إعداد: ميار هاني
المـقـدمـة:
تتسارع التحولات في منطقة الساحل الإفريقي لغير صالح فرنسا، فبعد أن أكملت سحب قواتها من جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية مالي في نهاية عام 2022، ستشرع فرنسا بسحب جميع قواتها المتمركزة في بوركينا فاسو في غضون شهر من الآن، وذلك على خلفية طلب “إبراهيم تراوري”، زعيم المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو منذ الانقلاب في سبتمبر الماضي، إنهاء الاتفاق العسكري بين البلدين الموقع في نهاية العام 2018 ومغادرة القوات الفرنسية أراضي البلاد.
وينتشر نحو 400 جندي من القوات الخاصة الفرنسية في بوركينا فاسو في إطار مهمة “سابر” (Sabre)، (بمعنى “السيف” بالفرنسية) لصد الزحف الإرهابي الذي انتشر عبر منطقة الساحل الإفريقي من دولة مالي خلال العقد الماضي.
مــحــفــزات عــديــدة:
هناك عدة أسباب تفسر اتجاه بوركينا فاسو لإنهاء الاتفاق العسكري بين البلدين، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
- تـأزم الـوضـع الأمـنـي:
تعانى بوركينا فاسو من تهديدات إرهابية بشكل متزايد منذ عام 2015، والتي نتج عنها مقتل الآلاف ونزوح نحو مليوني شخص من منازلهم، وعليه جاء توقيع الاتفاق العسكري بين البلدين لمكافحة خطر الإرهاب المتنامي في البلاد، إلا أن بوركينا فاسو شهدت خلال الأشهر الأخيرة تصاعدًا كبيرًا في وتيرة الهجمات الإرهابية، وأصبحت الجماعات المتطرفة تسيطر على نحو 40% من أراضي البلاد، وتعمل على تأليب الرأي العام على السلطات، وبالتالي ثمة استياء سببه الانطباع بأن القوات الفرنسية فشلت في الحد من الزحف الجهادي بالبلاد أو في منطقة الساحل الإفريقي بشكل عام، وهو ما صرح به “أبولينير يواكيم تامبيلا”، رئيس الوزراء البوركيني المؤقت، بأن بعض الشركاء الدوليين لبلاده لم يكونوا أوفياء دائمًا في مكافحة الإرهاب. كما بات يُنظر لإعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حول سياسة فرنسية جديدة تجاه الساحل في غضون شهور قليلة باعتباره التفافًا من باريس على فشلها في المنطقة ومحاولة إعادة إحياء نفوذها هناك.
- تـوتـر الـعـلاقـات مـع فـرنـسـا:
تنامت التوترات بين واجادوجو وباريس خلال الأشهر الأخيرة، ووصلت إلى ذروتها في ديسمبر من العام الماضي على خلفية طلب بوركينا فاسو استبدال السفير الفرنسي لديها، “لوك هالادى”، وهو الأمر الذى رفضته فرنسا، فضلًا عن قرار المجلس العسكري في الشهر ذاته، بتعليق عمل راديو فرنسا الدولي، بعد اتهامات وُجهت للمحطة ببث رسائل ترهيب لزعيم إرهابي.
- زيـادة حـدة الـغـضـب الـشـعـبـي:
وكما حدث في مالي قبل بضعة أشهر، شهدت الأسابيع الأخيرة تحرك معادٍ للوجود الفرنسي في شوارع واجادوجو، عندما اندلعت مظاهرات تطالب برحيل الجنود الفرنسيين من البلاد أمام فشلهم في وضع حد لنشاط تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”، فضلًا عن كونه مستعمرًا سابقًا للمنطقة؛ ففي 28 أكتوبر، تظاهر مئات الأشخاص للمطالبة بـ”مغادرة فرنسا البلاد في غضون 72 ساعة”. وفي 19 نوفمبر، تظاهر المحتجون أمام السفارة الفرنسية رافعين أعلام روسيا، فيما توجه بعضهم إلى قاعدة “كامبوينسين” العسكرية حيث تتواجد قوة “سابر”. وبالتالي جاء هذا القرار تزامنًا مع تنامي المشاعر المعادية لفرنسا وتجدد المظاهرات في العاصمة واجادوجو ضد الوجود العسكري الفرنسي في البلاد.
- تغلغل روسي متنامٍ:
هناك رغبة للمجلس العسكري الحاكم في واجادوجو بتقويض النفوذ الفرنسي، والبحث عن قوى دولية بديلة يمكن الاستفادة من خبراتها للصمود أمام الضربات العنيفة التي توجهها الجماعات المسلحة، وعليه فتحت البلاد أذرعها لروسيا التي نجحت في تقديم نفسها باعتبارها المنقذ لدول المنطقة، وقد تجلى ذلك التقارب في تبادل الزيارات بين البلدين، حيث زار “يواكيم تامبيلا” روسيا في ديسمبر 2022، وصرح بأن «روسيا هي خيار المنطق في هذه الدينامية»، و«نعتقد أن شراكتنا يجب أن تتعزز»، إلى جانب تقديم روسيا الدعم العسكري واللوجستي، فضلًا عن انخراطها عبر بوابة “فاجنر” الأمنية في البلاد، والتي تنتشر عناصرها في عدد من الدول الإفريقية بما في ذلك مالي وإفريقيا الوسطى وغيرهما، وكان رئيس دولة غانا، “نانا أكوفو أدو”، قد أكد أثناء القمة الإفريقية – الأمريكية، التي عقدت في ديسمبر 2022، أن “بوركينا فاسو أنهت، على غرار مالي، اتفاقًا مع فاجنر، من أجل نشر قوات تابعة لها في البلاد”، وقد أشارت تقارير غربية إلى اتفاق المجلس العسكري الانتقالي مع شركة فاجنر على تخصيص منجم ذهب في جنوب بوركينا فاسو للشركة مقابل الخدمات الأمنية التي ستقدمها، وبالتالي تعتبر “فاجنر” سلاح روسيا القوى للتمدد في الدول.
انـعـكـاسـات مـحـتـمـلـة:
يُلاحظ أن هناك عدة انعكاسات مُحتملة قد تترتب على قرار حكومة بوركينا فاسو ضد فرنسا وتقاربها من روسيا، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
- تـصعـيد الـمـجـمـوعـة الاقـتـصاديـة لـدول غـرب إفـريـقيـا (الإيـكـواس) ضـد بـوركـينـا فـاسـو:
قد تتعرض بوركينا فاسو للضغوطات وفرض للعقوبات من قبل الإيكواس، بسبب تقاربها من روسيا واعتمادها على عناصر فاجنر، ويعزز هذا الطرح تأكيد رئيس مجموعة الإيكواس الحالي “أومارو سيسكو إمبالو” دعم المجموعة لجهود بوركينا فاسو في مواجهة الإرهاب المتزايد، في محاولة لتجنب انزلاق البلاد نحو موسكو، وذلك خلال زيارته إلى العاصمة واجادوجو في 11 يناير 2023.
- تـأجـيـج الـتـوتـر مـع دول إقـلـيـمـيـة:
قد يفضى تواجد قوات “فاجنر” في البلاد إلى تأزم العلاقة بين بعض الدول الإقليمية، لاسيما بين بوركينا فاسو وغانا، وذلك لرفض الأخيرة تواجد “فاجنر” على حدودها وتخوفها من امتداد الاضطرابات الأمنية إلى الداخل الغاني، ويعزز هذا الطرح دخول البلدين بأزمة دبلوماسية مؤخرًا، حيث استدعت بوركينا فاسو السفير الغاني لديها للاحتجاج على اتهامات الرئيس الغاني “نانا أكوفو أدو” بتوظيفها قوات “فاجنر” لمساعدتها في محاربة التمرد واستخدامها منجمًا لدفع رواتبهم، وذلك خلال لقائه وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، على هامش اختتام القمة الإفريقية – الأمريكية، التي عقدت بواشنطن ما بين 13 و15 ديسمبر الماضي، لمواجهة التغلغل الروسي الصيني في إفريقيا؛ وقد تعرب بعض دول المنطقة عن قلقها إزاء وجود مرتزقة “فاجنر” على حدودها كما هو الحال في أزمة غانا الأخيرة.
- تـكـريـس الـتـنـافـس الـدولـي:
من المرجح أن تشهد الفترة القادمة تصاعدًا في وتيرة التنافس الروسي – الغربي في المنطقة، فقد أصبح هناك تكتل إقليمي موالٍ لموسكو، يضم دول مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى، مع عدم استبعاد انضمام المزيد من الدول في المستقبل، إذ تسارع موسكو بتوسيع دائرة تحالفاتها في المنطقة من خلال تقديم نفسها كحليف قوى مدجج بأدوات ناجحة في محاربة الإرهاب، واستغلالها تنامى المشاعر المعادية لفرنسا، بما يدعم نفوذها في الساحة الإفريقية ويكسبها المزيد من القبول، وهو الأمر الذى يمثل مصدر تهديد للمصالح الغربية، والتي من المتوقع أن تسعى هي الأخرى خلال الفترة المقبلة لتوسيع نفوذها وتكثيف ممارساتها لتشويه صورة الروس في المنطقة، مما قد يترتب عليه وقوع صدام بين الطرفين ربما يؤدى إلى توتير السياق الإقليمي في الساحل.
- استمرار تــردى الأوضــاع الأمـنـيـة:
اعتمدت استراتيجية فرنسا في بوركينا فاسو على فرض فكرة الحماية والدعم الأمني، فيما تناست جهود التنمية لمعالجة جذور الأزمة، مما أسهم في استمرار العنف في المنطقة. ومع اتباع الشركة الروسية الاستراتيجية ذاتها، فمن المتوقع استمرار أو تزايد الضربات الإرهابية في البلاد على غرار الأوضاع الأمنية التي تشهدها مالي، والتي لم يساعد التواجد العسكري الروسي بها على تحقيق الأمن في المنطقة؛ وبالتالي فإن استراتيجية الخيار العسكري المتبعة من قبل القوى الكبرى، لن تسهم سوى في مزيد من عدم استقرار ومزيد من الأزمات الإنسانية لتلك البلاد.
الـخــاتـمـة:
تشهد منطقة الساحل تحولًا استراتيجيًّا سريعًا فيما يتعلق بتبادل الأدوار الدولية، فباتت فرنسا تفقد مزيدًا من النفوذ في مناطق هيمنتها التقليدية لصالح أطراف أخرى متحفزة مثل روسيا، والتي تسعى لملء الفراغ الذى تخلفه باريس بهدف تعظيم نفوذها وسيطرتها على الثروات الطبيعية هناك عبر عدة أدوات أهمها “فاجنر”، ومع انخراط الشركة الروسية في البلاد، قد تستعد “واجادوجو” لسلسلة من الضغوط المتتالية بهدف تغيير قرارها خلال الفترة المقبلة، مع تقويض علاقتها بالغرب وبعض الدول الإقليمية المحيطة بها في حال عدم عدولها عنه، وتكريس التنافس الدولي في المنطقة.
فهل سيستمر التقدم الروسي مقابل الانسحاب الغربي من دول الساحل والغرب الإفريقي؟