محددات يقف عليها مستقبل الاتفاق “السعودي – الإيراني”

إعداد: رضوى الشريف

باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط

مقدمة

استكمالًا لما بدأته الصين في شهر مارس الماضي، برعايتها للاتفاق “السعودي – الإيراني”، عُقدت في العاصمة الصينية بكين، الاجتماع الأول اللجنة الثلاثية “السعودية – الصينية – الإيرانية” المشتركة، في 15 ديسمبر 2023. وتأتي تلك الخطوة حاملة في طيَّاتها دلالة مهمة من ناحية توقيتها؛ حيث ترى بكين، أن التصعيد الجاري في المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، يتطلب أعلى درجة من التنسيق الممكن بين القوى الأساسية في المنطقة من جهة، وبين هذه القوى الإقليمية والقوى الدولية صاحبة المصلحة في استقرار المنطقة وحلِّ مشاكلها القديمة والجديدة.

منذ هجوم السابع من أكتوبر، يبدو أنه طرأت تغيُّرات على الديناميكيات العربية في الشرق الأوسط، وعلى أولويات سياساتها الخارجية؛ وفي ظل عدم وجود أيِّ مؤشرات على انتهاء الحرب الإسرائيلية – التي تدخل أسبوعها الثالث عشر – في المدى القريب، هناك مخاوف جادَّة من أن يتم تقويض المعادلات القائمة في المنطقة قبل الحرب على غزة، والتي من أهمها الاتفاق “السعودي – الإيراني”.

وبقراءة للأحداث الراهنة من تحرُّكات أمريكية نشطة؛ لتعزيز تواجدها العسكري لدعم إسرائيل، ولحماية مصالحها الأمريكية في الشرق الأوسط، والذي يأتي متزامنًا لردود عسكرية إيرانية، عن طريق أذْرُعِها في (لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن)؛ من أجل دعم المقاومة الفلسطينية (حركة حماس) في غزة، يبدو أن هذه الأحداث تُعِيدُ إلى الأذهان تجارُب المنطقة، خلال العقد الذي تلا ما يُعرف بـ “ثورات الربيع العربي”، والتي شهدت صراعات ونزاعات، وفجوات كبيرة بين دول المنطقة، وتصادم في المصالح والأهداف، وهناك مخاوف خليجية وعربية من أن تندلع الصراعات في تلك الدول مرةً أُخرى بشكلٍ يهدد (بيئة الاستقرار)، التي حاولت الدول الفاعلة في الإقليم، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، بلعب دوْرٍ كبيرٍ في صياغتها خلال السنوات الماضية؛ فتجد المملكة نفسها وسط خلافات ملحوظة مع الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل، واختلاف في المقاربة السياسية مع السلوك الإيراني الداعم للتحرُّكات العسكرية، سواء لحركة حماس أو عن طريق أذْرُعِها في (سوريا، ولبنان، واليمن، والعراق).

ويطرح الوضع الراهن تساؤلات حول مستقبل المناخ الاستراتيجي الذي سعت المملكة في تحقيقه قبْل هجوم السابع من أكتوبر، المناخ الذي يُعدُّ مرهونًا بمسار الاتفاق “السعودي – الإيراني”، والذي يمكن رسمه عن طريق جملة من المحددات التي يمكنها ضمان نجاح وسريان الاتفاق، و يُعتبر مدخلًا نحو تحقيق استقرار المنطقة، وفي الوقت نفسه قد تكون سببًا في فشل الاتفاق، والعودة إلى مناخ ما قبله من تصعيد واتهامات متبادلة ما بين “الرياض، وطهران”، ولعل ذلك لا يخدم صالح المنطقة.

أولًا: الحسابات السياسية الإقليمية ما قبل الحرب على غزة

منذ ثلاثة أعوام تحديدًا، برز في المنطقة نهْج إقليمي جديد، يركز على تصفية الخلافات، متمثل ذلك في اتفاقيات “عربية – إسرائيلية”، وتحسن العلاقات بين “السعودية، وإيران”؛ لتخفيف التوتُّرات في مناطق مثل “اليمن، والعراق، وسوريا”، كما شهدت المنطقة تقارُبًا عربيًّا مع “تركيا، وسوريا”، وكان هناك توجُّه نحو مبادرات السلام والشراكات الإقليمية، المرتبطة أحيانًا بالسياسات الجيوسياسية الدولية، ويبدو أن غالبية تلك التحوُّلات لعبت المملكة العربية السعودية بشكلٍ أساسيٍّ في تحقيقها، لم تكن لتتحقق لولا تغيير المملكة في نهْج سياستها الخارجية خلال السنوات الماضية.

وكان هذا النَّهْج الجديد الذي تبنَّته دول المنطقة، وخاصَّة دول الخليج العربي، مصحوبًا بوجود مخاوف وقلق إزاء احتمال تراجع الوجود الأمريكي في المنطقة، وتخلِّي الولايات المتحدة عن التزاماتها المطلوبة، بالإضافة إلى إهمالها للمطالب الخليجية المتعلقة بمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة، وخاصَّةً تلك الناتجة عن الصراع مع إيران وأذْرُعِها،

وبالتركيز على المملكة العربية السعودية بشكلٍ خاصٍّ؛ نظرًا لمكانتها الجيوستراتيجية المختلفة والفاعلة في الإقليم وخارجه، تصدَّرت المملكة كواحدةٍ من دول الخليج الرئيسية، التي شعرت في السنوات الماضية بالقلق إزاء احتمال تناقُص الوجود الأمريكي في المنطقة، وتغير تركيز واشنطن بعيدًا عن الخليج العربي؛ فالعلاقة بين “السعودية، والولايات المتحدة” تتجاوز مجرد تحالف استراتيجي، فهي على دراية بأهميتها التاريخية، وتعتبرها أكثر من مجرد تحالف، بل علاقة ذات طابع وجودي؛ حيث تاريخيًّا؛ كانت الحماية الأمريكية العنصر الرئيسي لأمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك المملكة، ومع تزايد مشاعر المملكة بما يُشبه الإهمال الاستراتيجي من قِبّلِ واشنطن، والذي تزايد بعد تولِّي إدارة “بايدن” السلطة، في مطلع عام 2021، بدأت المملكة بفتح قنوات جديدة مع القوى الدولية الأخرى مثل الصين، التي نجحت بجهودها الدبلوماسية لرعاية اتفاق بين “السعودية، وإيران” في مارس 2023، والذي بموجبه تم انتهاء القطيعة الدبلوماسية، التي استمرت لمدة سبع سنوات بين البلديْن، وإعادة فتح سفارتيْ البلديْن في كل من “الرياض، وطهران”، واللقاءات والزيارات المتبادلة لوزيريْ خارجية البلديْن، أو على مستوى قادة البلديْن.

يأتي التقارُب بين “السعودية، وإيران” متماشيًا مع التغيُّرات في السياسة الخارجية السعودية، خلال السنوات القليلة الماضية، والتحوُّلات الجارية على الساحة الدولية، هذا التحوُّل يعكس استنتاجات توصلت إليها الرياض، بعد تجربتها في أزمات المنطقة، خلال العقد الماضي، مؤكدةً على صعوبة حسْم هذه النزاعات، وخاصَّةً الأزمة اليمنية؛ حيث أدركت القيادة السعودية أن استمرار النزاع في اليمن يستنزف مواردها المالية والاقتصادية والعسكرية؛ ما دفعها نحو السعي إلى حل الأزمة، حتى قبل المحادثات مع إيران، وانطلاقًا من حرص المملكة على تبنِّي مبادرة جديدة؛ لاستقرار أمن الإقليم ، بعيدًا عن الاعتماد على الولايات المتحدة، يُلاحظ خلال الأشهر المنصرمة، بوجود حراك سعوديّ نَشِط، مدفوع بعدة متغيّرات أساسية؛ أولها: محاولة الرياض بأن تصبح مركزًا دبلوماسيًّا إقليميًّا، عبْر استضافتها القمّة “العربية – الأمريكية” في شهر يوليو الماضي، وكذا القمّة “العربية – الصينية”، في شهر ديسمبر 2022، وثانيها: رغبة السعودية في استثمار تداعيات الاتفاق “الصيني – السعودي –  الإيراني”، في تعزيز حراكها الدبلوماسي في عدة ملفات عربية إقليمية مهمّة، خصوصًا “اليمن، ولبنان”، وسوريا التي عادت إلى أحضان الجامعة العربية خلال قمة جدة، في مايو الماضي بعد سنوات عديدة من العُزْلة العربية، وحتى بالنسبة للعراق، حاولت السعودية جذبه بصورةٍ أكبر نحو “عُمْقه العربي”، خصوصًا “مصر، والأردن”، وكذا حرص السعودية على إشراك العراق في القمم الدولية العربية؛ ما يعكس رغبةً سعودية أصيلة في استعادة العراق علاقاته الخارجية وتنويعها؛ تمهيدًا لتقليص الهيمنة الإيرانية عليه.

ولا يجب الإغفال عن دوافع إيران – هي الأخرى – من الاتفاق الذي وقَّعته مع المملكة، بوساطة الصين-الحليف الصديق للطرفين- حيث تواجه طهران عُزْلةً دوليةً وتحدياتٍ متعددةً، بما في ذلك ضغوط خارجية وداخلية متزايدة؛ هذه الضغوط ناتجة عن عوامل متعددة مثل العقوبات الأمريكية، تداعيات جائحة “كوفيد – 19″، والاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في شهر سبتمبر 2022.

كما كانت تأمل إيران في التوصُّل إلى اتفاقٍ نوويٍّ مع إدارة الرئيس الأمريكي “بايدن”، لكن مفاوضات فيينا لم تحقق التقدم المتوقع، إلى جانب الضغوط الاقتصادية، تواجه إيران ضغوطًا للتوقُّف عن تطوير برنامجها النووي وصواريخها الباليستية، ولتغيير سياساتها الإقليمية، كما أن الاضطرابات الداخلية التي شهدتها طهران، والمطالب الشعبية التي تحمل النظام مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية، كل ذلك كان يحد من خيارات القيادة الإيرانية، ويُضيِّق مجال حركتها، كما يجعل الخيارات المطروحة أمامه محدودة للغاية.

لذا يمكن القول: بأن الاتفاق “السعودي – الإيراني” برعاية الصين، طبقًا لحسابات ما قبل الحرب على غزة، يُشكِّلُ نقلة نوعية نحو إعادة العلاقات “السعودية – الإيرانية”، في خطوة انتقال من الصراع إلى التعاون والمصالحة؛ فمن شأن المصالحة بين البلديْن، أن تساهم في تحقيق خفْض تكتيكي للتصعيد؛ ومن الممكن أن يخدم المصالح المشتركة بين مختلف الأطراف الموقعة على الاتفاق فيما يتعلق بتحقيق الأمن، وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي، في منطقة الشرق الأوسط.

ثانيا: الحرب على غزة.. مخاوف مُلِحّة من تعريض التقدم الدبلوماسي للخطر

تم رصد تقدم بطيء أو بمعنى أدق تأني في رفْع منسوب العلاقات بين “السعودية، وإيران” منذ توقيعهم على اتفاق بكينفي مارس الماضي، ولكن بعد هجوم السابع من أكتوبر، والحرب المستمرة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية (حركة حماس) في غزة، والتي تحمل آثارًا كبيرة على الشرق الأوسط، تمتد إلى ما هو أبعد من المجالين العسكري والدبلوماسي داخل قطاع غزة، أصبح يوجد مخاوف جادة من أن يتم تعريض التقدم الدبلوماسي بين البلديْن إلى الخطر؛ الأمر الذي تم َّترجمته من خلال سعي الأطراف الثلاثة الموقعة على الاتفاق إلى ضرورة وجود أعلى درجة من التنسيق الممكن بينهما، وذلك عن طريق الآتي:

  • لقاءات واتصالات ثنائية:

للمرة الأولى، التقى ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” والرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” في 11 نوفمبر، وعقدت الجلسة في الرياض، على هامش قمة منظمة التعاون الإسلامي حول غزة.

وفي أحدث علامة على أن الحرب بين إسرائيل وحماس تُقرب “السعودية، وإيران” أكثر، تواصل رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية “محمد حسين باقري” بشكلٍ مباشرٍ مع وزير الدفاع السعودي “خالد بن سلمان” عبر الهاتف، في 30 نوفمبر، طبقًا لوكالة “بلومبيرغ”، وأشارت “بلومبيرغ” عن وكالة أنباء الطلبة الإيرانيين شبه الرسمية، أن وزير الدفاع السعودي، قال لرئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية: إنه “يرحب بزيادة مستوى تعاون القوات المسلحة للبلدين”، دون الإفصاح بمزيدٍ من التفاصيل.

  • اجتماع اللجنة الثلاثية الأولى في “بكين”:

يبدو أن بكينهي الأخرى حريصة على استمرار الزَّخَم الناتج عن المصالحة “السعودية – الإيرانية”؛ حيث استضافت بكيناجتماع اللجنة الثلاثية الأول، في 17 ديسمبر، والذي عُقد على مستوى نائب وزير، ومثَّل “على باقري كني” الجانب الإيراني، فيما مثَّل “وليد الخريجي” السعودية، وبحضور نائب وزير الخارجية الصيني “دنغ لي”، وعقد نواب وزراء خارجية في وقتٍ لاحقٍ لقاءً خاصًّا مع “وانغ يي”، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، ووزير الخارجية الصيني، وجرى الاتفاق والإعلان عن موعد اللقاء القادم، ومن المتوقع أن يجري في يونيو عام 2024 في العاصمة السعودية الرياض.

وخلال الاجتماع، تم استعراض ما تمَّ إنجازه في العلاقات “السعودية – الإيرانية” في إطار اتفاق بكين، ومن أبرزها؛ إعادة فتح السفارات في كل من “الرياض، وطهران”، بالإضافة إلى الزيارات المتبادلة بين وزيريْ الخارجية لكلا البلديْن، كما تمَّ مناقشة سُبُل التعاون الثلاثي في مجالات مختلفة.

كما كان الوضع في غزة محورًا رئيسيًّا للنقاش خلال الاجتماع؛ نظرًا للدور المهم الذي يمكن أن تلعبه كل من “إيران، والسعودية” في هذه القضية؛ حيث طالب البيان الختامي للقاء بشكلٍ عاجلٍ، بوقف إطلاق النار والعمليات العسكرية في غزة، مع التأكيد على ضرورة تقديم المساعدات المستدامة للمدنيين، ورفض التهجير القسري للفلسطينيين.

ثالثًا: محددات يقف عليها مستقبل الاتفاق “السعودي – الإيراني”

يُمثِّلُ قرار الاتفاق “السعودي – الإيراني” تطوُّرًا ملحوظًا ومؤثرًا في تفاعلات المنطقة الأمنية والاقتصادية، لا سيما أنهما من كبريات دول المنطقة، ولهما تأثيرٌ  مباشرٌ  في العديد من الملفات الإقليمية المعقدة، والتوافق بينهما على تلك الملفات، يمكن أن يرسم خارطة طريق؛ لتهدئة وحلِّ كافَّةِ المعضلات الأمنية والاقتصادية ذات الصلة باستقرار الشرق الأوسط، وأبرزها (العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان، وأمن الخليج العربي، والحدود، ومضيقيْ “هرمز، وباب المندب”، والبحر الأحمر، وإمدادات الطاقة بين كُلِّ تلك العُقد الاستراتيجية).

وبالرغم من اتفاق “السعودية، وإيران” يُشكل تطوُّرًا مُرحَّبًا به، لكن ربما لن يتمكن من تسوية جميع المسائل الخلافية بين البلديْن، أو إنهاء خصومتهما، ناهيك عن استباق محاولات بعض القوى الإقليمية والدولية إفساد الأمور بينهما، بجانب الحرب الإسرائيلية على غزة، التي ستفرض ديناميكيات مختلفة، قد تُخِلُّ بالمسارات التي تمَّ العمل على تحقيقيها خلال الفترة الماضية.

لذا هناك جُمْلةٌ من المحددات، يمكنها ضمان نجاح وسريان الاتفاق “السعودي – الإيراني” ومدخلًا نحو تحقيق استقرار المنطقة، وفي الوقت نفسه، قد تكون سببًا في فشل الاتفاق، والعودة إلى مناخ ما قبله، من تصعيدٍ واتهاماتٍ متبادلةٍ ما بين “الرياض، وطهران”، ويمكن صياغة ثلاثة محددات رئيسية، يمكنها رسْم مسار الاتفاق “السعودي – الإيراني”، وهي كالآتي:

المحدد الأول: تزايد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، ومدى استجابة دول الخليج له

في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، لا يُستبعد أن تُبقي الولايات المتحدة على قواتها وقِطَعِها العسكرية، التي قامت بإرسالها لدعم إسرائيل، وردع خصومها في المنطقة، ورغم أن ذلك قد يُمثِّلُ تهديدًا لإيران، إلا أنها ما زالت ترى أن ذلك لن يساهم في تعويض تأثير الدور الأمريكي بشكلٍ عامٍ في المنطقة مثل السابق، وهذا ما تكشفه الحرب المستمرة في قطاع غزة، كما أن التراجُع الأمريكي بدا في رؤية إيران واضحًا في فشل المقاربات الأمريكية المتتالية لمستقبل قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، والتي كشفت عنها الزيارات المتكررة للمسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم؛ الرئيس جو  بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، ومدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز، وأحبطت بسبب رفض دول المنطقة لها؛ ما يعني تراجع تأثير واشنطن في المنطقة بشكلٍ عامٍ، بالتوازي مع زيادة حضور قوى دولية أخرى، مثل الصين التي قامت برعاية اتفاق بكين بين “السعودية، وإيران”، إلى جانب روسيا التي تتبنَّى موقفًا أكثر توازنًا من الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع تطورات الحرب الحالية في غزة.

ولكن النقطة المفصلية هنا، هو مدى استجابة دول الخليج العربي، وعلى رأسهم؛ المملكة العربية السعودية بطبيعة الحال؛ لزيادة الوجود العسكري الأمريكي في الخليج العربي والبحر الأحمر، هذه الاستجابة تقيسها إيران سواء على مستوى التصريحات الرسمية لدول الخليج (داعمة أو مرحبة) للتواجد الأمريكي، أو على مستوى المشاركة الفعلية لتلك القوات الأمريكية.

فكان من اللافت، غياب “السعودية، والإمارات” عن القائمة التي أعلنت عنها الولايات المتحدة بأسماء الدول المشاركة في تحالف بحري؛ لحماية الملاحة في البحر الأحمر من جماعة الحوثي اليمنية؛ الأمر الذي ترك تساؤلات عدة.

وبالرغم من أن السعودية تعتمد على موانئ البحر الأحمر، فيما يقارب من 36% من الواردات، لكن السبب الرئيسي فيما يبدو لغياب السعودية ومعها الإمارات عن المشاركة في بالمشروع الأمريكي، هو تجنُّب الظهور بمظهر المشاركين في مشروع، قد يؤدي إلى الإخلال باستراتيجيتهما الإقليمية طويلة الأمد، وتحويل الغضب العربي مما يحدث في غزة ضدهما، وتجنُّب تصعيد التوترات مع إيران، أو تعريض جهود السلام في اليمن للخطر، من خلال الانضمام إلى أيِّ عملٍ بحري؛

لذا يمكن استخلاص أن هذا المحدد -الذي تقيسه إيران – يقع على عاتق مدى جُهُوزية دول الخليج في الانخراط والمشاركة الفعلية الرسمية في مشاريع أمريكا العسكرية في المنطقة.

المحدد الثاني: مدى الاستجابة بين الدول العربية و “محور المقاومة”

بعد الأشهر الماضية، التي حاولت فيها المملكة العربية السعودية -بمشاركة دول عربية أُخرى- في غلْق الفجوة القائمة بينهم وبين وما يسمى بـ “محور المقاومة” في (سوريا، واليمن، والعراق)، هناك مخاوف من احتمالية حدوث انقسامٍ مرَّةً أُخرى أكثر من دفْعهم للتقارب، فبينما تحاول الدول العربية إيجاد حلولٍ سياسيةٍ، من خلال الدبلوماسية، وتطبيق استراتيجيات الضغط لإنهاء الحرب الدائرة في غزة، تتبنَّى إيران من جهتها نهْجًا مختلفًا؛ حيث ترى في التصعيد العسكري ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية وسيلةً لإيقاف الحرب.

وفي حين ترى إيران – إلى الآن – أن قرارها بعدم المشاركة في الحرب “بشكلٍ مباشرٍ”، والاقتصار على دعم أذرعها في المنطقة، عن طريق تطبيق استراتيجيتها، المعروفة بـ “وحدة الساحات”، والذي يُعدُّ في صالحها، مقارنةً بإمكانية انخراطها المباشر في الحرب، هذا القرار أدَّى إلى وجود مواقف جديدة، وفرض سياقات مختلفة، التي بدورها قد تُسْهِم في إحداث تغييرات إقليمية جديدة.

ولا تقتصر تأثيرات هذه الأحداث على العلاقات “السعودية – الإيرانية” فحسب، بل تمتد لترسم مستقبل علاقة دول محور المقاومة (سوريا، والعراق، واليمن) بالدول العربية المحيطة بها.

فالنسبة لسوريا: بالرغم من أن الدول العربية بدأت في التقارُب مع دمشق؛ بناءً على مبدأ “خطوة بخطوة”؛ حيث يشمل العمل الأوَّليّ الحدّ من إنتاج وتهريب المخدرات، خاصَّةً الكبتاجون، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ومع ذلك، تواجه هذه الجهود تحديات أمنية وسياسية جديدة؛ بسبب الحرب على غزة، بما في ذلك استخدام بعض الجماعات المسلحة للأراضي السورية؛ لشنِّ هجمات ضد إسرائيل، على الرغم من إظهار الحكومة السورية لقدْرٍ كبيرٍ من ضبْط النفس تجاه الحرب، وتأييدها للحلول السياسية مع الدول العربية، إلَّا أن ذلك لم يمنع إسرائيل من توجيه ضرباٍت ضد أهداف سورية، سواء في مطارات “دمشق، وحلب” أو القواعد العسكرية السورية.

فيما يتعلق بالعراق: وبطريقةٍ مماثلةٍ للوضع في سوريا، فإن هجمات المجموعات العراقية المسلحة على القوات الأمريكية في “العراق، وسوريا” تحمل في طيَّاتِها مخاطر تصاعُد الصراع في المنطقة، هذه الأعمال تُؤثِّرُ سلبًا على الفوائد الاقتصادية للمشاريع الإقليمية المشتركة التي تجمع العراق ودولًا أُخرى، مثل “مصر ، والأردن”؛ حيث تبرز الأحداث الأخيرة، أن العلاقات الثنائية الرسمية والمشاريع الاقتصادية تظل تحت تأثير مواقف المجموعات المسلحة.

وبالنسبة لليمن، وهو الملف الأهم والأكثر تعقيدًا لرسم مستقبل الاتفاق “السعودي – الإيراني”، فمن المتوقع، بأن يحدث هُوَّة في طريق حلحلة الأزمة اليمنية؛ فقبل هجوم السابع من أكتوبر، كان هناك مسارٌ جادٌّ لحلحة الأزمة، وذلك عن طريق مباحثات وزيارات متبادلة بين الرياض وجماعة الحوثي، التي كان الغرب يرى فيها جماعة مسلحة تسعى لنيل الاعتراف الدولي بها كقوة شرعية فاعلة في الحكم والإدارة، خاصَّةً وأنها لم تُلحق سابقًا أضرارًا في المصالح “الأمريكية، والإسرائيلية”.

 ولكن بعد هجوم السابع من أكتوبر، جُمِّدت هذه المباحثات، كما نفذ الحوثيون تهديداتهم المعلنة ضد “الولايات المتحدة، وإسرائيل” بأفعالٍ على الأرض للمرة الأولى، مشاركين مع جماعات “محور المقاومة” في (سوريا، والعراق، ولبنان)، تطبيقًا لاستراتيجية “وحدة الساحات”.

 بشكلٍ مُجْمَلٍ، أظهرت هذه الهجمات التي انطلقت من (سوريا، لبنان، اليمن، والعراق)، قدرة هذه الجماعات على تنفيذ عمليات تتجاوز حدودها الوطنية؛ حيث عبرت بعض الهجمات أجواء دول عربية أخرى، وأثَّرت على أراضيها.

ونظرًا لأن كل هذه الجماعات تُشكِّلُ جُزْءًا من الحكم والإدارة في بلدانهم، فإن إقناعها أو إغرائها بالمناصب، أو التسويات يُعدُّ أمرًا صعبًا، والعروض السياسية لن تشجعها بالضرورة على التركيز على السلام والتنمية، بل من المحتمل أن تزيد من تمسُّكِها بموقف “محور المقاومة”، وتعزيز المصالح الإيرانية.

من الجدير بالقلق أيضًا، أن هذه الجماعات تسعى للتفوق على الموقف العربي الرسمي تجاه الحرب على غزة؛ ففي الوقت الذي تلاحظ فيه الشعوب العربية انخراط هذه الجماعات في أعمال تصعيدية وعسكرية، يتولَّدُ حرجٌ كبيرٌ للدول العربية، التي تركز على الحلول السياسية.

بالإضافة إلى ذلك، أبرزت هذه الجماعات مدى الأخطار التي تهدد الدول العربية، سواء على المستويات (السياسية، الاقتصادية، الأمنية، أو العسكرية)، من البر والبحر والجو. ويجب فهْم استراتيجية “وحدة الساحات” كتهديدٍ لجميع دول المنطقة؛ نظرًا لأن هذه الاستراتيجية تمَّ تطبيقها ضمن نطاق صراعٍ منخفضٍ مع الولايات المتحدة وضد إسرائيل، واحدة من أقرب حلفائها، فمن الممكن أن تُستخدم مستقبلًا ضد دول أخرى.

لذا يمكن استخلاص أن هذا المحدد – الذي تقيسه المملكة العربية السعودية – يقع على عاتق إيران في لجْم أذْرُعِها بشكلٍ يحافظ على الاستراتيجية الإقليمية، التي تسعى المملكة في تحقيقيها، والتي تتطلب بيئةً إقليميةً مستقرةً.

المحدد الثالث: مساعي الرياض في الحصول على برنامج نووي

من الأهداف المهمة التي تسعى المملكة لتحقيقها، هو الحصول على برنامج نووي؛ من أجل توازن القوى في المنطقة، وتمَّ الإعلان عن هذا الهدف رسميًّا خلال لقاءٍ سابقٍ لولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية، 21 سبتمبر 2023؛ فكان من النقاط التي تمَّ تناولها خلال اللقاء، هو مناقشة علاقة المملكة مع إيران، وفيها بعث ولي العهد السعودي رسالتيْن مهمتيْن، الأولى: (قوة ناعمة) تُعبِّرُ عن رغبته في التقارُب والتعاوُن مع إيران، والثانية: (قوة صلبة) تُعبِّرُ عن مدى جُهُوزية المملكة لردْع أي تهديد لأمنها أو لأمن المنطقة.

ومن ناحية أخرى، أكَّد ولي العهد السعودي، أن أيَّ تسابقٍ نحو الأسلحة النووية في المنطقة، لن يكون تهديدًا للأمن القومي فقط، بل سيُشكِّلُ تهديدًا للأمن العالمي، وشدَّد على أهمية تحقيق توازن القوى في المنطقة، من خلال الحصول على القدرة النووية، إذا ما حصلت إيران على هذه القدرة.

يجدر بالذكر، أنه قبل عملية السابع من أكتوبر، كان هناك “مسار سعودي تكتيكي”؛ لتوقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل برعاية أمريكية، مقابل شروط عديدة، كان ضمنها؛ إنشاء برنامج نووي مدني سعودي مكتمل الدورة، وبالرغم من أن محادثات التطبيع جُمِّدَت لأجلٍ غير مُسمَّى، بعد هجوم السابع من أكتوبر، ولكن هذا لا ينفي تمامًا أن المملكة تقوم بالبحث عن شركاء آخرين، بعيدًا عن الولايات المتحدة؛ لتحقيق هذا الهدف منذ سنوات؛ حيث قبل نهاية عام 2020، شرعت السعودية في تشييد مُنْشَأَةٍ لاستخراج اليورانيوم في مدينة العلا شمال غربي البلاد، بمساعدة صينيةٍ، وتقدم الشركة الروسية (روس اتوم) نفسها كمقاولٍ محتملٍ لتطوير أول مشروعات الطاقة النووية في السعودية، بعدما أعلنت عزْمها المشاركة في مناقصة بناء أول محطة نووية في السعودية هناك.

ويمكن استخلاص هذا المحدد، بأنه من وجهة نظر براغماتية للأمير محمد بن سلمان، أن تسعى السعودية ليس فقط لامتلاك الطاقة النووية، بل حتى لحيازة سلاح نووي، مثلما تسعى إيران، هو هدفٌ نابعٌ من أهمية تحقيق توازن القوى في المنطقة، من خلال الحصول على القدرة النووية، إذا ما حصلت إيران على هذه القدرة، أما دون ذلك، فهناك احتمالات قوية لفشل الاتفاق “السعودي – الإيراني” في المدى البعيد.

الخاتمة

تطرح الحرب الإسرائيلية على غزة تحوُّلات مهمة، من شأنها؛ أن تؤثر سلبيًّا على الديناميكيات التي بذلتها الدول العربية، وعلى رأسهم؛ المملكة العربية السعودية، في تحقيقها من أجل خلْق بيئةٍ مستقرةٍ، والتركيز على الشؤون الاقتصادية، مقابل تحييد النزاعات السياسية، لا سيما المعقَّدة منها، والتي يمكن تحقيقها عن طريق التقارُب مع إيران من ناحية، وسدّ الفجوة بين دول محور المقاومة (سوريا، واليمن، والعراق، ولبنان) ومحيطها العربي.

واليوم، تحاول المملكة العربية السعودية التعامُل مع هذا الواقع الراهن، عن طريق الحفاظ على المسار نفسه، الموجود قبل هجوم السابع من أكتوبر، سواء بموازنة علاقتها مع القوى الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا، الصين)، و الحفاظ على المصالحة الإقليمية مع إيران؛ فتشعر المملكة بالقلق إزاء احتمال أن تؤدي أزمة غزة إلى تقويض المعادلات، التي حاولت تحقيقها خلال السنوات الماضية،  والتي كانت متمثلة في إحداث اختراق في الأزمة اليمنية، عن طريق سياسة الحوار المباشر والعلني مع جماعة الحوثي، والانفتاح التدريجي على النظام السوري، وجذْب العراق إلى عُمْقه العربي، بعيدًا عن الهيمنة الإيرانية، وعلى الرغم من ذلك، لاتزال تثبت هذه القضايا المعقدة حضورها وقدرتها على تغيير المسارات الإقليمية؛ الأمر الذي قد يعيد تنشيط النزاعات المسلحة مرةً أُخرى، بشكلٍ قد يؤثر على مسار الاتفاق “السعودي – الإيراني”.

ولا يجب الإغفال عن الأهداف الأساسية المطلوبة أمريكيًّا، ألا وهي ضرب هذا التقارُب “السعودي – الإيراني”، ولا شكَّ أن واشنطن تأمل من تحويل التوتُّر الجاري في المنطقة إلى عامل تخريبٍ جديدٍ في الشرق الأوسط، يستهدف كل الركائز الجديدة التي يجري البناء عليها، ومن هذه الزاوية تبدو لحظة انعقاد اللجنة الثلاثية المشتركة في بكين، أو حتى المواظبة على خلْق قنوات تواصل ثنائية بين الجانب “السعودي، والإيراني” منذ هجوم السابع من أكتوبر، هو تأكيدٌ لعزْم تلك الدول على حلِّ الخلافات، والعمل بفاعليةٍ لعلاج كُلِّ ما يهدد الأمن الإقليمي، كما تبدو بمثابة عائقٍ جديٍّ لمشروع الفوضى الشاملة الذي تقدمه واشنطن في المنطقة.

كلمات مفتاحية