إعداد: رضوى الشريف
باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط
مقدمة
مَعَ بِدايةِ شَهْرِ رمَضانَ الذيِ يَتزامَنُ مَعَ اسْتمرارِ الحَربِ الإسرائيليةِ الغَاشمةِ علىَ قِطاعِ غَزةَ، تتََصاعدُ المخاوفُ مِنَ انْفجَارِ الوَضعِ الأَمْنيِ في الضّفةِ الغربيةِ والقدسِ وَسْطَ إجراءاتٍ أمنيةٍ إسرائيليةٍ مُشددةٍ ودَعَواتٍ بالتَهْدئةِ، حيثُ بَلَغتْ حِدةُ التَوترِ والتَصعيدِ الأَمْنيِ في الأراضيِ الفِلسطينيةِ المُحتلةِ، مُستوىً غيرَ مَسبُوقٍ، وهوَ ما دَفَعَ الأَجْهزةَ الأَمنيةَ الإسرائيليةَ إلى التَحْذيرِ مِنْ مَغبّةِ اندلاعِ انتفاضةٍ ثالثةٍ خِلالَ شهرِ رمضانَ في حالِ لمْ يتمْ احتواءُ حالةِ الغليانِ التي تَشْهدُها الضفةُ الغربيةُ مُنذُ الحربِ على غزةَ.
وتَأْتيِ استعداداتُ إسرائيلَ لِمُواجهةِ تِلكَ المخاوفِ عنْ طريقِ تعزيزِ قُواتِها فيِ الضفةِ الغَربيةِ وإقامةِ ثَكَناتٍ عسكريةٍ في القُدسِ، مُتَذرعةً بنيّةِ حركةِ حماسِ بإشعالِ الضفةِ، خِلالَ الشهرِ الذيِ عادةً ما تَتَعاملُ معَهُ إسرائيلُ على أنّهُ شهرُ تصعيدٍ مُحتملٍ. وقَالتْ إِذاعةُ الجيشِ الإسرائيليِ إنَّ 23 كتيبةً سَتَعملُ في الضفةِ الغربيةِ خِلالَ شهرِ رمضانَ، إِضَافةً إلى الآَلافِ مٍنْ قُواتِ الاحتياطِ؛ لحمايةِ المُستوطناتِ.
وقاَلتْ وزارةُ الخارجيةِ الفلسطينيةُ، إنَّ إسرائيلَ نشرتْ ما يَزيدُ على (سَبْعمائةٍ وخَمْسينَ) 750 حَاجزاً عَسكرياً في طُولِ الضفةِ الغربيةِ وعَرْضِها، بالإِضافةِ إلى آلافِ الكتائبِ والفِرَقِ الشُرطيةِ التي تجتاحُ مدينةَ القدسِ، وحذرتْ مِنْ أنَّ هذهِ الممارساتُ “الاستفزازيةُ التصعيديةُ” منْ شَأنهِا إشْعالُ توتراتٍ جديدةٍ في الصراعِ، لافِتَةً إلى أنَّ هذهِ الحواجزُ العسكريةُ تُستخدمُ لفرضِ مزيدٍ منَ العقوباتِ الجماعيةِ على الفلسطينيينَ.
ومعَ فجرِ أولِ أيامِ شهرِ رمضانَ، الإثنين (الحَاديَ عشرَ )١١من مارس، شنّتْ القواتُ الإسرائيليةُ عمليةَ اقتحامٍ في مدينتيِ نابلسِ وطولكرمِ، حيثُ قامتْ بحَملةِ اعتقالاتٍ ضدَّ شبانِ فلسطينيينَ. وهذاَ يُعيدُ إلى الأَذْهانِ مَخاوفَ منْ تَصاعدِ العنفِ خلالَ شهرِ رمضانَ الذي مِنَ الممكنِ أنْ تشَهدَ فيهِ الضفةُ انتفاضةً جديدةً، لاسيّمَا وأنَّ الهدنةُ التي كَثُرَ الحديثُ عنهَا خلالَ الفترةِ الماضيةِ، لا تزالُ بَعيدةَ المَنالِ.
تُسلِّط هذه الورقةُ الضوءَ على الأوضاعِِ في الضفةِ الغربيةِ منذُ اندلاعِ الحربِ الإسرائيليةِ على غزةَ، وإمكانيةِ تَطورِها نَحْوَ مواجهةٍ شاملةٍ أو اندلاعِ انتفاضةٍ فلسطينيةٍ عارمةٍ خلالَ شهرِ رمضانَ.
تَشدِيداتٌ أَمْنِيةٌ اسرائيليةٌ ودَعَواتٌ للتهدئةِ في الضفةِ الغربيةِ والقدسِ
أفادتْ وزارةُ الأوقافِ في غزةَ، أنَّ الاجراءاتِ الأمنيةَ الإسرائيليةَ، خلالَ شهرِ رمضانَ، ستَحْرِمُ “مئاتِ الآلافَ” منَ الفلسطينيينَ منْ أداءِ صلاةِ التراويحِ. وقالَ المكتبُ الإعلاميُ لحماسِ إنَّ الجيشَ الإسرائيليَ استهدفَ “أكثرَ منْ(خَمْسِمِائة) 500 مسجدٍ، بينهَا 220(مَائتانِ وعشرونَ) مسجداً هَدمَهَا بشكلٍ كُليٍ، و290 مسجداً بشكلٍ جزئيٍ وصارتْ غيرَ صالحةٍ للصلاةِ”.
وكانتْ وكالاتُ إِعْلامٍ إسرائيليةٍ قَدْ أعلنتْ عنْ خُططٍ إسرائيليةٍ لتكثيفِ الوجودِ الأمنيِ واجراءاتٍ أمنيةٍ مشددةٍ في الضفةِ الغربيةِ والقدسِ الشرقيةِ في شهرِ رمضانَ، في مُحاولةٍ لاحتواءِ الوضعِ الأمنيِ خوفاً منَ الانفجارِ، ونَشَرتْ الشرطةُ الإسرائيليةُ الآلاَفَ منْ أَفرادِها في الشوارعِ الضيقةِ بالبلدةِ القديمةِ في القدسِ حيثُ منَ المُتوقعِ أنْ يَصِلَ عَشَراتُ الآلافِ كلَّ يومٍ لأَداءِ الصلاةِ بالمسجدِ الأقصىَ.
وفي مُحاولةٍ لتَعزيزِ الاتهامِ لحركةِ حماسِ بالعملِ على إشعالِ الضفةِ والقدسِ في رمضانَ، سَمَحتْ السلطاتُ الإسرائيليةُ بنشرِ تفاصيلِ تقديمِ لائحةِ اتهامٍ ضدَّ مجموعةٍ منَ المواطنينَ العربِ في إسرائيلَ خططُوا لهجماتٍ، بتوجيهٍ منَ الحركةِ.
وأَكدَ بيانٌ لجهازِ الأمنِ العامِ (الشاباك) أنَّ النيابةَ قدّمتْ، يومَ الأحدِ 10 مارس، لوائحَ اتهامٍ ضدَّ 13 عربياً إسرائيلياً منْ منطقةِ شمالِ البلادِ، للاشتباهِ في أَنّهم شكّلوُا خليةً إرهابيةً خَطَطتْ لتنفيذِ هجماتٍ داخلَ البلادِ تحتَ رعايةِ حركةِ حماسِ.
وفي الضفةِ الغربيةِ، يتأهبُ الجيشُ الاسرائيليُ لمواجهةِ اشتباكاتٍ وعملياتٍ محتملةٍ للفصائلِ الفلسطينيةِ خاصةً في المدنِ التي تَشهدُ توتراً أمنياً واشتباكاتٍ دائمةً كمَا هوَ الحالُ في جنين وطولكرمِ ونابلسِ، وأَوضحتْ هيئةُ البثِ الإسرائيليةِ أنَّ نتنياهو صادق(صدّقَ) على مقترحِ جهازِ الأمنِ العامِ (الشاباك) والجيشِ، بأنَّ قرارَ اقتحامِ الشرطةِ المسجدِ الأقصى لا يمكنُ أن يُتَخذَ إلا بموافقةِ نتنياهو نفسهِ.
كمَا حذرَ وزيرُ الخارجيةِ الأردنيِ أيمن الصفدي منَ الحِراكِ الاسرائيليِ بهدفِ تقييدِ وصولِ المصليينَ إلى المسجدِ الأقصىَ في رمضانَ، الأمرُ الذي منْ شأنهِ أنْ يَدفعَ المنطقةَ نحوَ وضعٍ متفجرٍ، وأضافَ الصفديُ أنَّ على إسرائيلَ “رفعَ القيودِ واحترامَ حريةِ العبادةِ”، مُشدداً على أنَ العبثَ بالمقدساتِ هو عبثٌ بالنارِ.
في حينِ أكدَّ عزامُ الخطيب، مديرُ دائرةِ الأوقافِ الإسلاميةِ في القدسِ والذي يُشرفُ على المسجدِ الأقصىَ، على ضرورةِ الالتزامِ بتعليماتِ الأوقافِ الإسلاميةِ، الهدوءِ، الصبرِ، عدمِ الزحامِ.
وعلى النقيضِ من السنواتِ السابقةِ، لم تَشهدْ البلدةُ القديمةُ وشوارعُ الضفةِ الغربيةِ أجواءاً احتفاليةً بمناسبةِ قدومُ رمضانَ حيثُ قُتِلَ نحوُ 400 فلسطينيٍ في اشتباكاتٍ معَ قواتِ الأمنِ والمستوطنينَ اليهودِ منذُ بدايةِ الحربِ في غزةَ.
توصيفٌ للوضعِ العامِ في الضفةِ الغربيةِ مُنذُ هجومِ السابعِ منْ أكتوبر
بَدأَ التَصعيدُ في الضفةِ الغربيةِ بعدَ هجومِ السابعِ منْ أكتوبرِ بأحداثٍ مؤلمةٍ وتَطوراتٍ قَلقةٍ. ودوماً ما كانتْ الضفةُ الغربيةُ مسرحًا للأحداثِ الأمنيةِ المؤلمةِ في السنواتِ الأخيرةِ، حيثُ ازدادتْ الاقتحاماتُ والمداهماتُ العسكريةُ الإسرائيليةُ في المدنِ والقرىَ والمخيماتِ، وتزَامنَ ذلكَ معَ إجراءاتٍ اقتصاديةٍ تهدفُ إلى احتواءِ التوتراتِ الأمنيةِ ومَنعِ تَصاعدِها إلى صراعٍ شاملٍ. لكنَّ هذه السياسةَ تغيرتْ بشكلٍ أكثرَ قمعاً بعدَ السابعِ منْ أكتوبر 2023، والتي يمكنُ عرضُها في الاتي:
الوضعُ الأمنيُ
زادَ الجيشُ الإسرائيليُ منْ عملياتِه الأمنيةِ والعسكريةِ بشكلٍ لم يسبقْ لهُ مثيلٌ منذُ الانتفاضةِ الثانيةِ، وفَرضَ حصارًا وضغطًا اقتصاديًا على الضفةِ الغربيةِ. وتقولُ وزارةُ الصحةِ الفلسطينيةِ أن 420 فلسطينيًا في الضفةِ قُتلوُا برصاصِ الجيشِ الإسرائيليِ منهم 14 قُتلوُا بنيرانِ مستوطنينَ منذُ السابعِ منْ أكتوبرِ الماضيِ.
كمَا وثّقَ نادي الأسيرِ الفلسطينيِ أكثرَ منْ 7300 حالةِ اعتقالٍ في الضفةِ الغربيةِ ووفاةِ 12 سجيناً ومعتقلاً في السجونِ الإسرائيليةِ، لتَصِلَ أعدادُ الفلسطينيينَ في السجونِ الإسرائيليةِ لأكثرَ من 9000 معتقلٍ، وهمُ الذينَ لمْ يكنْ يتجاوزُ عددهُم قبلَ السابعِ منْ أكتوبرِ 5300 معتقلٍ وسجينٍ، أمَّا هيئةُ مقاومةِ الجدارِ والاستيطانِ فتفيدُ بأنَّ المستوطنينَ نفذوُا خلالَ العامِ الماضيِ، 12161 هجوماً بحقِ الفلسطينيينَ وممتلكاتهِم في مُخْتلفِ المحافظاتِ، وسُجل 5308 هجومٍ بعد السابعِ منْ أكتوبر فقطْ
لكنَّ مصدراً عسكرياً في الجيشِ الإسرائيليِ أكدَ لبي بي سي في وقتٍ سابقٍ خلالَ شهرِ مارس الجاريِ، أنَّ عملياتِ إطلاقِ النارِ خلالَ عامِ 2023 في الضفةِ تضاعفتْ ثلاثَ مراتٍ مقارنةً بالأعوامِ السابقةِ، إذْ سَجلَ الجيشُ في العامِ 2021 ما يقاربُ 50 عمليةَ إطلاقِ نارٍ وسجلَ 350 حادثاً مماثلاً في عامِ 2023، ومنْ بينِ هذهِ المناطقِ مخيمُ نورِ شمسٍ للاجئينَ في مدينةِ طولكرمِ شماليِ الضفةِ الغربيةِ الذي تَعَرضَ لسلسلةٍ مِنَ العملياتِ العسكريةِ مُؤخراً أحدثتْ خرابًا كبيرًا في البنيةِ التحتيةِ.
كمَا أدىَ تَسليحُ وانضمامُ المستوطنينَ إلى الوحداتِ العسكريةِ المنظمةِ دونَ فحصٍ لمسيرتهِم العنيفةِ ضدَّ الفلسطينيينَ، إلى تصاعدِ التوترِ في الضفةِ الغربيةِ. فزادتْ حوادثُ العنفِ منْ قِبلِ المستوطنينَ ضدَ الفلسطينيينَ، حتىَ منَ الذينَ يَرْتدُون الزيَّ العسكريَّ. وتمَّ استدعاءُ المستوطنينَ للانضمامِ إلى الوِحداتِ العسكريةِ نتيجةَ سحبِ الجيشِ من الضفةِ الغربيةِ إلى قطاعِ غزةَ ولسدِّ النقصِ في الوِحْداتِ العسكريةِ هناكَ، ممَا استغلهُ المستوطنونَ في تنفيذِ أعمالِ عنفٍ ضدَ الفلسطينيينَ وطردهِم منْ أراضِيهم. وتفاقَمتْ هذهِ الوضعيةُ لدرجةِ أنَّ الولاياتِ المتحدةَ وعدةَ دولٍ أوروبيةٍ فرضتْ عقوباتٍ على بعضِ المستوطنينَ في الضفةِ بسببِ تورطهِم في حوادثَ عنفٍ تهددُ حياةَ الفلسطينيينَ واستقرارَهم في أراضِيهم.
الوضعُ الاقتصاديُ
يساهمُ العاملُ الاقتصاديُ في تفاقمِ حالةِ الاحتقانِ في الضفةِ الغربيةِ، حيثُ اتخذتْ الحكومةُ الإسرائيليةُ عدةَ قراراتٍ منذُ بدايةِ الحربِ تؤثرُ بشكلٍ كبيرٍ على الوضعِ الاقتصاديِ:
- قرارُ إغلاقِ المدنِ الفلسطينيةِ، وهو قرارٌ أَثرَ بشكلٍ كبيرٍ على التجارةِ والاقتصادِ الفلسطينيِ، خاصةً في مدنِ جنين وطولكرمِ التي تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على القوةِ الشرائيةِ للمواطنينَ العربِ في إسرائيلَ. وقدْ أدىَ هذاَ القرارُ إلى تَراجُعٍ حادٍ في الإيراداتِ، خاصةً في قطاعِ السياحةِ والترفيهِ.
- منعُ دخولِ العمالِ الفلسطينيينَ إلى إسرائيلَ، وهوَ قرارٌ أثّرَ سلباً على العِمالةِ الفلسطينيةِ التيِ تعملُ في إسرائيل َوتُعتَبرُ مَصَدرَ رزقٍ للعديدِ منَ الأُسرِ الفلسطينيةِ. وعلى الرغمِ منْ محاولاتِ الضغطِ للسماحِ بعودةِ بعضِ العمالُ، فإنَّ الموقفَ اليمينيَ المتطرفَ في الحكومةِ الإسرائيليةِ حَالَ دونَ ذلكَ.
- سرقةُ أموالِ المقاصةِ الفلسطينيةِ، حيثُ رفَضَ وزيرُ الماليةِ الإسرائيليِ تحويلَ أموالِ المقاصةِ بالكاملِ إلى السلطةِ الفلسطينيةِ. وتَمتْ محاولةُ التسويةِ معَ الولاياتِ المتحدةِ لتحويلِ الأموالِ عبرَ دولةٍ ثالثةٍ، لكنَّ هذا المسعىَ أثارَ الكثيرَ من الجدلِ والتوترِ.
تساهمُ هذه السياساتُ والقراراتُ في تفاقمِ الوضعِ الاقتصاديِ في الضفةِ الغربيةِ، حيثُ تُعتبرُ السلطةُ الفلسطينيةُ المحورَ الرئيسيَ للاقتصادِ في المنطقةِ، حيثُ يعملُ لديهَا عشراتُ الآلافِ من الموظفينَ في القطاعِ العامِ. ومنذُ الأشهرِ الأخيرةِ، لمْ تتمكنْ السلطةُ مِنْ دفعِ رواتبَ موظفيِها بشكلٍ كاملٍ، ممَا دفعَها إلى الاقتراضِ منَ المصارفِ المحليةِ.
وفي ظلِ هذا الوضعِ، ازدادتْ حدةُ نقصِ الأمنِ الغذائيِ في الضفةِ الغربيةِ بعدَ الحربِ، حيثُ ازدادَ عددُ الفلسطينيينَ الذينَ يعانونَ منْ نقصِ الأمنِ الغذائيِ من 350 ألفاً قبلَ الحربِ إلى 600 ألفاً خلالَ الحربِ الحاليةِ، وفقًا لتقريرِ برنامجِ الأغذيةِ العالميِ.[1]
وتَفاقمَ الوضعُ أيضًا بزيادةِ عددِ الحواجزِ العسكريةِ في الضفةِ الغربيةِ بعدَ الحربِ، حيثُ بلغَ عددُها 649 حاجزًا وعائقًا، معَ زيادةِ 49 حاجزًا بعدَ السابعِ منْ أكتوبرِ، وتغييرِ وضعِ 100 حاجزٌ، ممَا يُعيقُ حركةَ السكانِ ويؤثرُ سلبًا على الاقتصادِ المحليِ، خاصةً فيمَا يتعلقُ بموسمِ قطافِ الزيتونِ ووصولِ الفلسطينيينَ إلى أراضيهِم الزراعيةِ.
وضعُ المستوطناتِ
أصبحَ يوجدُ تسارعٌ كبيرٌ في بناءِ المستوطناتِ في الضفةِ منذُ هجومِ السابعِ منْ أكتوبر بشكلٍ يفاقمُ الأنماطَ التي طالَ أمدُها من القمعِ والعنفِ والتمييزِ ضدَ الفلسطينيينَ، حيثُ عبّرَ مفوضُ الأممِ المتحدةِ الساميِ لحقوقِ الإنسانِ فولكر تورك، 8 مارس، في تقريرٍ قدمهُ لمجلسِ حقوقِ الإنسانِ عنْ أسفهِ للإجراءاتِ الإسرائيليةِ الأخيرةِ فيمَا يتعلقُ بالضفةِ الغربيةِ المحتلةِ، إذْ تخططُ إسرائيلُ لبناءِ 3476 منزلٍ إضافيٍ للمستوطنينَ في معاليهِ أدوميم وإفراتِ وكيدار والتيِ تتعارضُ معَ القانونِ الدوليِ.
وتوَسعَ حجمُ المستوطناتِ الإسرائيليةِ القائمةِ حالياً بشكلٌ ملحوظٍ خلالَ الفترةِ التي يغطيها التقريرُ من نوفمبر 2022 إلى 31 أكتوبر 2023. فقد تمّتْ إقامةُ حوالي 24300 وحدةً سكنيةً داخلَ المستوطناتِ الإسرائيليةِ في الضفةِ الغربيةِ خلالَ هذه الفترةِ، وهو أعلى مستوىً مسجلٍ منذُ بدءِ الرصدِ في عام 2017. وشملَ ذلك زهاءَ 9670 وحدةّ في القدسِ الشرقيةِ.[2]
يبدوُ أن سياساتِ الحكومةِ الإسرائيليةِ الحاليةِ تبدو متماشيةً إلى حدٍ غيرٍ مسبوقٍ معَ أهدافِ حركةِ الاستيطانِ الإسرائيليةِ، الراميةِ إلى توسيعِ السيطرةِ طويلةِ الأمدِ على الضفةِ الغربيةِ، بمَا فيها القدسُ الشرقيةُ، ودمجُ هذه الأرضِ المحتلةِ بشكلٍ مطّردٍ في دولةِ إسرائيلَ.
كمَا أنها تتعارضُ مع وجهاتِ نظرِ مجموعةٍ واسعةٍ من الدولِ عَرضَتْها خلالَ جلساتِ الاستماعِ التي عُقدتْ منذُ أسابيعَ قليلةٍ فقطْ في محكمةِ العدلِ الدوليةِ؛ فإنشاءُ المستوطناتِ الإسرائيليةِ غيرِ القانونيةِ، والتوسعُ المستمرُ للمستوطناتِ الإسرائيليةِ غيرِ القانونيةِ، يسيرانِ إلى جانبِ تهجيرِ الفلسطينيينِ عبرَ عنفِ المستوطنينَ الإسرائيليينَ والدولةِ، وكذلكَ منْ خلالِ عملياتِ الإخلاءِ القسريِ، والامتناعِ عنْ إصدارِ تصاريحِ البناءِ، وهدمِ المنازلِ، والقيودِ المفروضةِ على حركةِ الفلسطينيينَ.
الدوافعُ الإسرائيليةُ من تكثيفِ عملياتِها في الضفةِ الغربيةِ
منذُ اليومِ الأولِ للحربِ على غزةَ، تُصرُ إسرائيلُ على المقاربةِ الأمنيةِ أو العسكريةِ، كمنفذٍ وحيدٍ لمواجهةِ ما يهددُ أمنهَا القوميَ – مبررةً ذلكَ بأنهَا تقومُ بحملاتٍ استباقيةٍ – وتتجاهلُ الأسبابَ السياسيةَ؛ فعمدتْ إسرائيلُ إلى القضاءِ على أيِّ إمكانيةٍ للتصعيدِ في مناطقِ الضفةِ والقدسِ المحتلةِ، عنْ طريقِ اللجوءِ إلى خيارِ تفكيكِ واستهدافِ مجموعاتِ المقاومةِ من خلالِ القتلِ والتنكيلِ والاعتقالِ، علاوةً على ضربِ الحاضنةِ الشعبيةِ بالاقتحاماتِ المتكررةِ.
وتأتي حالةُ الاحتقانِ في الضفةِ الغربيةِ والقدسِ المحتلةِ كردِ فعلٍ على التصاعدِ الأمنيِ والعسكريِ الإسرائيليِ في المنطقةِ بعدَ الأحداثِ التي وقعتْ في السابعِ من أكتوبرِ. يقومُ فلسطينيونَ من سكانِ الضفةِ الغربيةِ والقدسِ بعملياتٍ مسلحةٍ ضدَّ المستوطنينَ والمواطنينَ الإسرائيليينَ، سواءٌ داخلَ الضفةِ الغربيةِ أو داخلَ إسرائيلَ. على سبيلِ المثالِ، تمثلتْ هذهِ العملياتُ في حوادثَ كرياتِ ملاخي ومعاليهِ أدوميم. بالمقابلِ، تشيرُ بياناتُ جهازِ الأمنِ الإسرائيليِ (الشاباك) إلى أنَّ عددَ العملياتِ المسلحةِ “الجوهرية” في الضفةِ الغربيةِ والقدسِ وصلتٍ إلى 29 في نوفمبر، و25 في ديسمبر، و16 في يناير، ممَا أسفرَ عنْ مقتلِ 11 شخصاً وإصابة 92 آخرين بجروحٍ.
ويمكنُ القولُ بأنَّ دوافعَ إسرائيلَ منْ تكثيفِ وتصعيدِ عملياتهِا في الضفةِ الغربيةِ تتمثلُ في النقاط ِالتاليةِ:
- التصدي لعملياتِ “وحدةِ الساحاتِ”؛ حيثُ تركزُ إسرائيلُ على منعِ انتشارِ العملياتِ الفلسطينيةِ في مناطقَ معينةٍ، وخاصةً في المناطقِ التي تشكلُ معاقلَ للتنظيماتِ المسلحةِ كجنين ونابلسِ، وتهدفُ هذه العملياتُ إلى الحفاظِ على الأمنِ ومنعِ التصعيدِ، بالإضافةِ إلى القضاءِ على بنيةِ التنظيماتِ المسلحةِ في الضفة ِالغربيةِ.
- الاستهدافُ المباشرُ لحركتيِ حماسِ والجهادِ الإسلاميِ؛ حيثُ قامتْ إسرائيلُ بالعديدِ منَ الاعتقالاتِ والعملياتِ القتاليةِ ضدَّ أفرادِ وقادةِ هاتينِ الحركتينِ، كجزءٍ من حملتِها الشاملةِ ضدَّ المقاومةِ الفلسطينيةِ. وتنسجمُ هذه العملياتُ مع العملياتِ السابقةِ لإسرائيلَ في الضفةِ الغربيةِ منذُ العامِ 2021 التيِ تهدفُ لإضعافِ الحركتينِ في الضفةِ الغربيةِ، ولكنّ عملياتِها أخذتْ بعدَ السابعِ منْ أكتوبرِ منحىً مختلفاً منْ حيثُ حجمِ الاعتقالاتِ، وكثافةِ العملياتِ، وشدةِ الفتكِ.
- إضعافُ السلطةِ الفلسطينيةِ وفرضُ السيطرةِ على المناطقِ “ج”؛ حيثُ تركزُ إسرائيلُ على زيادةِ التواجدِ العسكريِ والاستيطانيِ في هذهِ المناطقِ، بهدفِ إضعافِ السلطةِ الفلسطينيةِ وإجبارِ الفلسطينيينَ على النزوحِ وتهجيرهِم. وهذاَ يأتي في سياقِ استراتيجيةِ الاستيطانِ الإسرائيليِ وتعزيزِ السيطرةِ على الأراضيِ الفلسطينيةِ.
سيناريوهاتُ التصعيدِ الأمنيِ في الضفةِ والقدسِ
بناءً على ما جاءَ في الورقةِ، يمكنُ الإشارةُ إلى سيناريوهينِ اثنينِ للمرحلةِ المقبلةِ.
السيناريوُ الأولُ: تنامي التوترِ الأمنيِ والعسكريِ في الضفةِ الغربيةِ ليشملَ انتفاضةً ثالثةً
ينطلقُ هذاَ السيناريوُ منْ أنَّ السياساتِ التي تتبعُها الحكومةُ الإسرائيليةُ في الضفةِ الغربيةِ سوفَ تؤديِ إلى مزيدٍ من التصعيدِ لتؤديَ في النهايةِ الى اندلاعِ انتفاضةٍ جديدةٍ، فالعملياتُ العسكريةُ أصبحتْ أكثرَ دمويةً، فضلاً عن استمرارِ سياسةِ الاستيطانِ وفرضِ العقوباتِ الجماعيةِ، والتي سينتجُ عنها ردودُ فعلِ فلسطينيةٍ انتقاميةٍ.
وما قدْ يقويِ منْ تحقيقِ هذا السيناريوُ هوَ أنَّ التوترَ المتصاعدَ في الضفةِ الغربيةِ يخدمُ أجندةَ اليمينِ المتطرفِ داخلَ الحكومةِ الإسرائيليةِ، ممَا يحفزُ الأطرافَ اليمينيةَ للضغطِ على الحكومةِ للقيامِ بإجراءاتٍ عسكريةٍ تختلفُ عن تلكَ التي اتبعتهَا الحكومةُ السابقةُ، ذلكَ بجانبِ أنَّ الحكومةَ الإسرائيليةَ تعتبرُ العملياتِ العسكريةَ كحلٍ وحيدٍ لتحقيقِ الاستقرارِ والسلامِ في الضفةِ الغربيةِ، بسببِ عدمِ رغبتِها في التوصلِ إلى تسويةٍ سياسيةٌ مع الفلسطينيينَ.
السيناريو الثاني: ضبطُ التصعيدِ مع اقتصارهِ على عملياتٍ محددةٍ أو فرديةٍ
يُعدُ هذاَ هو السيناريوُ المرجحُ حدوثهُ؛ فبالرغمِ منْ أنَّ قراراتِ الحكومةِ المتعلقةِ بتقييدِ دخولِ الفلسطينيينَ للمسجدِ الأقصى خلالَ شهرِ رمضانَ ستؤدي إلى تصعيدٍ في القدسِ، ممَا يشيرُ إلى احتماليةِ وقوعِ مواجهاتٍ جديدةٍ في المدينةِ قد تمتدُ إلى الضفةِ الغربيةِ. ومعَ ذلكَ، يبدوُ أنَّ احتمالَ تحولِ هذهِ المواجهاتِ إلى انتفاضةٍ شاملةٍ في الضفةٍ الغربيةٍ ضئيلٍ، وقدْ يكونُ التصعيدُ محصورًا في القدسِ، خاصةً في ساحاتِ المسجدِ الأقصى. يعودُ ذلكَ التقديرُ إلى العواملِ التاليةِ:
أولًا، تأثيرُ الاستنزافِ الذي شهدهُ المجتمعُ الفلسطينيُ في الضفةِ الغربيةِ خلالَ الفترةِ الأخيرةِ، والذي شَمِلَ مُختلفَ جوانبِ الحياةِ، ممَا يشيرُ إلى رغبتهِ في الهدوءِ والاستقرارِ خلالَ شهرِ رمضانَ بشكلٍ خاصٍ.
ثانيًا، تنفيذُ الاعتقالاتِ الواسعةِ منْ قِبلِ قواتِ الأمنِ الإسرائيليةِ وأدتْ إلى اعتقالِ آلافِ الناشطينَ الفلسطينيينَ وقتلِ أكثرَ من 400 فلسطيني، ممَا يقللُ منَ احتماليةِ وقوعِ انتفاضةٍ واسعةِ النطاقِ في الضفةِ الغربيةِ.
ثالثًا، الضرباتُ التي تلقتهَا حركةُ حماسِ والجهادِ الإسلاميِ في الضفةِ الغربيةِ على مدارِ السنواتِ الماضيةِ، ممَا أدىَ إلى إضعافِ قدرتهِم التنظيميةِ على تنفيذِ مواجهاتٍ واسعةِ النطاقِ، وتقليصِ نطاقِ المواجهاتِ الحاليةِ إلى مناطقَ محددةٍ.
رابعًا، التوجهُ الذي اتخذتهُ السلطةُ الفلسطينيةُ لمنعِ أيِّ تظاهراتٍ في الضفةِ الغربيةِ، بمَا في ذلكَ الاعتقالاتُ التي طالتْ النشطاءَ الفلسطينيينَ، ممَا يعكسُ حرصَها على الحفاظِ على الاستقرارِ.
خامسًا، استمرارُ المساعيِ الإقليميةِ والدوليةِ بالتوصلِ إلى اتفاقِ تهدئةٍ بينَ إسرائيلَ وحركةِ حماسِ، مما سيؤثرُ إيجاباً على الوضعِ في الضفةِ الغربيةِ.
سادسًا، بدءُ مباحثاتٌ فلسطينيةٍ-فلسطينيةٍ بمشاركةِ حركةِ حماسِ والسلطةِ الفلسطينيةِ، بهدفِ التوصلِ إلى توافقٍ سياسيٌ حولَ تشكيلِ حكومةِ تكنوقراطٌ موحدةٍ بعدَ استقالةِ رئيسِ الوزراءِ محمد اشتيه، وهو ما يعتبرُ خطوةً إيجابيةً نحوَ حلِ الأزمةِ الحاليةِ.
الخاتمةُ
تصاعدتْ حدةُ التوترِ الأمنيِ في الضفةِ الغربيةِ مؤخرًا، ويَرجِعُ ذلكَ بشكلٍ كبيرٍ إلى الإجراءاتِ الإسرائيليةِ المشددةِ خلالَ الأشهرِ الماضيةِ. ومعَ ذلكَ، تشيرُ التوقعاتُ إلى أنّهُ منْ غيرِ المحتملِ أنٍ تزدادَ الأوضاعُ توترًا أو أنْ تُؤديَ إلى انتفاضةٍ كبيرةٍ أو مواجهاتٍ شاملةٌ خلالَ شهرِ رمضانَ، حيثُ يُؤديِ هذا إلى شعورِ الفلسطينيينِ في الضفةِ الغربيةِ بالتعب ِوالإرهاقِ بسببِ هذهِ الإجراءاتِ. بالإضافةِ إلى ذلكَ يلعبُ الحوارُ الفلسطينيُ بينَ الفصائلِ الفلسطينيةِ والذي كانَ أخرَ محطاتهِ في موسكو في نهايةِ شهرِ فبراير الماضيِ، دوراً في تَقليلِ إمكانيةِ اندلاعِ مواجهةٍ شاملةٍ في الضفةٍ الغربيةِ، مما يمنحُ الفلسطينيينَ أملًا سياسيًا للخروجِ من وضعهِم الراهنِ.
المصادر:
[1] تحذير أممي من ارتفاع الجوع في الضفة الغربية مع تصاعد العنف والقيود على الحركة، الأمم المتحدة، 14 فبراير 2024، متاح على الرابط: https://news.un.org/ar/story/2024/02/1128427
[2] تورك يعرب عن أسفه للخطوات الجديدة لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، الأمم المتحدة، 8 مارس 2024، متاح على الرابط: https://www.ohchr.org/ar/press-releases/2024/03/un-human-rights-chief-deplores-new-moves-expand-israeli-settlements-occupied