مركز عالمي للغاز في تركيا… هل يتحقق حلم «أنقرة» من بوابة روسيا؟

إعداد: شيماء عبد الحميد 

يشهد العالم – الآن- أزمة طاقة حادة، جاءت إثر اندلاع الحرب «الروسية – الأوكرانية» التي أتمت عامها الأول؛ فقد كانت ورقة الطاقة هي ورقة الرهان الأكبر، سواء من جانب روسيا أو من جانب الغرب؛ حيث سارعت «الدول الأوروبية، والولايات المتحدة» بفرض عقوبات على صادرات النفط الروسي، واتبعت سياسة تسقيف أسعارها، كما بدأت دول «الاتحاد الأوروبي» البحث عن بدائل لمصادر الطاقة الروسية، في إطار خطة دول الاتحاد لوقف استيراد النفط والغاز من «موسكو»، وجاءت هذه الإجراءات؛ بهدف تقليص مكاسب روسيا من تصدير مواردها للطاقة، وبالتالي، تقييد تمويلها لعمليتها العسكرية في «كييف».

من جانبها؛ ردَّت روسيا على هذه الإجراءات، باتخاذها قرارًا بعدم تصدير إنتاجها من النفط والغاز لأيِّ دولةٍ تفرض عليها عقوبات، أو تلتزم بالحد الأقصى للأسعار الذي دخل حيِّز النفاذ، في ديسمبر 2022، كما قررت تخفيض إنتاجها من النفط بحوالي 500 ألف برميل يوميًّا، في مارس الجاري؛ ما يثير مخاوف الغرب، خاصةً أوروبا، من حدوث عجْز في إمدادات الطاقة، والذي بدوره سيؤدي إلى ارتفاعٍ حادٍّ في أسعار الغاز والنفط، خلال العام الجاري، وقد تشتد حدة الأزمة مع إبقاء تحالف «أوبك +» على سياسة تخفيض إنتاج النفط، التي أقرها في أكتوبر 2022، وتستمر حتى نهاية 2023، وزيادة الطلب المتوقعة جرَّاء الانفتاح الاقتصادي في الصين، التي أعلنت رفْع إجراءات الإغلاق التي وضعتها للتصدي لتفشي وباء «كوفيد – 19» في البلاد.

وقد كان هذا السياق في صالح طرفٍ ثالثٍ، هو تركيا؛ التي وضعت على مدى السنوات الماضية، ملف الطاقة في مقدمة أولوياتها؛ حيث طالما طمح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى استغلال موقع بلاده على أطراف المتوسط وأوروبا؛ من أجل تحويل البلاد إلى أحد أهم المراكز العالمية لتجارة الطاقة، وتقليل اعتماد تركيا على الخارج، فيما يتعلق بمواد الطاقة، خصوصًا الغاز الطبيعي.

وقد جاءت الحرب «الروسية – الأوكرانية» في صالح هدف «أردوغان»؛ ففي ظل الأزمة المحتدمة – الآن- بين «موسكو – والغرب»، اقترح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إقامة مركزٍ دوليٍّ لتوزيع الغاز الروسي في تركيا؛ ما قد يمثل دفعةً قوية لتحرُّكات «أردوغان»؛ الهادفة إلى تحويل بلاده إلى معبر للغاز الدولي نحو أوروبا، بدْءًا من الغاز الروسي وغاز آسيا الوسطى، وصولًا إلى غاز المتوسط؛ ما يُمكِّنُها من أن تصبح مركزًا إستراتيجيًّا على المدى البعيد.

خطوات في سبيل مشروع الغاز التركي

كان مشروع الغاز التركي على رأس أولويات السياسة التركية في عهد «أردوغان»؛ فقد عمل على خلْق بنيةٍ تحتيةٍ قويةٍ، تُؤهِّلُ تركيا لأن تكون دولةً رئيسةً في سوق الغاز العالمي، وذلك من خلال مجموعةٍ من خطوط أنابيب الغاز، وعقْد عددٍ كبيرٍ من الصفقات مع كبرى الدول المنتجة للغاز، فضلًا عن التوسُّع في أعمال التنقيب؛ ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:

أولًا: خطوط أنابيب الغاز؛ وأهمها: مشروع السيل التركي “ترك ستريم” الذي دُشِّن رسميًّا في يناير 2020، وهو خط أنابيب مخصص لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى أوروبا، عبر تركيا، مرورًا بالبحر الأسود إلى البر التركي، لينتهي عند الحدود «التركية – اليونانية»؛ حيث تُقام مستودعات ضخمة للغاز، ويتكون من خطيْن بحرييْن، طول كُلٍّ منهما 930 كيلومترًا، ويمتدان من مدينة «أنابا» الروسية إلى منطقة «قيي كوي» بولاية قرقلار إيلي، غربي تركيا، يُغذِّي الأول: تركيا، والثاني: دول شرقي وجنوبي أوروبا، وتبلغ القدرة الاستيعابية لكل خط 15.75 مليار متر مكعب في العام.

وثاني الخطوط: هو خط «تاناب»، الذي يهدف إلى نقل الغاز الأذربيجاني المستخرَج من بحر قزوين إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، وقد تم تدشينه على ثلاث مراحل في «2018، و2019، و2020»، بقدرةٍ استيعابيةٍ 16 مليار متر مكعب، 10 مليار متر مكعب منها تُنقل إلى الأسواق الأوروبية، و6 تستوردهم الأسواق التركية.

أما ثالثها: فهو التيار الأزرق الذي يُعدُّ خط النقل الرئيسي للغاز الطبيعي «صامصون – أنقرة»، والذي يصل إلى تركيا من روسيا عبر خط عابر للبحر الأسود، بإمدادٍ سنويٍّ بالغاز يبلغ 16 مليار متر مكعب إلى «أنقرة»، ورابع الخطوط: خط أنابيب «باكو – تبليسي – أرضروم»، الذي دُشِّن عام 2006 لنقل نحو 8.1 مليارات متر مكعب من الغاز الأذربيجاني إلى تركيا سنويًا، أما خامسها؛ فهو خط أنابيب شرق الأناضول، الذي يوفر لتركيا سنويًا 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي الإيراني.

وتعمل تركيا _ الآن- على مشروع أنبوب غاز مع إسرائيل، والذي سبق أن تعثَّر بعد أن وقَّعت «تل أبيب» عام 2016 مع «قبرص، واليونان»، اتفاقًا؛ من أجل نقل الغاز الإسرائيلي وقبرص عبر اليونان إلى أوروبا، فيما عُرف بمشروع “إيست ميد”، لكن بعدما أعلنت «واشنطن» بشكلٍ مفاجئٍ في يناير 2022، سحب دعمها لهذا المشروع، الذي تعمل على تنفيذه شركات أمريكية، عاد الحديث مرةً أُخرى عن المشروع التركي.

لكن مشكلة المشروع، أن هذا الخط يجب أن يمر بالمياه الإقليمية لـ«قبرص»، ومع استمرار الخلاف السياسي بين «تركيا، وقبرص»، فإنه من غير المتوقع، أن يحظى هذا المشروع بموافقة «قبرص»؛ لذا يبقى معلقًا إلى حين تحسين العلاقات بين «أنقرة – وتل أبيب» بشكلٍ يساعد على تجاوز هذه الخلافات، بالإضافة إلى الحاجة الملحة إلى دعمٍ أمريكيٍّ للمشروع؛ لتوفير التمويل، وإقناع «قبرص» بالانضمام إليه، أو الموافقة على مرور خط الغاز عبر مياهها الإقليمية.

ثانيًا: عقْد صفقات مع الدول المنتجة للغاز؛ ومن بينها: اتفاق وزيريْ الطاقة «التركي، والأذربيجاني» خلال اجتماعهما في منتدى الطاقة «التركيالأذربيجاني»، الثاني: الذي عُقد في «إسطنبول» في 6 أكتوبر 2022، على مضاعفة طاقة استيعاب خط أنابيب الغاز الطبيعي، العابر للأناضول “تاناب”، من 16 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الأذربيجاني سنويًّا، إلى 32 مليار متر مكعب، بحلول عام 2027، ومع أنه لم يتضح بعْدُ، مقدار الغاز الذي سيوجه إلى «تركيا، وأوروبا»، إلا أن هذا القرار يُعدُّ من أهم الخطوات نحو جعْل تركيا مركزًا لتجارة الغاز، خاصةً إذا تم تسعيره في مركز إدارة أسواق الطاقة وإعادة تصديره.

كما شهدت الأشهر الماضية، توقيع العديد من اتفاقيات التعاون بين «موسكو، وأنقرة» في قطاع الطاقة أهمها؛ الاتفاق الذي تم بين الرئيسيْن الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، في لقاء «سوتشي»، في أغسطس الماضي؛ حيث تمّ الاتفاق خلاله، على سداد 25% من مدفوعات الغاز بـ«الروبل» الروسي، وتفاوضا على خصم 25% على الغاز، وعلى تأخير مدفوعات الغاز حتى 2024.

أعلنت تركيا في فبراير الجاري، توقيع صفقة غاز مع سلطنة عُمان؛ للحصول على 1.4 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا لمدة 10 سنوات، وتم توقيع الاتفاقية في العاصمة «مسقط» بين الشركة العُمانية للغاز الطبيعي المُسَال، وشركة «بوتاش» التركية.

ثالثًا: التوسُّع في أعمال التنقيب والإنتاج؛ ومن ضمن خطواتها في هذا الشأن؛ دخول وحدة إعادة الغاز العائمة الثالثة في تركيا إلى البحر المتوسط، وسيتم استخدام هذه الوحدة العائمة في محطة «بوتاش» للغاز الطبيعي المُسَال في «خليج ساروس» في بحر «إيجة» قُبَالة الساحل الأوروبي لتركيا، وهي مصممة لتخزين 180 ألف متر مكعب من ​الغاز الطبيعي​ المُسَال، بطاقة إمداد 28 مليون متر مكعب من الغاز يوميًّا.

وكذلك أعلنت وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية، عن انتهاء شركة نقل البترول التركية «بوتاش»، من بناء المحطة الخاصة بقياس كميات الغاز الطبيعي المُسْتَخرج من حقل «صقاريا» في البحر الأسود، وخط النقل البري الخاص به، وقد أكد «أردوغان»، أن تركيا على مسار بدْء الإنتاج من حقل «صقاريا» في العام الجاري 2023، وأن حقل «شايجوما – 1» المكتشف حديثًا، سيتم ربطه بحقل «صقاريا»، ومنه إلى شبكة الغاز في البلاد.

كما بات لدى «أنقرة» 4 منشآت للغاز الطبيعي المُسَال، اثنتان منها؛ عبارة عن وحدتيْ تخزين وتغويز عائمة “إف إس آر يو”، في ولاية «إزمير»، التي تُعدُّ أول منشأة عائمة للتخزين والتغويز في تركيا، وتبلغ طاقة الضخِّ اليومية إلى الشبكة الرئيسية 20 مليون متر مكعب من الغاز، ومنشأتا تخزين غاز طبيعي تحت الأرض؛ الأولى: في منطقة «سيليفري» بـ«إسطنبول»، وهي أول منشأة لتخزين الغاز الطبيعي تحت الأرض في تركيا، يمكنها تخزين 4.6 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًّا، والثانية: في منطقة «طوز غولو» بـ«أنقرة»، ويمكنها تخزين 1.2 مليار متر مكعب من الغاز، وخلال السنوات الأخيرة، اكتشفت تركيا حقولًا للغاز الطبيعي في البحر الأسود، وتبلغ الكميات المكتشفة في تلك الحقول 540 مليار متر مكعب، من المنتظر أن يتم استخراجها بحلول الرُّبْع الأول من العام الجاري.

وتبلغ الطاقة الإنتاجية اليومية للغاز الطبيعي في تركيا 133 مليون متر مكعب، اعتبارًا من نهاية 2022، بوجود محطتيْن للغاز الطبيعي المُسال ومنشأتيْن لتخزين الغاز الطبيعي المُسال وتحويله، ومن شأن محطة «مرمرة إيرغلي» للغاز الطبيعي المُسال، التابعة لشركة «بوتاش»، ومشروع «ساروس» لتخزين الغاز الطبيعي المُسال، المساهمة في تأمين الإمدادات في «إسطنبول» ومنطقة «مرمرة»؛ حيث يوجد استهلاك مرتفع، إلى جانب لعب دوْرٍ في توريد الغاز مستقبلًا إلى «بلغاريا، ورومانيا، وأوكرانيا» ودول أخرى، في جنوب شرق أوروبا، عبر ولاية «تراقيا».

ومع اكتشاف بئر «تونا – 1» في حقل غاز «سكاريا» في البحر الأسود، في 2020، اكتُشفت احتياطيات غاز جديدة في بئريْ «أماسرا – 1، وتشاي جوما – 1»؛ ليرتفع إجمالي احتياطيات الغاز التركية القابلة للإنتاج إلى 710 مليار متر مكعب، حتى نهاية ديسمبر 2022.

وبفضل أنشطة التطوير الجارية للحقل في البحر الأسود، من المقرر انطلاق إنتاج الغاز في نهاية مارس الجاري، ومن المقرر أن ينتج الحقل 10 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميًّا في المرحلة الأولى، وبالتالي، من المتوقع زيادة الإنتاج اليومي للغاز إلى مستوى 40 مليون متر مكعب، وإيصال إجمالي الإنتاج السنوي إلى «14 – 15» مليار متر مكعب، بحلول نهاية 2026.

رابعًا: استضافة قمة الغاز الطبيعي في «إسطنبول»؛ والتي كان من المقرر لها، أن تُعقد في 14 و15 فبراير الماضي، بمشاركة الدول المصدرة للغاز والدول المستهلكة في أوروبا، ولكن نظرًا لكارثة الزلزال المدمر التي لحقت بـ«أنقرة» في الأسبوع الأول، من فبراير الماضي، تقرر إرجاء القمة إلى 22 مارس الجاري.

وستجمع القمة، الدول المصدرة من الشرق الأوسط، ومنطقة البحر المتوسط، وبحر قزوين وآسيا الوسطى بالدول المستهلكة في أوروبا، تحت شعار “تأمين المستقبل معا”، وستجمع القمة وزراء الطاقة، وممثلين لشركات من القطاعيْن، العام والخاص، ومنظمات الطاقة الدولية، وسيناقش المشاركون التطورات العالمية في قطاع الطاقة، والتغيرات في العرض والطلب، والتسعير.

وقد جاءت هذه البنية التحتية القوية لخدمة مشروع الغاز لـ«أردوغان»، مدفوعةً بعدة أهداف تسعى إليها «أنقرة» من وراء هذا المشروع؛ منها: التخلص من العبء الاقتصادي الكبير الذي يمثله استيراد الغاز، فتركيا تعتمد على الاستيراد لتأمين 71% من حاجتها من موارد الطاقة، وترتفع هذه النسبة بخصوص الغاز الطبيعي؛ لتصل إلى 99%، وقد كلفت فاتورة الطاقة، تركيا 28.9 مليار دولار عام 2020، وارتفعت الكلفة إلى 50.7 مليار دولار عام 2021، بزيادة 75%، وبهذا تأتي موارد الطاقة في مقدمة البنود التي تساهم في عجز الحساب الجاري التركي.

فضلًا عن أن هذه الدرجة المرتفعة من الاعتماد على الخارج في موارد الطاقة، قد تكون لها أثمان سياسية، ولا سيما أن تركيا تختلف في بعض ملفات السياسة الخارجية مع دول تتقدم قائمة مورّدي الطاقة لها، مثل «روسيا، وإيران»، ولذلك تسعي تركيا إلى تنويع هيكل إمداداتها الحالي وموازنة الدور الإستراتيجي لروسيا في مزيج الطاقة الخاصة بها.

هذا إلى جانب رغبة «أنقرة» في زيادة قوّتها التفاوضيّة في مواجهة مراكز إنتاج الغاز الأساسيّة، في كل ما يتصل باتفاقيّات تحديد الأسعار؛ نظرًا للحاجة الإستراتيجيّة لتركيا كمعبرٍ للغاز، الذي يتم توريده باتجاه أسواق الاستهلاك، زيادة النفوذ الجيوسياسي الذي تملكه تركيا إقليميًّا، وخصوصًا في علاقتها مع دول أوروبا.

مقترح روسي يخدم الطموح التركي

في خضم أزمة الطاقة التي خلفتها الحرب «الروسية –الأوكرانية» والضغوط الغربية التي تُمارس على قطاع الطاقة الروسي، تحركت «موسكو» للرد على المقاطعة الأوروبية من خلال تركيا، وذلك عبر اقتراح إنشاء مركز عالمي للغاز في «أنقرة»، من شأنه أن يكون حلقة الوصل التي يمتد خلالها الغاز الروسي إلى أوروبا.

وفي أكتوبر 2022، اقترح «بوتين» على «أردوغان»، إمكانية قيام «موسكو» بتصدير مزيدٍ من الغاز عبر تركيا وتحويلها إلى مركز إمداد جديد، بحيث يتم الانتهاء من تنفيذ المشروع بنهاية العام الجاري، على أن يُقام المركز في «تراقيا» بشمال غرب البلاد؛ حيث الجزء الأوروبي لتركيا، وبالفعل بدأت «أنقرة» في إجراء سلسلةٍ من المفاوضات مع مورِّدي الغاز المحتملين، كما أعطى الرئيس التركي تعليماته؛ من أجل الشروع في الأعمال المشتركة؛ لبدء العمل بإنشاء المركز الدولي لتوزيع الغاز في بلاده.

وكان «بوتين» قد طرح هذا المقترح في عام 2014، غير أنه عاود تسليط الضوء عليه مرةً أُخرى على خلفية الانفجارات التي ألحقت أضرارًا بخطوط أنابيب الغاز الروسية «نورد ستريم 1و2»، التي تمر تحت بحر البلطيق في سبتمبر الماضي، وانخفاض الصادرات الروسية إلى دول «الاتحاد الأوروبي»؛ جرَّاء العقوبات المفروضة على «موسكو».

وتكمن فكرة المقترح في تحويل مسار الغاز الطبيعي الروسي من خطوط أنابيب «نورد ستريم» على طول قاع بحر البلطيق، إلى منطقة البحر الأسود، وبالتالي، جعل الطرق الرئيسية لتوريد الغاز الروسي إلى أوروبا عبْر تركيا، ويُتوقع أن يبلغ حجم الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا عبر هذا المشروع؛ نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا، وترغب تركيا أيضًا في تضمين خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر لـ«الأناضول – تاناب»، الذي ينقل الغاز الطبيعي القادم من أذربيجان إلى الحدود التركية، في المركز المقترح.

وفيما يخص أهداف المقترح الروسي؛ فهذا المشروع يخدم عدة دوافع لدى البلديْن؛ فبالنسبة لـ«موسكو»؛ ترغب في الحفاظ على نفوذها في سوق الطاقة الأوروبي، كما أن المركز المقترح لن يكون مجرد منصة للإمدادات، ولكن أيضًا آلية لتحديد السعر المرجعي للغاز الطبيعي، وهذه قضية مهمة للغاية بالنسبة لروسيا، خاصةً بعد أن تم تسييس ملف الطاقة في الصراع «الروسي – الغربي»، فضلًا عن أن «موسكو» ترغب في الالتفاف على العقوبات الأمريكية والغربية.

كما أن تفجير خطيْ أنابيب «نورد ستريم 1 و2»، إضافةً إلى إغلاق خطوط ترانزيت الغاز عبر أوكرانيا، وإغلاق بولندا لمحطة التكرير في أراضيها، جعل من السيل التركي؛ السبيل الوحيد لوصول الغاز الروسي إلى أوروبا، وبالتالي، لم يكن أمام «موسكو»، التي تريد أن تواصل صادرات الغاز إلى أوروبا الغربية، إلَّا أن تقدّم اقتراحًا إستراتيجيًّا وجوهريًّا إلى «أردوغان»، عبر إقامة أكبر مركز عالمي للغاز في بلاده؛ حيث ستتولى تركيا عملية إعادة تصدير الغاز الروسي وتوزيعه.

كما ترى روسيا في هذا المشروع طريقًا التفافيًا لتصدير النفط الروسي باتجاه «الاتحاد الأوروبي»؛ ما يشكل ثغرةً في العقوبات المفروضة عليها، كما سيسمح لها بالوصول من جديد إلى الأسواق الأوروبية التي خسرتها نوعًا ما؛ حيث إن إنشاء مركز دولي في تركيا يتيح لـ«موسكو» ليس فقط تأمين الإمدادات المستقبلية من جميع أنواع الحوادث التي قد تتعرض لها خطوط الأنابيب، بل إخفاء هوية غازها، بحيث سيتلقى المركز الجديد الغاز من روسيا؛ ليكون بعد ذلك ملكًا لشركة أجنبية، وهو العامل الذي يساعد على اكتساح السوق الأوروبية، وبالتالي، خدمة مصالح شركة «غازبروم» الروسية.

أما بالنسبة لتركيا؛ فإن هذا المقترح يتمتع بجدوى اقتصادية عالية، كما يقدم فرصًا تجارية مهمة؛ حيث إذا بدأ المركز في العمل؛ ستتوافر إمكانيات هائلة لجميع أنواع عمليات التبادل؛ ما يخدم اقتصاد «أنقرة»، الذي زادت أعباؤه بعد الخسائر التي لحقت به؛ جرَّاء الزلزال المدمر الذي ضربها مؤخرًا.

فضلًا عن أن «أنقرة» لن تعاني من شحّ أو تقلُّص ما تحتاجه من الغاز الطبيعي؛ حيث ستحافظ على علاقتها التجارية مع روسيا، وتأمين ما تحتاجه من الطاقة، وفي الوقت ذاته، ستتمكن من ضخِّ المزيد من إمدادات الغاز القادمة من «موسكو» إلى الأسواق الأوروبية، كما ستحصل «أنقرة» على أسعار تفضيلية، وستحدّد الأسعار في سوق الغاز الطبيعي العالمية.

وكذلك سيمكن المشروع تركيا من كسْب عائدات بالمليارات؛ حيث إنها ستستورد الغاز الروسي بالـ«روبل» ثم تبيعه باليورو والدولار؛ ما سينعكس على زيادة الاحتياطي الأجنبي في المصرف المركزي التركي، ويساهم في تحسين سعر صرف الليرة التركية، التي تهاوت إلى ما دون 18.5 ليرة مقابل الدولار.

كما يتطلع الرئيس «أردوغان» لحصول دولته على مكانةٍ خاصةٍ، كتوحيد مسارات التوريد التي تربط أوروبا مع منتجي الغاز، الجُدد والقدامى على حد سواء، ومن شأن نجاح تركيا في أن تتحول إلى معبْرٍ آمنٍ لغاز روسيا وغاز آسيا الوسطى؛ أن يشجعها على لعب دور أكبر في غاز المتوسط.

وبالنسبة للدوافع السياسية لـ«أنقرة»؛ فتركيا تريد أن تكون وسيطًا موثوقًا بالنسبة لروسيا ولغيرها من الدول؛ ما سيكون له أثمان جيوسياسية، منها على سبيل المثال؛ الوساطة التي تلعبها «موسكو» الآن بين «تركيا، وسوريا»، وبذلك يكون «أرودغان» أكبر الرابحين من هذه الأزمة على الصُّعُد كافة؛ فالحرب الأوكرانية منحت حزب «العدالة والتنمية» الفرصة لتعميق علاقاته الاقتصادية مع روسيا؛ لأن «أنقرة» لا تشارك في العقوبات «الأمريكية، والأوروبية» على «موسكو»، وبذلك يكون «بوتين» حقَّق لـ«أردوغان» أمريْن مهميْن؛ الشعبية السياسية من خلال اتفاقية الحبوب والدعم الاقتصادي فيما يتعلق بالغاز، وهذا ما يحتاجه حزب «العدالة والتنمية» قبل الانتخابات؛ لأن شعبيته في أوساط الناخبين آخذة في الانخفاض.

ولكن؛ على الرغم من أنه من الواضح أن مركز الغاز مفيدٌ لكلا الطرفيْن، فإن جميع العلاقات البنَّاءة بين «روسيا، وتركيا» تتشكل بفضل الاتفاقات الشخصية بين «بوتين، وأردوغان»، وبالتالي، قد يتوقف مصير المقترح الروسي على نتيجة الانتخابات الرئاسية التركية القادمة، وإعادة انتخاب «أردوغان».

هل لـ«أنقرة» إمكانية التحول إلى مركز عالمي للغاز؟

إمكانية تنفيذ هذا المشروع ونجاحه في تحقيق أهدافه، والتي ستمكن تركيا من أن تصبح رقمًا مهمًا في أسواق الغاز الطبيعي عالميًّا، ترتهن إلى مجموعةٍ من العوامل الداعمة والمعرقلة لتنفيذ المقترح الروسي:

أولًا: بالنسبة للعوامل الرئيسية التي تجعل من تركيا دولة محورية في تغذية أوروبا بالغاز الطبيعي؛ فهناك عدة عوامل أساسية، منها: الموقع الجغرافي الإستراتيجي القريب من أوروبا، ومن مناطق الإنتاج الرئيسية في آسيا الوسطى؛ وهذا الموقع الإستراتيجي قد يُمكِّنُ تركيا من لعب دوْر المركز الإستراتيجي في مدِّ أوروبا بالغاز الطبيعي.

وثاني العوامل: تتمثل في شبكة الأنابيب الجاهزة التي أعدتها تركيا منذ سنوات، والتي هي شبه مكتملة لاستقبال الغاز من الدول المنتجة ونقله إلى الدول المستهلكة في أوروبا، وتربط تركيا بعدة دول في آسيا والمنطقة العربية وأوروبا، وثالثها: عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي «الناتو»؛ ما يجعلها دولةً آمنةً، وتحقق شروط أمن الطاقة الأوروبي.

أما رابعها: فمن غير المعروف مدى السرعة التي سيتمكن بها «الاتحاد الأوروبي» من التخلّص من الغاز الروسي، وما إذا كان سيتمكّن من ذلك على الإطلاق، كما أنه في حين أن هناك بعض البدائل التي يمكن العثور عليها في «بحر الشمال، والنرويج، وشمال أفريقيا، والشرق الأوسط، والقوقاز، والولايات المتحدة»، إلَّا أن هناك عقبات فنية وبنية تحتية وأزمة وقت تواجه الدول الأوروبية في الاستفادة من هذه الإمدادات، وتجعل من تركيا دولةً محوريةً في تغذية أوروبا بالغاز.

وخامسها: توسّط تركيا أبرز مراكز إنتاج الغاز الطبيعي في المنطقة، كـ«أذربيجان، ودول بحر قزوين شرقًا، والحقول الإيرانيّة التي تقع جنوب شرق حدود إيران مع تركيا، وحقول شرق المتوسّط جنوب الشواطئ التركيّة»، بالإضافة إلى حقول الخليج العربي، كما يقع بغرب وشمال تركيا؛ أبرز مراكز استهلاك مصادر الطاقة العالميّة، أيْ دول «الاتحاد الأوروبي»، أما سادسها: فيتمثل في امتلاك تركيا مجموعةً من الأوراق السياسيّة التي تسمح بتحقيق هذا المشروع، كاحتفاظها بعلاقات مقبولة مع إيران، التي تعاني أساسًا لتسويق غازها في ظلِّ العقوبات المفروضة عليها، وقطر، التي تتشارك مع إيران حقل غاز الشمال، كما تمتلك تركيا علاقات حميمة مع أذربيجان، وتفاهمات براغماتيّة مع روسيا التي تمد شبكتها أساسًا بالغاز الطبيعي.

ثانيًا: العقبات التي تقف أمام المشروع؛ هناك عدة أسباب قد تجعل «أنقرة» غير مستعدة في الوقت الراهن لكي تصبح مركزًا لتسويق الغاز، ومنها؛ أولًا: صعوبة دخول وخروج اللاعبين والبضائع إلى هذا المركز؛ نظرًا لأن قانون سوق الغاز الطبيعي الحالي لا يسمح بذلك، كما أنه يجب ألا تكون هناك قيود على القدرة التقنية على وصول البضائع، أيْ الغاز، والحال أنها لا توجد حاليًا إمكانيةً لزيادة الغاز الروسي بشكلٍ إضافيٍّ.

وثانيها: قدرة «ترك ستريم» الحالية ليست كافية لإنشاء محور إقليمي للغاز؛ إذ تبلغ 15.75 مليار متر مكعب سنويًا، كما أن بناء خط أنابيب ينقل الغاز الروسي عبر تركيا قد يحتاج إلى نحو «3 – 4» سنوات على الأقل، أما ثالثها: فيتمثل في التراجع المحتمل للإقبال العالمي على شراء الغاز وتوقيع عقود طويلة الأجل لشرائه، بعد عام 2030، مع دخول الطاقة المتجددة حيِّزًا أوسع في الاستعمال حول العالم، لذا فإن الطلب على الغاز سيتراجع عالميًا.

ورابعها: صعوبة تحديد الشركات التي ستبني خط الأنابيب؛ خاصةً وأن أغلب الشركات حول العالم تتحاشى التعرُّض للعقوبات الغربية، فضلًا عن كلفة الإنشاء المقدرة بـ 11.4  مليار يورو، كما أنه حتى في حال اكتمال بناء الخط، ثمة مشكلات أخرى أمام المشروع تجب معالجتها، مثل «الصيانة، وقطع الغيار»، وكذا التوربينات، التي لم تتمكن روسيا من الحصول عليها من الدول الغربية، فضلًا عن ضرورة وجود خزَّانات أسفل الأرض، ووجود وصلات أنابيب بشكلٍ كافٍ وإبرام اتفاقيات مع الدول التي ستتجه إليها تلك الوصلات، وخامسها: صعوبة وجود مشتريين للغاز؛ حيث إن كثيرًا من دول أوروبا لن توقِّع عقودًا طويلة الأجل مع روسيا، في ظل اتجاهٍ عامٍ بالتخلُّص التدريجي من الغاز الروسي، بحلول عام 2027، كما لن ترغب أوروبا – على الأرجح- الدخول في عقود مباشرة مع روسيا، فضلًا عن عدم وجود روابط حالية قد تصل بالمركز المقترح من شمال غرب أوروبا، والذي كان معتادًا بالحصول على الغاز عبر «نورد ستريم1»، ومن جانب آخر، تريد «أنقرة» مزْج الغاز الروسي مع غاز بلدان أخرى، مثل «أذربيجان، وإيران، والعراق»، وربما إسرائيل، وإعادة بيعه إلى أوروبا والمشترين الآخرين”، وهذا لا يتطلب موافقة روسيا فحسب، بل تتطلب أيضًا موافقة دول أوروبية أخرى.

أما سادسها: فيتمثل في عوامل ترتبط بتركيا نفسها، مثل «الافتقار إلى تحرير سوق الغاز الطبيعي، واقتصار دورها على نقل الغاز عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر أراضيها، بدلًا من أن تكون مركز تسعير له»، فضلًا عن العقود طويلة الأجل التي لا تسمح بالتصدير إلى دولٍ ثالثةٍ، وأُضيف مؤخرًا لهذه العوامل؛ عواقب الزلزال الذي ضرب جنوب شرقي تركيا، والتي قد تؤدي إلى تأجيل إنشاء مركز توزيع الغاز لبعض الوقت.

وسابع التحديات: فيتمثل في الرَّفْض الغربي للمشروع؛ فإن مشروعًا من هذا النوع قد تكون له تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على علاقات تركيا بحلفائها الغربيين، الذين يعبّرون صراحةً عن تحفُّظهم على عدم مشاركة تركيا بالعقوبات على روسيا، وقد ينظرون للمشروع على أنه دعم تركي إضافي لروسيا ولو بشكلٍ ضمنيٍّ.

وقد عبَّرت بعض العواصم الغربية عن قلقها من أن إقامة مركزٍ في تركيا يتضمن الغاز الروسي، سيسمح لـ«موسكو» بتمرير صادرات تخضع لعقوبات غربية على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي أُولى ردَّات الفعل الأوروبية، أكدت الرئاسة الفرنسية، في بيانٍ لها، أن مقترح الرئيس الروسي لا معنى له، في ظل سياسة الاتحاد الأوروبي، تقليص الاعتماد على غاز «موسكو»، وأن الاتحاد لن يكون أحد مستوردي الغاز الروسي عبْر تركيا، إن نُفِّذْ المشروع.

ومن جانبه، أكد منسق السياسة الخارجية لـ«الاتحاد الأوروبي»، جوزيب بوريل، أن تعميق العلاقات الاقتصادية بين «تركيا، وروسيا» يمثل مصدر قلقٍ كبيرٍ، وأن من دواعي القلق أيضًا، استمرار سياسة تركيا، المتمثلة في عدم الانضمام إلى الإجراءات التقييدية، التي يفرضها «الاتحاد الأوروبي» ضد روسيا، ودعا «الاتحاد الأوروبي»، «أنقرة» إلى تغيير سياستها التجارية تجاه روسيا، وتنفيذ العقوبات الغربية المفروضة عليها، ولوَّح «بوريل» بورقة الانضمام إلى الاتحاد؛ حيث حذَّر من أن تركيا وباعتبارها مرشحة لعضوية «الاتحاد الأوروبي»، يجب عليها أن تلتزم بجميع الإجراءات المعتمدة من قِبَلِ الاتحاد.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فيتزايد قلق «واشنطن» من استخدام الحكومة والشركات الروسية، «أنقرة»؛ للالتفاف على العقوبات والقيود المالية والتجارية الغربية المفروضة، وبالنظر إلى تضارُب هذا المشروع مع خطط ومصالح الولايات المتحدة؛ لن تدخِّر «واشنطن» جهدًا بالمستقبل القريب؛ في سبيل إلغاء هذا المشروع.

إجمالًا:

حلم تركيا بأن تتحول إلى فاعلٍ مؤثرٍ في سوق الغاز الطبيعي، من خلال المقترح الروسي، يرتهن لتفاعل عدة عوامل، في مقدمتها؛ مآلات الحرب في أوكرانيا، من حيث المدى الزمني وكذلك الأطراف المنتصرة والمهزومة، كما أن الأمر مرتبط بشكلٍ مباشرٍ بمدى معاناة أوروبا خلال الشتاء المقبل، وبالتالي، تقييم جدوى تخفيض استيراد الغاز الروسي، فضلًا عن مدى وحدة الموقف الأوروبي داخل الاتحاد بخصوص المشروع، ولا شك أن علاقات تركيا مع كل من «روسيا، والاتحاد الأوروبي» مؤثرة بشكل غير مباشرٍ على آفاق المشروع؛ لذا من الصعب الجزْم بمدى جدوى المشروع وآفاق نجاحه في المستقبل، في ظل ضبابية المشهد، وخصوصًا أن إنشاء المركز سيحتاج لمدى زمني قد تتغير خلاله الظروف بهذا الاتجاه أو ذاك.

 

 

كلمات مفتاحية