مرحلة جديدة من التنافس الإقليمى والدولى على سوريا؟

مصطفى أحمد مقلد

مقدمة:

ظل الملف السورى حاضرا بشكل مباشر أو غير مباشر على أجندة المتابعة الإقليمية والدولية، رغم تعدد المستجدات إقليميا ودوليا، فبدء الحرب الأوكرانية واستجلاب الروس لقواتهم من سوريا لدفعهم على الجبهة مع أوكرانيا ما رتب تغييرات جيوسياسية، مرورا بالضربات العسكرية الاسرائيلية على أهداف إيرانية فى الداخل السورى، واقتران ذلك بضربات إيرانية موجهة للقوات الامريكية فى سوريا، وتنامى نشاط دبلوماسى عربى أدى فى النهاية لعودة سوريا للجامعة العربية بجانب حديث عن تقارب تركى سورى وشيك، كلها تطورات خلقت مجريات جديدة للأحداث فى سوريا.

تبادل الهجمات بين ايران والولايات المتحدة:

كانت قد اشتدت مواجهة عسكرية أميركية – إيرانية في شمال شرقي سوريا بين يومي 23 و24 مارس الماضى، وطرحت مخاوف من أخطار تطور الصراع بين الدولتين إلى حرب استنزاف على خلفية مطالبات من كل من الجهتين بانسحاب الأخرى من سوريا، فمن جهة تتابع ايران  ما تردد حول أفكار مطروحة في سياق التطبيع العربى مع سوريا تتناول مسألة الوجود الإيراني، وهذا أمر يقلق طهران، ويدفعها إلى استباق الأمر بطرح الانسحاب الأميركي.

ومن جهة أخرى، تأتى المواجهات فى سياق الرد على الاستهداف الإسرائيلي المتواصل للقواعد التابعة لـ”حرس الثورة” الإيراني ولمواقع الميليشيات التابعة له في سوريا، وحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن القوات الأميركية في سوريا تعرضت لما يقارب 78 هجوماً منذ يناير عام 2021 حتى نهاية مارس الماضى.

ويلفت المراقبون إلى أن الميليشيات الموالية لإيران استهدفت القاعدة الأميركية في حقل العمر النفطي بعد تكثيف الغارات الإسرائيلية على امتداد الأراضي السورية من مطار دمشق ومحيطها (كفرسوسة)، إلى ريف العاصمة، وصولاً إلى منطقة الميادين ومطار حلب، الذي أدى استهدافه إلى خروجه الموقت عن الخدمة مرتين، في 6 مارس، وفي 22 مارس.

الرد الأمريكى في 24 مارس، استهداف مجموعات تابعة لـ”حرس الثورة” الإيرانية في منطقة الحسكة، واقتضى ذلك إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن أنه لا يريد حرب مع إيران “لكنه سيقوم بما يلزم لحماية الجنود”، وهي المرة الأولى يتناول فيها الرئيس الأميركي الوضع العسكري في سوريا. وأوضح حينها البيت الأبيض موقفه بأن الهجمات لن تدفع الولايات المتحدة لسحب جنودها الذين نشرتهم في سوريا منذ قرابة ثمانية أعوام لمحاربة فلول تنظيم “داعش”.

وفى نهاية مايو الماضي، عززت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية في شمال شرقي سوريا بالقرب من حقول النفط، حيث توجد قاعدتا “كونيكو” و”حقل العمر”، بمنظومة صواريخ من طراز “هيمارس”، التي يبلغ مداها نحو 70 كيلومترًا، بجانب ذلك، أكد الكولونيل “جو بوتشينو” المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش أن الولايات المتحدة قررت تمديد مهمة المجموعة الهجومية المرافقة لحاملة الطائرات جورج إتش.دبليو بوش – التي تضم أكثر من خمسة آلاف جندي أميركي والموجودة حالياً في منطقة العمليات التابعة للقيادة الأوروبية – لتوفير خيارات لصانعي السياسات بعد الهجمات، ويمكن فهم ذلك التوجه فى إطار أوسع وهو رغبة الولايات المتحدة فى عدم ترك الساحة خالية لوجود روسي أكبر، سواء بشكل مباشر أو عن طريق وكلاء أو شركات، ضمن استراتيجية أميركية لمواجهة الروس فى سوريا وليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي.

التوظيف الروسى للتمدد الايرانى فى سوريا:

فى إطار التنافس الأمريكى الروسى الذى يتعدى مجرد المواجهة غير المباشرة على الجبهة فى أوكرانيا، فإن تصعيد المواجهة بين إيران وأميركا في سوريا له وظيفة روسية في ظل تعزيز الجانب الأميركي وجوده في سوريا بعد زيارة رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال “مارك ميلي” للقوات الأميركية شرق الفرات في 4 مارس الماضى، فالانطباع الذي تركه تصعيد إيران الميداني والسياسي أنها نقلت عملياتها ضد الوجود الأميركي من العراق إلى سوريا، خاصة مع انسحاب قوات روسية من سوريا، وتعزيز قوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الموالية لإيران وجودها في سوريا، كما أن سلوك إيران العدواني بشكل متزايد يشير إلى دعم روسيا الضمني، ويمكن فهم أن إحدى نتائج العلاقات العسكرية الوثيقة بشكل متزايد بين إيران وروسيا هي حرية العمل في سوريا.

وعلى هذا، بينت تصريحات مسؤولين استخباراتيين ووثائق سرية مسربة أن إيران تسلح مليشياتها في سوريا لمرحلة جديدة من الهجمات المميتة ضد القوات الأمريكية في البلاد، بينما تعمل أيضًا مع روسيا على استراتيجية أوسع لطرد الأمريكيين من المنطقة وهو هدف قد يسمح للرئيس السوري باستعادة المحافظات الشرقية التي يسيطر عليها الآن الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة، ودعم تقرير لصحيفة “واشنطن بوست”ذلك بعد الحصول على وثائق مسربة، كما زعمت أن إيران أخفت أسلحة بين مساعدات الزلزال المرسلة لسوريا لاستهداف القوات الأمريكية.

وأشارت الوثائق المسربة الى لقاء جمع مسؤولين عسكريين روسيين وإيرانيين وسوريين رفيعى المستوى في نوفمبر 2022، واتفقوا على إنشاء “مركز تنسيق” لتوجيه حملة واسعة النطاق من شأنها أن تشمل دعم هجمات ضد الأمريكيين في شرق وشمال شرق سوريا، ولم تشر إلى تورط روسي مباشر في التخطيط لحملة الاستهداف، لكن أشارت الوثائق لتورط حزب الله اللبناني فى محاولات صنع قنابل وإجراء اختبارات على نوع جديد من المتفجرات الخارقة للدروع في سوريا في أواخر يناير الماضى.

رفض البنتاغون التعليق على الوثائق المسربة لكن تحرك الميليشيات المدعومة من إيران لتصعيد الهجمات ضد الأمريكيين بقنابل مزروعة على الطريق تم تأكيده في مقابلات مع مسؤولين حاليين. من ناحية أخرى، انخرطت روسيا في استفزازات جديدة ضد القوات الأمريكية، بما في ذلك انتهاك اتفاقيات تفادي التضارب، والتحليق فوق القواعد الأمريكية.

مناكفات روسية أمريكية:

فى 10مايو الماضى، اتهم لافروف خلال اجتماع وزراء خارجية سوريا وتركيا وإيران وروسيا، الأمريكيون بتشكيل ما يسمى بـ “جيش سوريا الحرة” في محيط الرقة السورية بمشاركة ممثلين عن العشائر العربية المحلية ومسلحي “داعش”. وأن العرض الذي تم تقديمه لمسلحي “داعش” ينطوي على انضمامهم للقتال ضمن صفوف ما يسمى “جيش سوريا الحرة”، وإطلاق سراح عوائلهم وأطفالهم المحتجزين في مخيمات النزوح، خصوصًا مخيم “الهول” شرقي الحسكة.

تعتبر روسيا أن هذه الفوضى ستدعم قدرة الولايات المتحدة في الضغط على موسكو وإحراجها، من خلال قطع الطريق على موسكو لإقناع “قسد” بالانسحاب وتسليم مناطقها للجيش السوري، ويثير حساسية الأمر، جهود أميركية سابقة لدمج الإدارة الذاتية في هياكل المعارضة، غير أن تلك الجهود لم تؤدِ إلى نتائج واضحة، بسبب ارتهان قرار الائتلاف السوري المعارض وهيئة التفاوض لتركيا.

وقبل ذلك، فى أبريل الماضى، احتجت روسيا لدى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش” على “التصرفات الاستفزازية” للقوات الأميركية في سوريا. وتفاصيل الاحتجاج أن روسيا كانت قد تفاوضت مع تركيا على إقامة مناطق خاصة يمكن للتحالف أن ينشط فيها، غير أنه جرى رصد القوات الأميركية مرتين في مناطق غير تلك المتفق عليها.

فرص التعويل على الجامعة العربية:

فى أكثر من مناسبة عبر أمين عام الجامعة العربية أن موقف الجامعة يكون وفق وجهة أغلب الاعضاء، وهو ما يعكس عدم قدرة الجامعة على التعامل بشكل مبادر واستباقى لوضع حل أو تقديم خارطة طريق لتسوية الأزمة السورى وهو ما يعنى أنه إذا لعب العرب دورا فسيأتى نتيجة تحركات من خارج الاطار المؤسسى للجامعة العربية، ويتبقى للجامعة إضفاء التأييد.

وتظهر السعودية وكأنها المراهن الأكبر على تغيير الأسد سلوكه ويأتى التحرك السعودى كأحد حلقات النشاط الدبلوماسى مؤخرا للعب دور أكبر على المستوى الإقليمى، ويتداخل هذا الشأن مع شأن العلاقات السعودية الإيرانية، فالسعودية تعرف حجم النفوذ الايرانى على “الاسد” وبالتالى تغامر السعودية بإيجاد مساحات تعاون مشتركة بشكل مبدئى مثل مواجهة تجارة الكبتاجون على أن يتم ترفيع مستوى المحادثات فيما بعد، قد يشمل التقدم بمبادرة عربية لتسوية الاوضاع فى سوريا.

المقاربة الاقتصادية لا تزال خيار عربى “مؤجل” فى التعامل مع سوريا بالنظر الى أن العقوبات الأمريكية تشكل عائقًا رئيسيًا أمام التطبيع الاقتصادي مع سوريا، كما أن العلاقات المستأنفة حديثا تحتاج لخطوات ملموسة تكسبها مزيد من الثقة، وهو ما يمكن الاشارة إليه من خلال اجتماع رئيس اتحاد الغرف السعودية مع نظيره السوري خلال الشهر الجارى، للاتفاق على إعادة فتح مسار التعاون الاقتصادي.

ومن ناحية أخرى، تخشى تركيا من أن يدفع أي عمل عسكري كبير، شمال سوريا، بمزيد من النازحين إلى داخل أراضيها، كما أن الاستمرار في تهديداتها، شمال شرقي سوريا، سيؤدي إلى مزيد من الاستنزاف الاقتصادي والأمني، إضافة إلى أن التحول العربي نحو التطبيع مع سوريا سيكون له حسابه في التفكير التركي مما قد يدفع التعاون التركي مع الجانب العربي لاحتواء أزمة اللاجئين، ويواجه ذلك تحديات تتمثل فى مدى جدية الانسحاب التركى من شمال سوريا وفق جدول زمنى وآليات يتم التفاوض عليها وفق مسار آستانة.

الموقف العربى من النفوذ الايرانى فى سوريا:

أكد الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية “حسام زكي” مؤخرًا أن الطلب العربي لإيران بالانسحاب من سوريا قد “تم تنحيته”، ومع ذلك فالأمريكيون لا يعارضون ضمنيًا القرار الذي اتخذه حلفاؤها في جامعة الدول العربية، باعتبار أن ذلك قد يساهم فى حل بعض المشكلات الاقليمية مثل مواجهة الكبتاجون ويدفع الاسد لتقديم ثمن مقابل الخطوة العربية للتطبيع معه، وهو ما قام به الأمريكيون بالفعل حيث شجعوا العرب على عدم المضى فى التطبيع دون تحقيق مكسب مقابل، ويظهر ذلك فى تصريح وزير الخارجية الأردني أن مبادرة الجامعة العربية بشأن سوريا تم تنسيقها مع الولايات المتحدة.

الوجود الأجنبى:

وأوضحت دراسات صادرة عن مركز جسور بالتعاون مع منصة إنفورماجين لتحليل البيانات، إن فحصاً لخرائط المواقع العسكرية الأجنبية الخاصة بتوزع النقاط للأطراف المحاربة، حتى نهاية النصف الأول من 2022، أظهر وجود 28 موقعاً تتبع الولايات المتحدة و124 للتركية و132 للروسية و 469 موقعاً إيرانياً وهي الأعلى، والمواقع المشار إليها في الدراسات تتوزع أيضاً على العاصمة دمشق وطرطوس واللاذقية، بينما مدينة حلب حظيت بأعلى عدد من المواقع والنقاط العسكرية بـ121 قاعدة ونقطة.

التوسعات الأبرز على الأرض السورية كانت لصالح إيران، وترتبت بعد انسحابات روسية لصالح الإمدادات على الجبهة الأوكرانية، فسيطرت المليشيات الأيرانية على مطار النيرب العسكري بحلب ومطار تدمر، ومستودع ماهين العسكري شرق حمص – أحد أكبر مستودعات الأسلحة في سوريا، كما أن حزب الله اللبناني وحركة حزب الله النجباء وكتائب حزب الله وفرقة فاطميون الأفغانية ولواء الباقر السوري قد أخضعت عشرات المواقع والمناطق في محافظة حلب إلى سيطرتها.

كما عززت إيران عبر مليشياتها وجودها في أكثر من 120 موقعًا ومقرًا عسكريًا في البادية السورية. بالإضافة إلى ذلك، استولى حزب الله على حقل زملا المهر 1 النفطي في صحراء حمص في أواخر مارس 2022، وحوّله إلى مقر عسكري بعد طرد موظفي الدولة من الموقع، وارتباطا بتلك التطورات، فخلال مايو الماضى، ألقى الطيران الإسرائيلي منشورات فوق محافظة القنيطرة السورية، يحذر فيها من وجود عناصر “حزب الله” اللبنانية داخل البلاد، والتسهيلات التي تقدمها دمشق لهم.

فى الختام، بينما لا تزال الاطراف الدولية تدفع الأمور للتصعيد، فإن مؤشرات التهدئة على مستوى الشرق الأوسط تحمل معها آمال خفض التوترات فى سوريا والعمل على تسوية من خلال إيجاد حل من باب الواقعية السياسية، وتشير التطورات الى أن “أقلمة” الحل هى الأجدى فى ضوء تمدد نفوذ واهتمام الأطراف الإقليمية وانحسار دور المبادرة عن الأطراف الدولية لانشغالها فى قضايا خارج الشرق الأوسط، فالتقارب العربى الإيرانى من جهة، والعربى التركى من جهة أخرى قد يكون حافز للنظر للمكتسبات المشتركة من دفع العملية السياسية فى سوريا وإحلال السلام، مع الأخذ فى الاعتبار أن إسرائيل لا تزال مستمرة فى ضرباتها على أهداف إيرانية فى سوريا، وهو ما يمكن أن يشهد تغييرا إذا تحول التموضع الايرانى بعيدا عن الحدود الاسرائيلية وفق تفاهمات إيرانية سورية ضمن جملة المتغيرات فى المنطقة.

كلمات مفتاحية