى طهران.
- التلويح بقدرتها على خلط كافة الأوراق الإقليمية فى المنطقة؛ فالتحركات العسكرية الأخيرة لإيران، ترسل رسالتين إحداهما لمحور المقاومة الذى تترأسه، مفادها أن النظام الإيرانى يدعم تحركاته على كافة الأصعدة حتى العسكرية، والأخرى موجهة إلى الولايات المتحدة، ومفادها أن طهران بإمكانها التصعيد ورفع مستوى التوتر فى المنطقة واللعب باستقرارها وأمنها كما شاءت، وأنه على الإدارة الأمريكية التفكير أكثر من مرة قبل أى استهداف للنفوذ الإيرانى فى المنطقة.
قراءة تحليلية للضربات الإيرانية:
- التأكيد على النفوذ الإيرانى فى العراق والتمسك به؛ تستشعر إيران الخطر بشأن مصالحها فى العراق خاصةً فى ضوء اتباع رئيس الحكومة العراقى محمد شياع السودانى سياسة توازن بين العلاقات مع طهران وواشنطن، إدراكًا منه أنه لا يمكنه الاصطفاف لطرف دون الآخر فى هذا التوقيت الحرج؛ حتى لا يتحول العراق مجددًا إلى ساحة لتصفية الحسابات والمواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، ولذلك جاءت الضربات الإيرانية لتؤكد أهمية ومحورية النفوذ الإيرانى فى بغداد، ورفض طهران لأن يتحول العراق إلى مهدد لأمنها القومى، فضلًا عن الضغط على الحكومة العراقية من أجل التعجيل بإنهاء وجود قوات التحالف الدولى والوجود العسكرى الأمريكى فى البلاد.
ولم يكن اختيار أربيل اعتباطيًا من أجل إرسال هذه الرسائل؛ وإنما كان هناك عدد من الأسباب ومنها: العلاقات الوثيقة التى تجمع بين حكومة إقليم كردستان وإسرائيل، والخلاف بين حكومة الإقليم وإيران بخصوص بقاء قوات التحالف الدولى وقواعده فى البلاد؛ فبينما ترغب طهران فى إنهاء تواجد قوات التحالف فى العراق، لا تعارض حكومة الإقليم استمرارها، فضلًا عن كون الإقليم وحكومته هو الحلقة التى لم تستطع إيران اختراقها سياسيًا حتى الآن.
- تصعيد محسوب بين إيران وباكستان؛ رغم أن باكستان كانت الدولة الوحيدة التى ردت على الضربات الإيرانية بضربات مماثلة يوم 18 يناير الجارى، استهدفت 9 مواقع لجيش تحرير بلوشستان وجبهة تحرير بلوشستان فى مدينة سراوان بمقاطعة سيستان بلوشستان الإيرانية، مما أودى بحياة 9 أفراد، إلا أن كلا الدولتين حرصتا على عدم التصعيد والتأكيد على أن تلك الهجمات لا تمثل اعتداء على بعضهما البعض، حيث جمع اتصال هاتفى بين وزيرى الخارجية لكلا البلدين يوم 19 يناير، أكدا خلاله أهمية الحفاظ على استقرار العلاقات بينهما، وتعزيز التنسيق الأمنى فيما يخص أمن الحدود بين الدولتين، ويمكن تفسير أسباب ميل إيران وباكستان نحو التهدئة، على النحو التالى:
- تركيز الدولتين على صراعات أخرى؛ حيث تولى طهران اهتمامًا أكبر لمصالحها فى الشرق الأوسط وخاصةً فى سوريا ولبنان واليمن، فيما يتمثل التهديد الأمنى الرئيسى لباكستان فى حدودها الشرقية مع خصمها الأول؛ الهند.
- إدراك إيران جدية التهديد الصادر عن الجيش الباكستانى المسلح نوويًا، وكذلك عدم جاهزيتها لخوض حرب جديدة قد تشغلها عن تنفيذ تدخلاتها الأخرى فى الإقليم ومناكفتها للولايات المتحدة وإسرائيل.
- اقتراب الانتخابات التشريعية فى البلدين، مما يمنعهما من الخوض فى غمار حرب قاسية تزيد من ضغوط الداخل، وتكبدهما خسائر مادية تعمق من الأزمة الاقتصادية التى تواجهها كلا من إيران وباكستان.
- لا تغيير فى قواعد الاشتباك بين إيران والولايات المتحدة؛ حيث لا تعبر الضربات الإيرانية عن تغيير قواعد اشتباكها مع الولايات المتحدة، بل إنها جاءت كرسالة تحذيرية ومناوشة من قبل النظام الإيرانى لإثبات قدرته على الردع ضد الضربات الأمريكية والإسرائيلية، أما فى حقيقة الأمر لا إيران ولا الولايات المتحدة لديها رغبة فى الدخول بمواجهة عسكرية مباشرة؛ لأن كلاهما يدرك أن هذه المواجهة ستكبدهما الكثير.
كما أن إيران تعلم جيدًا أن أى مواجهة بينها وبين إسرائيل لن تكون فى صالحها، وأن أى تحرك عسكرى مباشر من جانبها نحو القوات الإسرائيلية سيُقابله رد عنيف غير محسوب من قبل “تل أبيب”، خاصةً وأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يرغب فى مثل هذه المواجهة لإطالة أمد الحرب، ومن ثم البقاء فى السلطة واستمرار حكومته.
وبناءً عليه؛ من المحتمل أن يتولى التصعيد وكلاء طهران فى المنطقة، فى ظل الحسابات بشأن تكلفة المواجهة المباشرة بين إيران من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، وقد تكون سوريا هى الجبهة الأكثر ترجيحًا لاشتعال المواجهة بين طهران وواشنطن أكثر من العراق ولبنان.
ويُستدل على هذا الاستنتاج من الهجوم الأخير على القوات الأمريكية فى الأردن، والذى انطلق من الجهة السورية، مما يعنى أن الرد الأمريكى سيكون على المليشيات المدعومة إيرانيًا المتمركزة على الأراضى السورية والتى اتهمها الرئيس الأمريكى بالوقوف وراء الهجوم، وهنا جدير بالملاحظة أن إيران أوكلت أمر هذا الهجوم إلى مليشياتها ولم ينفذه الحرس الثورى الإيرانى على عكس الضربات الأخيرة على العراق وسوريا وباكستان، والسبب فى ذلك أن طهران أرادت تجنب المواجهة مع الولايات المتحدة لأن الحرس محسوب سياسيًا على النظام الإيرانى الذى يعتبر الحرس الثورى جزء أصيل من الجيش النظامى للبلاد، بينما المليشيات الأخرى غير محسوبة سياسيًا على طهران التى أكدت منذ اندلاع الحرب فى غزة أن أطراف محور المقاومة تتحرك وفق مصالحها ومصالح دولها وليس لخدمة إيران.
استنتاجات ختامية:
– تتوقف حالة الارتياب الأمنى التى يشهدها الشرق الأوسط، على مسار الحرب فى غزة خلال الأسابيع المقبلة؛ ففى حالة استمرار التصعيد الإسرائيلى، فإنه من المتوقع زيادة التصعيد من جانب وكلاء إيران ضد المصالح الأمريكية سواء فى العراق أو لبنان أو سوريا أو فى منطقة البحر الأحمر، مما يطيل أمد الحرب، أما إذا نجحت جهود الوساطة الحالية فى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار فى القطاع، ستكون أذرع إيران مجبرة على التهدئة لأنها ستفقد مبررها الذى كانت تتحرك تحت غطاءه ألا وهو نصرة المستضعفين الفلسطينيين ضد جرائم الإبادة الإسرائيلية.
– أكدت حرب غزة مرة أخرى أن طهران باتت اليوم رقمًا مهمًا فى معادلة الاستقرار الإقليمى، وأنها قادرة على التحكم فى رتم الإيقاع بالإقليم، ولذلك يجب احتواؤها وليس التصعيد ضدها، وهو ما أدركته مؤخرًا بعض الدول العربية التى باتت منفتحة على تسوية الخلافات بينها وبين إيران مثل السعودية ومصر، ولكن على أساس احترام مصالح الآخرين وشؤونهم الداخلية، والعمل على التعاون والتكامل الإقليميين.
– الضربات الأمريكية والاغتيالات الإسرائيلية التى طالت كبار قادة الحرس الثورى وحزب الله فى سوريا ولبنان، لن تكون دافع كافى لإيران من أجل التخلى عن سياستها المعروفة “الصبر الإستراتيجى”، وهذا ما اتضح عند اغتيال قاسم سليمانى فى مطلع يناير 2020 بغارة أمريكية، واغتيال العالم النووى محسن فخرى زاده على يد إسرائيل وفى قلب إيران بنوفمبر 2020، حيث فى الحالتين لم تغامر طهران برد عنيف واكتفت بتفويض وكلائها للرد سواء فى العراق أو سوريا.
– يتضح من الضربات الإسرائيلية ونظيرتها الإيرانية، اختلاف الرؤية بين الدولتين؛ ففى حين تتمحور عمليات تل أبيب حول الكيف؛ حيث استهداف قيادات إيرانية مؤثرة سواء فى مشروعها النووى أو الإقليمى، تتمحور عمليات طهران حول الكم؛ حيث القيام بعدد كبير من الهجمات سواء من قبل حزب الله أو الجماعات المسلحة فى العراق وسوريا ضد الأهداف الإسرائيلية والأمريكية، ولكنها تكون دون تأثير وليس بقوة العمليات الإسرائيلية.