إعداد: شيماء ماهر
في إطار المساعي الروسية لرفع العقوبات الغربية عليها نتيجة لأعمالها العدوانية وانتهاكاتها الجسيمة منذ بدء حربها على أوكرانيا، وفي ظل حرص روسيا على استخدام الموارد كسلاح للضغط على الدول الغربية لرفع العقوبات عليها، قامت موسكو باستخدام الخبز كأداة للضغط على الدول الغربية عن طريق وقف اتفاقية الحبوب الموقعة بينها وبين أوكرانيا، متهمه الغرب بتفضيل المصالح التجارية على الأهداف الإنسانية، وسوف يكون لهذا القرار عواقب وخيمة على جميع دول العالم خاصة الدول الإفريقية مما ينذر بحدوث مجاعة عالمية وتهديد كبير للبشر يفوق تداعيات وباء كورونا.
أولًا: قرار روسيا بالانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب
اعلنت روسيا انسحابها في ١٧ يوليو ٢٠٢٣م من اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود التي كانت تسمح بمرور المواد الغذائية إلى مناطق كثيرة حول العالم، وصرح المتحدث الرسمي باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” إن الصفقة توقفت اليوم، إلا أن موسكو مستعدة للعودة إليها بمجرد تنفيذ الجزء الروسي منها، وأبلغت روسيا رسميا اليوم كلا من تركيا وأوكرانيا والأمانة العامة للأمم المتحدة اعتراضها على تمديد صفقة الحبوب بسبب عدم تحقيق الغرض منها.
ثانيًا: أهمية اتفاقية تصدير الحبوب:
ترجع أهمية هذه الاتفاقية إلى موقع أوكرانيا في سوق الحبوب العالمي إذ تعد واحدة من أكبر موردي الحبوب حيث يعتمد 400 مليون شخص في جميع أنحاء العالم على الحبوب الأوكرانية بالإضافة إلى تخوف العديد من دول العالم من حدوث مجاعة خاصة في البلدان الفقيرة في أفريقيا والشرق الأوسط؛ نتيجة لارتفاع أسعار الغذاء بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتعرض ملايين الأطنان من الحبوب في الصوامع الأوكرانية لخطر التعفن، وتعرض الكثير من الدول خاصة الإفريقية لأزمات نقص الغذاء.
وعلى وقع ذلك، صرح الاتحاد الأوروبي بأن عملية الحفاظ على إمدادات الحبوب الأوكرانية يعد أمرا بالغ الأهمية للأمن الغذائي العالمي، ولذلك قامت تركيا بدعم من الأمم المتحدة بالوساطة بين روسيا وأوكرانيا من أجل توقيع اتفاقية تسهل نقل الحبوب إلى المناطق الفقيرة في العالم، وقد نجحت المفاوضات التركية وتم التوصل لاتفاق بين روسيا وأكرانيا تم التوقيع عليه في إسطنبول برعاية الأمم المتحدة في يوليو من العام الماضي.
ثالثًا: بنود اتفاقية تصدير الحبوب بين روسيا والدول الغربية
نصت الاتفاقية على أن تسمح روسيا بالتصدير الآمن للحبوب من موانئ أوكرانيا المطلة على البحر الأسود الخاضعة للسيطرة الأوكرانية، لكن يجب أن تمر سفن الشحن عبر ممر بحري إنساني متفق عليه صوب إسطنبول حيث يتم فحص السفن في طريقها من وإلى الموانئ الأوكرانية في قاعدة تركية من قبل فريق خاص من المفتشين يضم خبراء روس وأتراك وأوكرانيين ومن الأمم المتحدة، في المقابل السماح لروسيا بتصدير الأسمدة والمنتجات الغذائية إلى الأسواق العالمية.
ويعمل فريقان من فرق العمل التابعة للأمم المتحدة على ضمان شحن الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، لكنهما لا يعملان على تسهيل تصدير المنتجات الغذائية والأسمدة الروسية
رابعًا: هل نجح اتفاق تصدير الحبوب؟
ساعدت الاتفاقية وأيضا ما يُعرف بـ “ممرات التضامن الأوروبية” الداعمة للصادرات الأوكرانية، في خفض أسعار المواد الغذائية وأيضا استقرارها، إذ تم تصدير أكثر من ٣٠ مليون طن من الحبوب ومنتجات غذائية أخرى منذ توقيع الاتفاقية وحتى الشهر الحالي.
وتعتبر الدول النامية هي المستفيد الأكبر من ذلك حيث تم شحن حوالي 64% من القمح في حين تم تصدير الذرة بشكل متساوٍ تقريبا بين البلدان المتقدمة والنامية، لكن في مارس الماضي، صرحت وسائل إعلام بانخفاض عمليات شحن الحبوب الأوكرانية بشكل كبير، كما تم نقل 40% من الحبوب المشحونة عبر الممر إلى أوروبا، ٣٠ % إلى آسيا، 13% إلى تركيا، ١٢% إلى أفريقيا فضلًا عن ٥% للشرق الأوسط.
خامسًا: أسباب قيام روسيا بوقف اتفاقية الحبوب:
هددت روسيا مرارا بالانسحاب من اتفاق الحبوب، بسبب عدم تلبية مطالبها حيث طالبت روسيا بخمسة مطالب فى إطار تنفيذ الاتفاقية ومن ضمن هذه المطالب إعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام (سويفت)، وتوريد قطع غيار اللازمة للزراعة الروسية، وإلغاء حظر لوجستيات النقل والتأمين، وإعادة إحياء خط أنابيب الأمونيا “تولياتي – أوديسا”، وإلغاء تجميد أصول الشركات الروسية.
وأكدت وزارة الخارجية الروسية مايو الماضى أنه فى حال عدم الوفاء بهذه المطالب، فلن يكون هناك أى توسيع لمبادرة البحر الأسود وسيتم وقف العمل بالاتفاقية بعد 17 يوليو المقبل.
و لم يتم تنفيذ هذا الاتفاق أيضًا نظرا لوقوف العقوبات الغربية حجر عثرة على طريق تطبيق الاتفاقية، حيث تعاقب شركات التأمين وخدمات الموانئ السفن التي تتعامل مع روسيا، كما ترفض أوكرانيا إطلاق خط أنابيب الأمونيا، الذي يتم تصدير الأمونيا إلى الاتحاد الأوروبي، وقامت قوات أوكرانيا بتفجير الخط بعد إعلان روسيا تعليق تسجيل السفن الأوكرانية في الموانئ حتى إطلاق خط أنابيب الأموني.
ولذلك صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في محادثة هاتفية مع رئيس جنوب إفريقيا “سيريل رامافوزا’ إلى عدم تنفيذ مطالب روسيا حتى الوقت الحالي والتى تتضمن توريد الحبوب إلى البلدان المحتاجة بما في ذلك القارة الإفريقية.
سادسًا: هل هناك بديل لحل هذه الأزمة بعيدًا عن روسيا ؟
كانت الموانئ الأوكرانية مغلقة قبل التوصل إلى الاتفاق في تركيا في يوليو ٢٠٢٢م ، وسوف يكون هناك صعوبة في شحن الحبوب إذا انسحبت روسيا، ومن المؤكد أنه في حال انسحاب روسيا، فإن تكلفة التأمين سوف تتزايد بشكل كبير، خاصة وأن هناك كثيراً من المخاطر التي قد تواجه السفن الأوكرانية من بينها وجود السفن الحربية الروسية في البحر الأسود، والألغام البحرية العائمة، كما يمكن أن يتردد أصحاب السفن في إدخال سفنهم إلى منطقة حرب من دون موافقة روسيا.
وعندما ننظر إلى وضع أوكرانيا بعد إعلان روسيا الحرب عليها نجد أنها كانت تصدر كميات كبيرة من الحبوب عبر دول شرق الاتحاد الأوروبي، لا سيما المجر وبولندا ورومانيا، منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية ومع ذلك، كانت هناك العديد من التحديات اللوجيستية، بما في ذلك اختلاف مقاييس السكك الحديدية بين الدول.
وهناك مشكلة أخرى تتمثل في أن تدفق الحبوب الأوكرانية عبر شرق الاتحاد الأوروبي يتسبب بالفعل في اضطرابات بين المزارعين في المنطقة، ويعتبر المزارعون أن الصادرات الأوكرانية قوضت الإمدادات المحلية، وتم شراؤها من قبل المطاحن، مما تركهم دون سوق لمحاصيلهم والدليل على ذلك منعت بولندا مؤقتاً واردات الحبوب الأوكرانية لتخفيف التأثير على الأسعار، رغم أنها قالت إنه لا يزال يُسمح لها بعبور البلاد، كما قام المزارعون الرومانيون بمنع عمليات التفتيش على الحدود بالجرارات والشاحنات، ومن الممكن أن تزيد هذه الاضطرابات إذا أرادت كييف تصدير كميات أكبر وبالتالي سوف يكون هناك صعوبة كبيرة بالنسبة لأوكرانيا في تصدير الحبوب برًا.
سابعًا: ردود الأفعال الغربية على قرار روسيا باستئناف اتفاقية الحبوب
تعددت ردود الأفعال الدولية على انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، فنجد أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرح بعد قرار روسيا تعليق مشاركتها في اتفاق تصدير الحبوب قائلًا “حتى بدون روسيا الاتحادية، يجب القيام بكل شيء حتى نتمكن من استخدام ممر البحر الأسود هذا لسنا خائفين”.
كما قال أيضًا “تواصلت الشركات وأصحاب السفن معنا، قالوا إنهم مستعدون، إذا سمحت لهم أوكرانيا بالمغادرة، وواصلت تركيا السماح لهم بالمرور، فعندئذ سيكون الجميع على استعداد لمواصلة توريد الحبوب”.
وقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاثنين، إنه يعتقد أن نظيره الروسي يريد الاستمرار في الاتفاق وإنهما سيناقشان تجديد الاتفاق في اجتماعهما الشهر المقبل
ووصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، قرار روسيا بأنه “خطوة أنانية ” وأضافت أن الاتحاد الأوروبي سيواصل بشكل كبير العمل لضمان الأمن الغذائي للدول الفقيرة.
وعلى الجانب الآخر صرح المستشار الألماني أولاف شولتس إن هذه “أنباء سيئة”، وقال إن الإجراء يظهر أن ” روسيا لا تشعر بالمسؤولية عن التعايش الجيد في العالم “.
وأعرب أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن بالغ أسفه لقرار موسكو بشأن اتفاق الحبوب وقال إن الاتفاق كان شريان حياة للأمن الغذائي العالمي في عالم مضطرب وإن مئات الملايين ممن يواجهون الجوع والمستهلكين الذين يواجهون أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة عالميا سيدفعون الثمن
وختامًا
في حالة عدم موافقة روسيا على تمديد اتفاق الحبوب، فسوف يكون مصير استمرار أوكرانيا في شحن الحبوب إلى دول العالم بنفس المعدلات الحالية مجهولًا، وسوف يكون ارتفاع تأمين سفن الشحن مخاطرة كبيرة إذ قد ينجم عن ذلك توقف شركات الشحن العالمية عن نقل الحبوب في منطقة الحرب إذا لم تحصل على موافقة روسية.
ومن الممكن أن يكون خيار نقل الحبوب الأوكرانية برا هو الحل المناسب لأوكرانيا ولكن توجد صعوبات في تنفيذ هذا الحل، فرغم أن أوكرانيا صدرت كميات كبيرة من الحبوب عبر دول شرق الاتحاد الأوروبي، إلا أنه لا يوجد عدد كاف من عربات الشحن اللازمة لتصدير جميع الحبوب الأوكرانية برا، وإذا لم يتوصل الجانبان إلى اتفاق فمن المتوقع ارتفاع أسعار الغذاء ومواجهة دول العالم مرة أخرى مشكلة نقص في إمدادات الغذاء وحدوث مجاعة عالمية.