مالى بين الحاضر والماضى… ومستجدات الأزمة

إعداد: دينا لملوم عبيد

لقد كانت مالى مستعمرة فرنسية حصلت على استقلالها عام 1960، وشهدت على مدار سنوات عديدة قوى شد وجذب بين عدة فواعل، بدءًا من تراخى السلطة السياسية، وعدم قدرتها على إحكام قبضتها على الدولة والتصادم مع المؤسسة العسكرية، مرورًا بالصراع بين إقليمى الشمال والجنوب، الذي يعد لب النزاع فى مالى برمتها، فضلًا عن التنوعات الإثنية وهيمنة إثنية واحدة على مقاليد الحكم، منذ حصول مالى على استقلالها، وتدخل أطراف دولية مختلفة، وفى النهاية انزلقت البلاد إلى نفق مظلم من التخبطات التى أعقبها تدهور اقتصادى، وامتداد للأذرع الدولية داخل العمق المالى؛ لحل الأزمة، والجلوس على طاولة المفاوضات مرارًا وتكرارًا، دون أن تُجدى هذه المحاولات نفعًا، فما زال الوضع يتخلله الغموض والتعقيد فى ظل الحرب الروسية الأوكرانية، التى فرضت على العالم ظروفًا قاسية عليه أن يتخطاها ويتحمل خسائرها.

الجذور التاريخية للأزمة:

لم تكن الأزمة فى مالى وليدة اللحظة، بل بدأت منذ عام 1958 وظلت نشطة حتى وصلت لعام 2012، وتمثلت هذه الأزمة فى حدوث فجوة بين إقليمى الشمال والجنوب، فذلك الإقليم الشمالى تقطنه قبائل الطوارق “قبائل رُحل يستوطنون الصحراء الكبرى وهناك طوارق يقطنون إقليم أزواد شمال مالى”، الذين يعملون بالرعى وأما فى الجنوب فيعملون فى الجانب التنموى والخدمى، مما فاقم من الأزمة بين الإقليمين؛ وأدت إلى وجود نزعة انفصالية بينهما، لشعور الطوارق بالتهميش، وظهرت هذه المعضلة لأول مرة عام 1958، والتى سعت لتحقيق حلم دولة “طوارق” تمتد من الحدود المصرية وحتى أقصى غرب القارة، ومنذ بداية الستينيات سعى “الطوارق” من أجل الانفصال عن الدولة، إلا أن النظام حينذاك أجهض مطالبهم، وفى عام 2011 انضم معظم شباب هذه القبائل إلى ميليشيات “معمر القذافي”؛ للمشاركة فى الثورة الليبية، وتمكنوا من اكتساب خبرة قتالية لا بأس بها عززت من موقف الانفصال، وبدأت سلسلة التصادمات مع الجيش المالى، وفى ظل هذا التمدد الطوارقى، ضربت مالى أزمة مالية جوهرها عدم الاستقرار السياسى، وعدم التوزيع العادل للثروة والسلطة بين الشمال والجنوب، وأصبحت المنطقة أرض خصبة للحركات الإسلامية المتطرفة، خاصة بعد تسرب بعض أسلحة الجيش الليبى من قبل العناصر التى قاتلت مع “القذافى”، وقد كان تدهور الأوضاع فى ليبيا بمثابة الشرارة التى ألهبت فتيل الحركات الإسلامية، وعندما حاولت الحكومة احتواء هذا الخطر الداهم بالاستناد إلى بعض النخب المحلية، والفصائل المسلحة والمليشيات، قوبلت بفشل وانعدام القدرة على احتواء الأزمة.

واتضح أن النظام فى ذلك الوقت كان على علاقة مع أصحاب أعمال مشبوهة، لهم صلة بتنظيم القاعدة، وتلك كانت تحالفات هشة لن تُفضي إلى مصلحة الدولة، وفاقمت من التوترات الإثنية والقبلية، ولم تُلقِ بظلالها على العقبات التى تتلفح بالدولة، كالفقر والمرض والتخلف، وقد أدى فشل الحكومة إلى بروز كيانات تناوئ السلطة المركزية، فبات الوضع أكثر تشابكًا، حيث وقع اشتباك بين الجيش المالى وحركات التحرير التابعة لأزواد، وقد كان هناك تقاعس سلطوى من قبل الحكام وتراخى فى مواجهة “الطوارق”، الذين طوقوا الجيش المالى بأسلحتهم، ولم يكن ذلك الأمر وحده هو السبب وراء حالة التنافر بين صفوف الجيش، وإنما الفساد والانتهازية من قبل النخبة العسكرية كان العامل الرئيسي فى الأزمة، كما أن الانقلاب العسكرى كان بمثابة حجر الزاوية الذى بنى عليه المتمردون قوتهم.

وأخيرًا بدأت قوة “الأزواد” تتفحل وتزداد شراسة حتى أعلنت استقلالها عن مالى بشكل رسمى، إلا أن العديد من الدول والجهات الفاعلة على المستوى الدولى والإقليمى مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس” لم تعترف بـ “الأزواد”، وأن مالى ما زالت كتلة واحدة لا يمكن تجزئتها.

الأطراف الفاعلة فى الصراع يتم تصنيفها إلى أطراف داخلية وأخرى خارجية:

أولًا: الأطراف الداخلية:

السلطة السياسية: لقد أدت هشاشة السلطة السياسية، وعدم قدرتها على إحكام قبضتها على إقليم الشمال، وتحقيق مبدأ العدالة فى توزيع الموارد والاهتمام بمشروعات التنمية بين الشمال والجنوب إلى اشتعال أزمة الانفصال بين الإقليمين.

المؤسسة العسكرية: تفحل دورها وتدخلها فى مسار السلطة السياسية عرقل من مسار عمل هذه السلطة وزاد من هشاشة الدولة.

الطوارق: هم سكان منطقة الشمال، الذين أرادوا الانفصال عن مالى، بعدما شعروا بمدى التهميش والمحاباة للجنوب على حساب مصلحة إقليمهم، فبدأوا ينتهجون النهج العدواني، وطالبوا بالانفصال؛ متبعين فى ذلك العنف والإرهاب.

ثانيًا: الأطراف الخارجية:

فرنسا: كانت قد أعطت مالى استقلالها عام 1960، وعادت ثانيةً؛ بحجة دعم الدولة المالية، ودحر “الطوارق” عسكريًا، وتحقيق الاستقرار فى الدولة، فضلًا عن مساندة النظام الحاكم.

روسيا: استغلت تدهور العلاقة بين فرنسا والسلطات المالية ودفعت بقوات “فاغنر” الروسية داخل العمق المالى؛ لإجراء عمليات عسكرية وتدريب للجنود.

الولايات المتحدة الأمريكية: تسعى إلى تعزيز عملية الانتقال السياسى فى مالى ودعم جهود مكافحة خطر الجماعات الإرهابية خوفًا من زيادة حدة هذه المخاطر وتهديد الدول المجاورة.

الصين: هدفت إلى تعزيز الاستثمارات والشراكات فى دولة مالى ومشاركتها فى قوات حفظ السلام؛ من أجل التغلغل فى إفريقيا والسيطرة على ثرواتها.

ليبيا: أثرت فى الأزمة المالية بشكل غير مباشر، فعندما انطلقت الثورة الليبية تحركت “طوارق” من مالى؛ لمساندة القذافى، ثم بعد ذلك عادوا مدججين بالسلاح إلى شمال مالى، الأمر الذى وضع اللبنة الأولى لتنامى دور التنظيمات المسلحة فى الدولة.

مقدمات التدخل الفرنسي فى مالى:

وسط هذه التخبطات جاء تدخل فرنسا ليعزز من موقف مالى، ولم يكن هذا التدخل مفاجئًا، بل كانت لاعبًا دوليًا مهمًا، سعى من أجل جذب الجهود الدولية؛ للحفاظ على وحدة مالى، وقد أدت سيطرة المجموعات الإسلامية على شمال مالى واعتزامها التغلغل فى الجنوب، واستهداف العاصمة “باماكو” إلى إعلان فرنسا تدخلها العسكرى بشكل مباشر بعدما تقدمت إليها الحكومة المالية بطلب رسمى، فأصبح تدخل فرنسا مبررًا على أنه مساندة من قبل دولة صديقة وليس انتقاصًا لسيادتها.

أسباب التدخل العسكرى الفرنسى فى مالى:

جاء التدخل الفرنسى فى مالى ضمن سلسلة من المطامع الفرنسية فى منطقة غرب إفريقيا، التى أعدتها كمنطقة نفوذ جيوسياسى تلعب فيها دور المؤثر، من خلال علاقاتها مع أنظمة هذه الدول، فلم يكن تدخلها فى مالى وليد الصدفة، بل إنها تدخلت أكثر من 40 مرة فى بلدان كانت مستعمرات سابقة لها، وكانت تتدخل فى إفريقيا؛ لتحقيق أهداف باطنها المصالح الشخصية، وظاهرها مساندة فواعل سياسية، ودعم التحولات الديمقراطية، وقد جاءت المصالح الاقتصادية على رأس أهداف فرنسا الرامية إلى تأمين مصالحها مع دول مجاورة لمالى، مثل النيجر التى تستخلص منها فرنسا “اليورانيوم”، الذى يغذى المحطات النووية الفرنسية، وعليه فإن تهديد استقرار مالى يعنى بالطبع تهديد مصالح فرنسا التى تستميت من أجل ألا تقاسمها أى قوى أخرى فى هذه الثروات، كتبنيها سياسة عسكرية هجومية ضد الولايات المتحدة الأمريكية؛ من أجل ترسيخ نفوذها فى القارة، والمثير للدهشة هو مدى تقاعس المجتمع الدولى عن الوقوف أمام تدخلات فرنسا العسكرية فى مالى، بل على النقيض من ذلك فقد لاقت فرنسا دعمًا دوليًا من روسيا على سبيل المثال والتى أعربت عن استعدادها لتقديم دعم عسكرى.

ثمار عسكرية تجنيها القوات الفرنسية:

لقد تمكنت فرنسا من تحقيق هدفين من أهدافها المعلنة، أولهما، التمكن من تطويق الجماعات الإسلامية المتطرفة، ووقف زحفها نحو الجنوب، وثانيهما، تحرير معظم المدن الرئيسية فى الشمال، واللافت للنظر فى هذه القضية هو مدى التخاذل والتراجع من قبل دول المغرب العربى فى اتخاذ قرار حاسم لردع الأوضاع المتردية على حدودها الجنوبية، فكان لابد من وجود دور رائد لمثل هذه الدول فى حل الأزمة المالية، خاصة وأن ما آلت إليه مالى كان جزءًا من الثورة الليبية، التى كانت سببًا فى انتشار السلاح فى المنطقة، واستخدمه المتمردون ضد الدولة، وكان من ضمن دوافع فرنسا قطع الطريق على تنامى الدور التركى فى الساحل الإفريقى؛ انطلاقًا من الأزمة الليبية وجهود التعاون مع نيجيريا وموريتانيا، ورأت أن ذلك يمثل تهديدًا وتحديًا واضحًا لفرنسا.

تعاقبات سلطوية مالية فاشلة:

توالت الحكومات على مالى وجاءت حكومة “بوكر كيتا”، ورغم فشل سياساته، إلا أنه سعى لتمرير مشروع تعديل الدستور الصادر عام 1992؛ بهدف تنفيذ بنود اتفاق السلام فى مالى الموقع عام 2015؛ لإعطاء صلاحية لامركزية للسلطات المحلية فى الشمال؛ إرضاءً لهم مقابل التخلى عن المطالبة بالانفصال عن الجنوب، ولكن سرعان ما باءت هذه المحاولة بالفشل، ربما لاعتبار ذلك خطوة تمهيدية نحو تحقيق الانفصال، أو احتمالية إعطاء صلاحية واسعة لإقليم الشمال، فانهارت الثقة بين الشعب والحكومة بعد تنامى الأذرع الطويلة للعمليات الإرهابية، وانعدام الأمن فى البلاد، بالإضافة إلى إحداث أضرار إنسانية جسيمة للمجتمع المالى، وفى هذا الصدد تم توجيه اتهامات للرئيس “كيتا”، باختلاس أموال الدولة، وممارسة أعمال الرشوة، ناهيك عن مسؤولية الدولة عن الإضرار بمجالات الصحة والتعليم والمرافق العامة، ومطالبة الرئيس فى نهاية المطاف بالتنحى عن السلطة.

الدوافع التركية نحو الأزمة فى مالى:

من بين الأهداف الرئيسية للتقارب التركى مع المجلس العسكرى الحاكم فى مالى:

  • السعي وراء تحقيق المصالح التركية فى المقام الأول، وتأمين العديد من المصالح الإستراتيجية فى عمق القارة الإفريقية.
  • تثبيت أقدام تركيا فى الساحل الإفريقى، خاصة بما تضمنته هذه الاتفاقيات من دور تركى مؤثر فى تعزيز القدرات العسكرية وأمن الحدود.
  • تضييق الخناق على الحضور الفرنسى فى إفريقيا: حيث تشهد الشهور الأخيرة توترًا حادًا فى العلاقات بين تركيا وفرنسا، خرج للعلن أكثر من مرة فى صورة حرب كلامية بينهما.

موقف الجزائر من الصراع فى مالى:

اتبعت الجزائر فى بداية الأزمة موقفًا سلبيًا أشبه بالانتظار وترقب الأحداث، وبات الماليون يعتقدون أن ذلك الإهمال هدف إلى معاقبة مالى؛ بسبب خطايا رئيسها “توري”، الذى اتهمه الجزائريون بالتواطؤ مع تنظيم القاعدة فى المغرب الإسلامى، وقدمت الجزائر حجتها بأن ذلك الموقف جاء بناءً على التزامها بأهداف مكافحة الإرهاب فى مالى وليس محاربة التمرد، وتُرَجّع الجزائر عدم تدخلها فى مالى إلى عدة عوامل، منها الالتزام بمبدأ عدم التدخل، والخوف من امتداد هذه التهديدات إلى أراضيها، ومن ثم زعزعة الاستقرار الداخلى، وقد رفضت الجزائر التدخل العسكرى بشكل قاطع وكانت تقدم الدعم للسلطة فى مالى وتقدم المساعدات الغذائية لها، وقامت بدفع آلاف العسكريين لتأمين الحدود الجنوبية مع مالى؛ تجنبًا لحدوث أى هجمات من قبل القوى المالية المتطرفة، إلا أنه بنهاية يناير 2022 أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية عن هجوم إرهابى أسفر عن مقتل جنديين جزائريين.

اتفاق الجزائر:

فى إطار المساعى المستمرة لإقليم أزواد وراء استقلال الإقليم، تم توقيع اتفاق السلام والمصالحة بوساطة جزائرية عام 2015، والذى نص على إعادة بناء الوحدة الوطنية لمالى، مع الوضع فى الاعتبار تنوعها الإثني وإعادة تشكيل جيش وطني من أعضاء الجماعات المسلحة، وتعزيز الاقتصاد خاصة فى الشمال بشكل نزيه وعادل، وقد اتفقت الحكومة وحركات أزوادية فى أغسطس 2022، على تفعيل اتفاق السلام بدمج 26 ألف مقاتل سابق من الحركات فى الجيش عامي 2023/2024، ولكن سرعان ما تم توجيه الاتهامات للحكومة بتجميد الاتفاق، الذى لم يُنفذ حتى الآن.

محاولات “الإيكواس” لاحتواء الأزمة:

سعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، إلى تنفيذ عمليات انتشار عسكرى فى مالى على مرحلتين: الأولى، تهدف إلى تأمين عملية الانتقال السياسى وتجديد المؤسسة العسكرية، والثانية، القيام بالتدخل العسكرى فى الشمال، إلا أن فوضى الجيش المالى جعلته يرفض نشر جنود من غرب إفريقيا فى العاصمة “باماكو”، فضلًا عن رفض أى تدخل مباشر من قبل المجموعة الاقتصادية، وقد أثار دعم الاتحاد الأوروبى لمبادرة هذه المجموعة لتسوية النزاع فى مالى حفيظة الجزائر، حيث تعتبر التدخل العسكرى الممول من قبل الاتحاد الأوروبى تدخلًا أجنبيًا فى فنائها الخلفى؛ مما أدى إلى وجود تنسيقات بين الطرفين لتأتى جهود الاتحاد الأوروبى مكملة لجهود الجزائر.

وفى يناير 2022، أعلنت المجموعة أنها سوف تغلق الحدود مع مالى، وسوف تفرض عليها عقوبات اقتصادية شاملة؛ بسبب التأجيل غير المبرر وعدم احترام الموعد النهائى للانتخابات التى وعدت السلطات المؤقتة بإجرائها بعد الانقلاب العسكري، الذى وقع عام 2020، وجاء قرار المجموعة بإغلاق الحدود مع مالى، وحظر الطيران المالى، فضلًا عن تعليق التجارة معها “باستثناء المنتجات الأساسية”، وتجميد أصولها فى البنك المركزى لدول غرب إفريقيا، وهذه العقوبات لن تُرفع، إلا إذ تم تقديم جدول زمنى مقبول لإجراء الانتخابات، وقد قدم المجلس العسكرى اقتراحًا لإجراء الانتخابات فى 2026، وهو ما عبرت عنه المجموعة بأنه غير مقبول؛ نظرًا لبقاء الشعب رهينة فى يد حكومة عسكرية انتقالية غير شرعية لمدة خمس سنوات، وجاء عدم الالتزام والقدرة على تحديد موعد محدد للانتخابات فى ظل أزمة طاحنة تمر بها البلاد، وقد لاقت هذه العقوبات رفضًا وغليانًا من قبل الشارع المالى؛ رغبةً منهم فى تقرير مصيرهم بأنفسهم.

تعاون مثمر بين إيران ومالى:

على خلفية الدعم النووى، سعت إيران نحو التعاون البناء مع مالى، وتوسيع قاعدة الحلفاء من دون الغرب؛ لكسب مزيد من التأييد حول المفاوضات النووية، كما أن إيران هدفت لضم مالى إلى سوق السلاح الإيرانى، عبر بيع الأسلحة التى تساعدها على التصدي للإرهابيين، وكبقية الطامعين، تطمح إيران فى مزيد من التنافس على القارة الإفريقية، كما تتواجد قاعدة واسعة لإيران فى مالى، كالمؤسسات الاقتصادية والثقافية والطبية، مثل المركز الطبى التابع للهلال الأحمر الإيرانى.

دور الولايات المتحدة الأمريكية فى دعم عملية الانتقال السياسى فى “باماكو”:

دعت الولايات المتحدة إلى تعزيز عملية الانتقال السياسى فى مالى أولًا قبل الانجراف وراء العمليات المسلحة فى الشمال وزادت مخاوف أمريكا بشأن مدى قدرة تنظيم القاعدة فى المغرب الإسلامى على استخدام شمال مالى كنقطة انطلاق لزعزعة الاستقرار فى الدول المجاورة، وقامت بعمليات تدريب عسكرية؛ لمكافحة الإرهاب، وتقديم المساعدة العسكرية للدول الأكثر عرضة للتهديدات الناجمة عن الفوضى فى مالى، وتسعى الولايات المتحدة جاهدة بالتعاون مع المجموعة الاقتصادية؛ لوضع خطة فعالة لحفظ السلام فى مالى.

النفوذ الصينى فى مالى:

خلال عقود تمكنت الصين من بناء شراكة كبيرة مع مالى فى العديد من المشروعات ومراكز التدريب المهنى ومشاريع السكك الحديدية؛ مما جعلها تحظى بمكانة رفيعة لدى مالى تميزها عن الشركاء الأجانب، وفى يناير 2023، تمكنت شركة “هاينان” الصينية من توقيع صفقة مع مالى جعلتها تهيمن على الاستثمار فى منجم “الليثيوم”، ونجد أن مشاركة الصين فى قوات حفظ السلام، ما هو إلا دبلوماسية ناعمة تسعى من خلالها نحو الانخراط فى إفريقيا وتمهد لتدخلها فى الحروب الأهلية.

اتهامات موجهة لفرنسا:

فى ظل الاتهامات الموجهة لفرنسا من قبل السلطات المالية بأنها تخلت عن مالى وتركتها فى منتصف الطريق، وقيامها بطرد السفير الفرنسى، نجد أن وجود فرنسا لم يحل الأزمة على مدى السنوات التى ظلت قواتها متمركزة فى مالى، بل تعرضت لخسائر فادحة من قبل التنظيمات الإرهابية، والتى أسفرت عن خسائر كبيرة فى الأرواح، منذ نهاية 2019، وقد كان مجيء “فاغنر” إلى مالى بمثابة الآفة التى قوضت العلاقة بين “باريس وباماكو”، وخلقت تهديدًا آخر وتنافسًا محمومًا بين “فاغنر” والجماعات المتطرفة على الثروات الطبيعية والمعادن، حيث بدأت عمليات التنقيب داخل مناطق الألماس والذهب واليورانيوم، وتم تهجير السكان من هذه المناطق، وقد استغلت “روسيا” توتر العلاقة بين “فرنسا” والمجلس العسكري؛ لتتقرب من مالى بعد الانقلاب العسكرى عام 2020، وأمدتها بالمساعدات العسكرية؛ لكى تحل محل القوات الفرنسية.

وفى صدد خروج آخر جندى فرنسى من الأراضى المالية فى 15 أغسطس 2022، قامت وزارة الخارجية المالية بتوجيه رسالة إلى مجلس الأمن الدولى اتهمت فيها فرنسا بأنها تدعم جماعات مسلحة فى البلاد، من خلال تسليمها ذخائر وأسلحة وبعض المعلومات الاستخباراتية كانت قد جمعتها قبل مغادرة الأراضى المالية؛ مؤكدة أنها لديها أدلة تثبت تورط فرنسا فى دعم الجماعات الإرهابية، ودعت مجلس الأمن إلى عقد اجتماع طارئ فيما يتعلق بالوضع الأمنى فى البلاد، وإدانة الانتهاكات المتكررة للمجال الجوى المالى من قبل فرنسا.

انفراجة روسية تعيد ترتيب المشهد السياسى:

بعد الانقلاب ضد “كيتا” بدأ التوجه نحو روسيا، وبدأ الشعب المالى يعبر عن استيائه من فرنسا ورحب بالتعاون الروسى، وأصبح يتعطش لدور روسي يقضى على التنظيمات العسكرية شمال البلاد بعدما عجزت فرنسا عن ذلك.

انتشار قوات “فاغنر” الروسية فى مالى إبان الحرب الروسية الأوكرانية:

تزامن وصول جنود “فاغنر” إلى مالي مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية وسط حالة من التخبطات بين فرنسا ومالى والتشكيك فى شرعية سلطة المجلس العسكرى الجديد، والسماح لقوات “فاغنر” الروسية العسكرية الخاصة بالتغلغل فى العمق المالى، وذلك فى ظل انسحاب القوات الفرنسية فى مالى، وقد عبر الاتحاد الأوروبى عن مدى استيائه من دعم روسيا لقوات مثل “فاغنر” الخبيثة، التى ارتكبت انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان، ولكن السلطات المالية فى البداية نفت وجود مثل هذه المجموعات وأنها لم تتلقَ سوى دعم عسكرى من الجيش الروسى.

واتضح بعد ذلك أن السلطة الحاكمة فى مالى اتجهت للاستعانة بعناصر “فاغنر”؛ بسبب قرار فرنسا بتخفيض عدد قواتها فى الساحل الإفريقى، وإجلاء القواعد العسكرية شمال مالى، أيضًا وصول المجلس العسكرى فى مالى بقيادة الرئيس الانتقالي “أسيمي غويتا” إلى طريق مسدود مع قادة المجموعة الاقتصادية بشأن تحديد موعد لنهاية الفترة الانتقالية، ووضع جدول زمنى لإجراء الانتخابات الرئاسية.

انسحاب مالى من مجموعة الدول الخمس:

فى عام 2014 تشَّكلت مجموعة دول الساحل الخمس فى العاصمة الموريتانية “نواكشوط”، بناءً على رغبة فرنسا فى قمة شملت 5 من دول الساحل؛ هى “بوركينا فاسو وتشاد ومالى وموريتانيا والنيجر”، وكان الغرض من المجموعة، تحقيق التنمية الاقتصادية وتعزيز الأمن، ومحاربة تهديد المنظمات المسلحة العاملة فى مالى ومنع تمددها فى باقى دول المنطقة، إلا أن مالي أعلنت فى مايو 2022 انسحابها من هذه المجموعة ومن قوتها العسكرية المكلفة بقتال الجماعات الإسلامية المسلحة فى المنطقة، وذلك احتجاجًا على رفض توليها رئاسة هذه المنظمة الإقليمية، بالإضافة إلى انزلاق العلاقة بين مالى وفرنسا فى نفق مظلم وصل إلى حد القطيعة، والتوترات التى انتابت العلاقة بينهما على إثر دخول القوات الروسية إلى مالى، وقد يؤول ذلك فى النهاية إلى انتهاء المجموعة والدخول فى مسار التفكك، أو حتى الشلل التام فى أعمالها وأنشطتها، إذ أن الأمر متوقف على ما آلت إليه الأوضاع فى مالى، وهل ستعود ثانية إلى هذه المجموعة، أم سيكون انسحابها بمثابة انسحاب لا رجعة فيه.

اعتقالات متكررة:

فى 14 أغسطس من العام المُنصرم، اتهمت مالى، ساحل العاج بمحاولتها المساس بأمن الدولة، ووجهت اتهامات للجنود المعتقلين؛ مما أعقبه الرد من قبل “ساحل العاج” بنفى هذا الاتهام والمطالبة بإطلاق سراح الجنود المعتقلين، ولكن “باماكو” قد اشترطت تسليم شخصيات سياسية مالية لاجئة فى ساحل العاج لإطلاق سراح المعتقلين، ومازالت محاولات الوساطة قائمة لحلحلة هذه المعضلة، ولكنها فشلت فى التوصل إلى حل مُرضٍ لجميع الأطراف، وتحذير مالى من استغلال المجموعة الاقتصادية لصالح طرف على حساب طرف آخر.

من ناحية أخرى، قامت مالى باحتجاز 49 جنديًا من “كوت ديفوار” فى يوليو 2022، ووجهت إليهم أصابع الاتهام بأنهم مرتزقة يحاولون الإضرار بالأمن القومى للدولة المالية، وأعقبه الرد من “كوت ديفوار” بأنهم يعملون فى إطار مهمة حفظ السلام الأممية، وطالبت بإطلاق سراحهم، ولكن لم يتم الإفراج إلا عن 3 جنود، وما زالت البقية محتجزة فى “باماكو”.

هجوم إرهابى على بعثة الأمم المتحدة:

ما زالت الأذرع الطويلة للتنظيمات الإرهابية كتنظيم القاعدة الممثل فى جماعة “نصر الإسلام والمسلمين” تعبث بالبلاد، حتى قامت بشن هجمات إرهابية، وتمكنوا من قتل مسؤول فى بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام، وإصابة جنديين اثنين، وأشارت الأخبار إلى أن هذين الجنديين مصريان، وذلك إثر انفجار لغم شمال مالى، وأوضحت أن هذه الواقعة قد تشكل جرائم حرب، كما أن قوات البعثة تمكنت من صد هجوم إرهابى على القاعدة المؤقتة لها فى مدينة “تمبكتو”، وما زال الوضع الأمنى فى مالى غير مستتب، حيث توالت الانسحابات منها، ولم يتم إيجاد بديلًا لهذه الدول المنسحبة، وتسعى الأمم المتحدة جاهدة لإجراء مناقشات مع العديد من الدول لسد هذه الفجوة.

تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الأوضاع فى مالى:

لقد سلطت الحرب فى أوكرانيا الضوء على القوات الروسية ووكلائها، الأمر الذى زاد من حرص “الكرملين” على استمرار الوجود الروسى فى مالى، والممثل فى مجموعات “فاغنر”، أيضًا ظهر لدينا سلسلة من الانسحابات الدولية من مالى، فعند دخول قوات “فاغنر” الروسية الأراضى المالية، زادت التوترات بين فرنسا والمجلس العسكرى، حتى تم إجلاء القوات الفرنسية عن البلاد، وتلاها قيام الاتحاد الأوروبى بسحب قواته، وإن كانت هذه الانسحابات من الممكن أن تكون فى صالح مالى، ولكن فى ظروف غير ما تمر به البلاد حاليًا من عدم استقرار، وعدم سيطرة السلطة على الأوضاع ومعالجة القضايا التى أنهكت الدولة، لذا يتضح لنا ضرورة وجود تكاتف دولى، فى ظل انتشار قوات مثل “فاغنر”، التى تُزيد من حصيلة الانتهاكات الإنسانية ضد المدنيين يومًا بعد يوم، فلابد من تدخل الاتحاد الأوروبى لانتشال البلاد من حالة الفوضى والانهيار الاقتصادى والأوضاع التى كادت أن تؤدى بالسكان.

وختامًا:-

يبدو وكأن الوضع أشبه بحلقة معقدة من الصراعات والتوترات، حيث وجود وساطات أوروبية وتدخلات العديد من الدول، ولكن الوضع يزداد من سيء لأسوء، خاصة فى ظل الحرب الروسية الأوكرانية التى فاقمت من تدنى الأوضاع فى مالى، فما كان لمستعمر أن يسهم فى حل أزمة، بل زاد الأمر سوءًا وتعقيدًا، فذلك التدخل الفرنسى ظل سنوات فى مالى، ولم يتمكن من القضاء على التنظيمات الإرهابية التى ما زالت كالآفة  تزعزع استقرار البلاد وتقوض أسمى معانى الإنسانية، حتى أُصيبت فرنسا بيأس نتيجة عدم قدرتها للتغلب على الأوضاع ومجيء الدعم العسكرى الروسى ليحدث الوقيعة بين “باماكو وباريس”، ويتمكن من التغلغل بقواته الجرارة داخل الأراضى المالية، وجعل السلطات فى مالى تعتقد أن روسيا بمثابة القشة التى ستنقذ البلاد من الغرق.

ولكن الأوضاع كانت تزداد سوءًا، وكشفت عن مدى أطماع روسيا فى ثروات مالى، هكذا يكون الغرب وهكذا تكون مطامعهم، فكيف للسلطات المالية أن تظل هشة وحمقاء إلى هذا الحد؟  تتغافل عن الحقيقة، وتلجأ لقوى خارجية لتخرجها من محنتها، كيف والتاريخ يشهد على أنه ما كان للتدخل فى أوضاع داخلية لدولة أفريقية، إلا وكانت وراءه أسباب خفية تنبع من الرغبة فى ابتلاع ثروات هذه البلاد حتى فى ظل أسوأ الأحوال، ليظل السؤال قائمًا، من العدو الأكبر لمالي؟ هل التنظيمات الإرهابية؟ أم “فاغنر” الروسية؟ أم حتى السلطات المالية ذاتها؟ أم أن الجميع على قدر واحد من الوحشية؟

إذن فالجميع مشتركون فى أزمة ضحيتها الكبرى الشعب المالى.

كلمات مفتاحية