مستقبل الاتحاد الأوروبي في ظل الأزمات الراهنة 

حسين المبيض

انقضى النصف الأول، من عام 2022، والذي يشهد طفرةً في الأحداث والاضطرابات السياسية، التي أصبحت تُخيِّم على النظام العالمي، ولعل القارة الأوروبية هي الأكثر تأثُّرًا من عواقب الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى موجة الزعزعة السياسية الأخيرة، التي ترتَّب عليها استقالة رئيس الوزراء البريطاني، وطلب استقالة نظيره الإيطالي، ولعل تلك المعطيات، قد أعادت فتْح النقاش حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، في ظل المناخ السياسي المُتقلِّب والأزمات الحالية؛ لذا سنحاول خلال السطور التالية، استبيان وضع الاتحاد الأوروبي، في إطار الأزمات المتلاحقة.

يمثل الاتحاد الأوروبي – اليوم- كتلةً سياسيةً واقتصاديةً فريدةً من نوعها، يُوصف بالهيكل فوق وطني (Supranational)  مُعقَّد، أيْ تتجاوز حدود الولاية الوطنية، وعلى الرغم من التعاون المشترك بين الدول الأعضاء، إلا أنه لطالما لعبت سيادة الدول دوْرًا مُهمًّا ومُؤثِّرًا على سياسة الاتحاد الأوروبي، مع بقاء هدف التكامل «الاقتصادي، والسياسي»، والاعتماد المتبادل، وهو الهدف الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية؛ لكي يَحُولَ من وقوع القارة الأوروبية في حرب مدمرة، كما يعمل على تعزيز الاستقرار والازدهار، وبالفعل، على مدار السنوات، استطاع الاتحاد الأوروبي تحقيق معدلات نمو اقتصادية ضخمة؛ ليصل حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي 15.3٪  (1) مما يجعل الكتلة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وقوة فاعلة على الساحة العالمية.

ويتكون الاتحاد الأوروبي – حاليًّا- من 27 دولةً عضوًا، بما في ذلك معظم دول «وسط، وشرق» أوروبا، وكان قد انطلق مسار الاتحاد الأوروبي من الجماعة الأوروبية لـ«الفحم، والصلب» في عام 1952، والذي تكوَّن من الأعضاء المؤسسين «بلجيكا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، ولوكسمبورغ، وهولندا»، واستمر الكيان في التوسُّع على مدار السنوات؛ ليصل الاتحاد الأوروبي إلى شكله الحالي، في عام 2014، مع انضمام الدول من مختلف أنحاء القارة الأوروبية، بما في ذلك دول الاتحاد السوفيتي السابق، وصولًا إلى «كرواتيا»، التي أصبحت أحدث عضوٍ في الاتحاد الأوروبي، في يوليو 2013. (2) وتشمل البلدان التي تم منحها صفة الدول المرشحة، «ألبانيا، وجمهورية مقدونيا الشمالية، ومونتينيجرو، وصربيا، وتركيا»، وكانت «مولدوفا، وأوكرانيا»، آخر الدول التي تم ترشيحها للعضوية.

مهددات الإتحاد الأوروبي

قد يكون أكبر التهديدات التي تواجه الاتحاد الأوروبي، هي أعضاؤه، وهو أمرٌ متوقعٌ؛ بسبب بروز الاختلافات «الثقافية، والسياسية، والاقتصادية»، الخاصة بكل دولة، برغم جهود الاتحاد الأوروبي الدائمة في عمليات التكامل – وحتى الآن- يستمر الدول الأعضاء بالتشبُّث بالاتحاد الأوروبي، بالرغم من تبايُن السياسات في المواقف المتعددة، والتي تتضمن «خطة التوسُّع، وانضمام أعضاء جُدُد، وسياسات الإصلاحات المالية، والضريبية، وأزمة اليورو الاقتصادية، و أزمة اللاجئين وسياسات الهجرة، وجائحة كورونا، مرورًا إلى الأزمة الأوكرانية»، وفي الواقع، كُلٌّ من تلك المواضيع، هي محل خلاف بين الدول الأعضاء، ولكلِّ موضوع عُمْقٌ، يجعل من الصعب مناقشة الموضوعات ومعالجتها جميعًا في تقرير واحد؛ لذلك نذكر نبذةً عن أهم مهدِّدات الاتحاد الأوروبي.

أولا: ملف توسع الإتحاد الأوروبي

لطالما اعتبرت عملية توسُّع الاتحاد الأوروبي موضع خلاف جوهري بين الدول الأعضاء، بالأخص الدول المؤسِّسة، مثل «فرنسا، وألمانيا»؛ حيث دعمت ألمانيا باستمرار توسُّع الاتحاد الأوروبي، واهتمت بشكل أكبر بالشأن الاقتصادي؛ كونها القوة الاقتصادية الأكبر في الاتحاد الأوروبي، بينما تتمسك فرنسا بوقف قبول أعضاء جُدُد؛ بذريعة ضرورة تحقيق المزيد من التكامل «السياسي، والاقتصادي» للدول الأعضاء، وحل القضايا الداخلية المعقدة أولًا. (3)

وانطلقت أصوات الداعمين للموقف الفرنسي؛ لتُنْسبَ الأزمات وسُوء إدارتها إلى بعض الدول الأعضاء، في إشارةٍ إلى التراجُع الديمقراطي في بعض الدول الأعضاء، وبروز أصوات التيار المحافظ والأحزاب السياسية الشعبوية؛ بما في ذلك «بولندا، والمجر» وغيرهم من الدول التي تتحفظ على سياسات الاتحاد الأوروبي، وتدير بعض الملفات الشائكة، بشكلٍ أُحادي الجانب، وبالأخص في إدارة أزمة اللاجئين، ومن ذلك المنطق، انطلقت حجة عدم استعداد دول الجوار «السوفيتية السابقة، تركيا،» وغيرهم، لعضوية الاتحاد الأوروبي، سواء في الشِّقِّ الاقتصادي، وعدم قدرتهم على المنافسة في السوق المشترك، أو عدم توافق القيم وسياستهم الداخلية مع تلك الخاصة بالاتحاد الأوروبي.

ولكن في الفترة الأخيرة، استطاع الاتحاد الأوروبي التحرُّك في ملف التوسُّع؛ بغض النظر عن الحسابات الشخصية للدول الأعضاء، فعلى غرار الغزو الروسي لأوكرانيا، تم إدراج كُلٌّ من «مولدوفا، وأوكرانيا» في قائمة الدول المرشحة، كما استكمل الاتحاد الأوروبي المفاوضات مع «مقدونيا الشمالية، وألبانيا» بعد سنواتٍ من التعطيل، بالرغم من تحقيق الدولتيْن المرشحتيْن مطالب الاتحاد الأوروبي، في ما يتعلق بتعزيز سيادة القانون، وخلْق الأدوات اللازمة؛ لمكافحة الفساد، وكذلك حماية استقلالية وسائل الإعلام والمجتمع المدني، ومع ذلك، وبالرغم من قطْع الدولتيْن شوطًا ضخْمًا في تحقيق تلك المتطلبات، إلا أن التحرُّك من جانب الاتحاد الأوروبي لم يتحقق إلا مؤخرًا، وذلك بعد تقديم تنازلات إضافية من الدولتيْن؛ لإرضاء الدول الأعضاء.(4)

ثانيا: أزمة اليورو

تُعدُّ أزمة اليورو من أصعب التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي؛ لطُولِ أَمَدِ تأثيرها على الدول الأعضاء، ذات معدلات النمو الضعيفة، وبالإضافة إلى المسبِّبات الداخلية، فكثيرٌ من الدول عرضة للمؤثرات الخارجية، وبالأخص الانكماش الاقتصادي العالمي، كما شهدنا من «جائحة كورونا، والأزمة الأوكرانية الحالية»، وهي قادرة على دفع الدول الأكثر عرضة إلى مشاكل اقتصادية وخيمة، كتلك التي أثَّرت على منطقة اليورو.

تتكون منطقة اليورو من «19 من أصل 27» دولةً عضوًا في الاتحاد الأوروبي، تستخدم عُمْلةً مُوحَّدةً، وهي اليورو، كما تشترك دول منطقة اليورو في بنك مركزي مشترك – البنك المركزي الأوروبي – وسياسة نقدية مشتركة، ومع ذلك، لا تُوجد سياسة مالية مشتركة، وتحتفظ الدول الأعضاء بالسيطرة على القرارات المتعلقة بـ«الإنفاق الوطني، والضرائب»، مع مراعاة شروط معيَّنة؛ مُصمَّمة للحفاظ على الانضباط في الميزانية، وظهرت بوادر الأزمة المالية في منطقة اليورو، عام 2009، بدايةً من اليونان؛ نتيجة اقتراض الحكومة اليونانية بكثافة من أسواق رأس المال الدولية؛ لـ«دفع ميزانيتها، والعجز التجاري»، وبحلول عام 2010، بدأت اليونان بالتخلُّف عن سداد ديونها العامة، ومن ثم انتشرت مخاوف السوق بسرعة إلى العديد من دول منطقة اليورو الأخرى، ذات مستوى الإنفاق المرتفعة، والتي لا يمكنها تحمُّل الديْن العام، بما في ذلك «أيرلندا، والبرتغال، وإيطاليا، وإسبانيا»

و لكن سُرْعان ما استجابت مؤسسات الاتحاد الأوروبي للأزمة، وسَعَتْ إلى وقْف الأزمة، بمجموعةٍ متنوعةٍ من السياسات، تعمل على تجنُّب التخلُّف عن سداد الديون، كما تلقَّت «اليونان، وأيرلندا، والبرتغال، وقبرص» قروضًا من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، مشروطة بتدابير تقشُّفية صارمة، وفي النصف الأول، من عام 2015، تعالَتْ التوقُّعات بخروج اليونان من منطقة اليورو؛ حيث سَعَتْ الحكومة اليونانية إلى تلقِّي المزيد من المساعدة المالية من دائنيها في منطقة اليورو، وطالبت أيضًا، بإعفاء الديون وتخفيف التقشُّف، في ظل رفض الدول الأعضاء، مثل ألمانيا،إ ضافةً لـ«هولندا، وفنلندا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا»،  وشدَّد الجميع بأنه على اليونان، الالتزام  بالقواعد المالية لمنطقة اليورو، على الرغم من تخلُّف اليونان عن سداد دُفْعةٍ من ديون صندوق النقد الدولي، وإغلاق البنوك في الدولة، إلا أن الحكومة اليونانية وافقت على مطالب الاتحاد الأوروبي؛ لمزيدٍ من «التقشُّف، والإصلاحات الاقتصادية»، في مقابل المساعدة المالية؛ ليصل إجمالي المساعدات التي تلقَّتها اليونان بين عاميْ «2010، و2018»، ما يقْرْب إلى 330 مليار دولار، في شكل قروض من «الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي» . (5)

ولعل أزمة اليورو هي أولى تحديات الاتحاد الأوروبي، والتي هدَّدت بالانفكاك، ويبقى ملف الاقتصاد من الأمور ذات الأهمية الشديدة للاتحاد الأوربي، حيث إن لفشل لدولة واحدة في الإدارة المالية عواقب وخيمة على باقي الدول، بالأخص عندما تشترك تلك الدول في اتحادٍ نقدي، مثل دول منطقة اليورو، وكما شكَّلت ديون هذه البلدان خطرًا على النظام المصرفي الأوروبي، وأدَّت إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وإلى ارتفاع معدلات البطالة في العديد من دول المنطقة، من الممكن أن تطرق «أزمة مماثلة» أبواب الاتحاد الأوروبي في أيِّ وقت.

ثالثا: أزمة اللاجئين

يستمر الاتحاد الأوروبي في محاولة معالجة أزمة اللاجئين وموجات الهجرة غير الشرعية في أوروبا، التي بلغت ذروتها، في عام 2015؛ حيث وصل أكثر من مليون مهاجر ولاجئ إلى أوروبا، في أعقاب ثورات الربيع العربي، وبالأخص الحرب الأهلية السورية، واستمرت هذه الموجة في عام 2016، حتى حدث انخفاض كبير، خلال عاميْ «2017، و 2018»، مرورًا إلى الأزمة الأوكرانية، وطالما انعكس ملف الهجرة على أعضاء الاتحاد الأوروبي، وكان له تأثير وعلاقة مباشرة بظاهرة تفكُّك الاتحاد الأوروبي، وبين «التيار السياسي الأيمن، والتيار الأيسر»، وكيف استغل الشعبويون وأحزاب اليمين المتطرف ملف الهجرة والمشكلات المرتبطة بالمهاجرين غير الشرعيين واللاجئين؛ للحصول على دعم وتأييد شعبي، في حين دعت الدول الأعضاء ذات الاتجاه الليبرالي إلى التمسُّك بسياسات الاتحاد الأوروبي، في معالجة أزمة اللاجئين . (6)

ولكن على مدار السنوات، استمر الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، حول كيفية الاستجابة لتدفُق أعدادٍ كبيرةٍ من المهاجرين واللاجئين، وأصبح سوء معالجة الملف هو الأمر الغالب، وبالأخص من قِبَلِ دول «جنوب، وشرق» أوروبا في استقبالهم ومعاملتهم للاجئين، في دول مثل «اليونان، بولندا، والمجر»؛ حيث أُقِيمت مخيمات اللاجئين، وتم حرمانهم من حياة كريمة.

واستمر التعثُّر في معالجة ذلك الملف الإنساني، حتى طالب الاتحاد الأوروبي الدول الأعضاء، في 2020،  بتطبيق نظام إجباري مُوحَّد للتعامل مع الهجرة، يتطلب عليهم؛ إما الموافقة على استقبال طالبي اللجوء، أو تولِّي مسؤولية إعادة أولئك الذين رُفِضَ طَلَبُ لجوئهم، وتتضمن الإجراءات الجديدة أيضًا، تسريع عملية إعادة المهاجرين، الذين تُرفض طلبات لجوئهم، وهي خطةٌ دعمتها بقوة المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، ولكن في الواقع، واجهت انتقادات عدة من الدول الأعضاء، فحين قالت منظمة العفو الدولية: «إن الخطة مصممة لرفع الأسوار وتقوية الحواجز، ولن تفعل شيئًا لتخفيف معاناة اللاجئين».

واستمر الحال كما هو عليه، حتى وصول الأزمة الأوكرانية، وفي مارس من العام الحالي، أطلق الاتحاد الأوروبي توجيه «الحماية المؤقتة» لأول مرة، والذي يضمن لجميع الأوكرانيين حمايةً مؤقتةً في أيِّ مكان في الاتحاد الأوروبي، ووفقًا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، تم تسجيل أكثر من 4.8 مليون لاجئ أوكراني في جميع أنحاء أوروبا، منهم 3.2 مليون شخص في برامج الحماية، كما وافق البرلمان الأوربي على حزمة دعم، بقيمة 400 مليون يورو؛ لمساعدة دول الاتحاد الأوروبي في استيعاب معظم اللاجئين؛ للتعامُل مع إجراءات الهجرة وإدارة الحدود العاجلة.

وبموجب هذا المخطط، سيتم منْح اللاجئين من أوكرانيا حمايةً مؤقتةً، لمدة تصل إلى ثلاث سنوات في دول الاتحاد الأوروبي، دون الحاجة إلى التقدُّم بطلبٍ للحصول على اللجوء، بالإضافة إلى ضمان حق الحصول على تصريح إقامة، والوصول إلى «التعليم، والسكن، وسوق العمل»، وذلك على غرار أزمة اللاجئين عام 2015؛ حيث دعا الاتحاد الأوروبي إلى احتجاز اللاجئين الوافدين، لمدة تصل إلى 18 شهرًا . (7) واليوم تحوَّلت «بولندا، والمجر» أكثر الدول المتعنتة في ملف اللاجئين، إلى الأكثر رعاية وتِرْحابًا باللاجئين الأوكرانيين .

لكن ما وصفه الكثيرون، بأنه عملٌ تضامنيٌ عظيمٌ مع أوكرانيا، عمل على توحيد صفوف الدول الأعضاء في التعامل مع الأزمة، قد أظهر أيضًا ازدواجية المعايير في معالجة الاتحاد الأوروبي لملف اللاجئين؛ حيث إن اللاجئين من «إفريقيا، وآسيا،ـ والشرق الأوسط» لا يتلقون المعاملة السخية نفسها، التي يتلقاها مواطنو أوكرانيا.

رابعا: الأزمة الأوكرانية

لم يكن الاقتصاد الأوروبي قد تعافى كُليًّا من آثار جائحة كورونا، وإذا به ينزلق مرةً أُخرى نحو الهاوية الاقتصادية؛ نتيجة الأزمة الأوكرانية وما تبعها من دخول دول العالم في دوامةٍ من التحديات الاقتصادية، والتي أدَّت إلى إرباك الأسواق العالمية، وارتفاع أسعار صادرات الطاقة والسلع الأساسية والبضائع الصناعية، وارتفاع التضخم؛ الأمور التي من شأنها، أن تؤثر بشكل سلبي على مسار التنمية في جميع الدول، بما فيها أعضاء الاتحاد الأوروبي، خاصةً دول «جنوب، وشرق» أوروبا، ولم يكْمُن تهديد الحرب في أوكرانيا في التلويح بأزمة مالية، تمثل خطرًا على مستقبل وتماسُك الاتحاد الأوروبي، وإنما شمِل التهديد البُعْد السياسي أيضًا؛ حيث اتضح تبايُن ردود الفعل والتحرُّكات الأوَّلية بين الدول الأعضاء؛ جراء الغزو الروسي.

في حين كان رد فعل الاتحاد الأوروبي على الغزو الروسي لأوكرانيا سريعًا، ومتبوعًا بالعقوبات الاقتصادية، وإرسال دُفْعةٍ من المساعدة العسكرية المباشرة إلى أوكرانيا، بقيمة 1 مليار يورو، في الأسبوع الثاني (8)  إلا أنه اختلفت سرعة التحرُّك ضد روسيا، عندما تعلَّق الأمر بقطاع الطاقة؛ حيث تعتمد الدول الأوروبية بشكلٍ مُكثَّف على الواردات الروسية من الوقود، وبنسبة 40٪ من احتياجاتها من الغاز؛ وهو الأمر الذي انقسم عليه الدول الأعضاء، في حين طالبت «بولندا، وبلغاريا، ودول الاتحاد السوفيتي السابقة»، بفرض عقوبات أكثر صرامةً وحسمًا على روسيا، خاصةً على واردات الطاقة، كانت دول مثل «ألمانيا، وإيطاليا، وهولندا»، التي تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية، مترددةً في هذا النَّهْج، وأصبحت التحديات الرئيسية التي تواجهها الدول الأعضاء، هي كيفية دفْع ثمن الطاقة الروسية، بطريقةٍ لا تخْرِق أو تُقوِّضُ عقوبات الاتحاد الأوروبي، وكذلك كيفية الحصول على مصادر الإمدادات البديلة وتطويرها؛ للابتعاد عن الاعتماد على روسيا.

أما على النقيض، فيظل رئيس الوزراء المجري، فيكتور أُورْبَان، صديقًا لـ«بوتين» في الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، خلال الأزمة الأوكرانية؛ حيث يباشر نظام «أوربان» ببثِّ الدعاية الموالية لروسيا، وحظْر نقْل الأسلحة إلى أوكرانيا من الأراضي المجرية؛ لتحصل المجر، لقب «تهديد أوروبا الآخر للديمقراطية»  (9)

وبالفعل، تعرضت أفعال «أُوْربَان» لانتقاداتٍ واسعة النطاق، حتى من قِبَلِ حليفته الأقرب بولندا، إلا أن الحقيقة القاسية، هي أنه في حين أن المجر هي عضو الاتحاد الأوروبي الوحيد الذي يشيد بـ«بوتين»، ويهاجم «زيلينسكي»، فإن عددًا من الدول الأعضاء البارزة في الاتحاد الأوروبي لديها أيضًا علاقات مُعقَّدة في مجاليْ «الطاقة، والاقتصاد» مع روسيا، تجعل اتخاذ موقف متشدد بشأن العقوبات حسابات سياسية صعبة – وحتى الآن- تستمر غالبية الدول الأوروبية في الاعتماد على الصادرات الروسية، ومن المتوقع، أن يتم إنهاؤها تدريجيًّا، ومن المرجح، أن تدفع الحرب إلى المزيد من الاضطرابات، في سلسلة الواردات والعقوبات الاقتصادية، وحالةٍ من الركود في الاقتصاد الأوروبي، وعلى الرغم من أن التأثير سيختلف بين دول الأعضاء، سيظهر التأثير أكثر في البلدان التي يكون فيها الاستهلاك أكثر حساسيةً لأسعار «الطاقة، والغذاء»؛ حيث تكون نسبة كبيرة من السكان مُعرَّضةً لخطر الفقر في «جنوب، وشرق» أوروبا؛ الأمر الذي يُهدِّد بتكرار الأزمات المالية السابقة، وخطر تقاسُم الاتحاد الأوروبي.

التماسك وليس التفكك 

يمكن القول: إن للعديد من هذه التحديات آثارًا على «شكل، وشخصية» الاتحاد الأوروبي، وأصبح من شأن الأزمة الأوكرانية، أن تأتي بنتيجة إيجابية، في ما يتعلق بتماسُك وتضامُن الدول الأعضاء، فقد حقَّقت الأزمة – وما تلاها من تحركات، تحت مظلة الاتحاد الأوروبي- زخمًا نحو سياسة خارجية، أكثر جُرْأةً للاتحاد الأوروبي، تستمر إلى ما بعد الاستجابة الفورية لهذه الأزمة، كما حقَّقت تقارُبًا بين الدول الأوروبية، في العديد من الملفات، وبالأخص «الإنفاق العسكري، التوسُّع، وسياسات اللاجئين والهجرة»، وتشمل هذه قرارات الاتحاد الأوروبي بتمويل أوكرانيا عسكريًّا، بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية، وقد بلغ إجمالي الدعم المالي الكلي من الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، منذ بداية الحرب، 2.2 مليار يورو، ومن المتوقع، أن يزداد أكثر في الأشهر المقبلة (10)

كما عزَّز الاتحاد الأوروبي شراكته مع حلف الشمال الأطلسي «الناتو» كركيزة أساسية لإستراتيجيته «تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية، والتعاون الأمني»، وغالبًا ما اعتمد الاتحاد الأوروبي نماذج «الناتو»؛ لتطوير هياكله العسكرية، وقدَّم هو نفسه نماذج لحلف «الناتو» على الجانب المدني، وذلك في إطار تطوير الأدوار المتآزرة والشراكة الإستراتيجية.

أما في ملف التوسُّع، فإن خطوات الاتحاد الأوروبي الأخيرة، منح «أوكرانيا، ومولدوفا» صفة الدول المرشحة للعضوية، تمثل سياسة أكثر جُرْأةً في التقرُّب من المحيط الحيوي الروسي، ولكن يبقى سؤال تفعيل عضوية تلك الدول بشكل جدي مطروحًا الآن، وبعد بدْءِ المفاوضات مع دولتيْ «ألبانيا، ومقدونيا الشمالية»، هل يتحقق مُرادُهم «في، ومِنْ» الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ المؤكد أن التطورات الأخيرة في الأزمة الأوكرانية، كان من شأنها، توحيد الصفوف في ملف التوسُّع واللاجئين الأوكرانيين، حيث أعطت زخمًا جديدًا للمناقشات حول القيمة الإستراتيجية لسياسة توسيع الاتحاد الأوروبي، خاصةً في مجابهة العدو الروسي المشترك.

خامسا: الأزمات السياسية

استقالة جونسون

لا شكَّ بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بشكلٍ رسميٍّ، في يناير عام 2020، قد أدَّى إلى تراجُع حاد في العلاقات بين الطرفيْن، لاسيما أن المفاوضات «قبل، وبعد» خروج بريطانيا قد شابها الكثير من التعنُّت، في وقتٍ كان يهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي، ويلوح في الأفق إمكانية انسحاب دول أعضاء آخرين، ومع استقالة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في بداية الشهر الحالي، تباينت ردود الفعل داخل الاتحاد الأوروبي، فمن جانبٍ، رأى الكثيرون في عهد «جونسون» التزامًا أقلَّ تجاه الاتحاد الأوروبي، و من جانبٍ آخر،  كان «جونسون» أول من اتخذ موقفًا ضد الغزو الروسي وضد «بوتين»، وزيارته لأوكرانيا سبقت زيارة «ماكرون، وشولتز»، فكان حليفًا أمنيًّا أكثر نشاطًا للاتحاد الأوروبي، ولا يزال عدم اليقين يلوح في الأفق، حول ما إذا كانت بريطانيا ستعيد الاندراج في القضايا «الإقليمية، والدولية»، بشكلٍ فعَّال، بالإضافة إلى مواصلة العمل مع الاتحاد الأوروبي، أم يستمر رئيس الوزراء القادم في الانشغال بالقضايا المحلية، ومتابعة السياسة الخارجية للمملكة المتحدة، التي تتمحور نحو المحيط الهادئ، باعتبارها المسرح الذي تواجه فيه جنبًا إلى جنبٍ مع الولايات المتحدة النفوذ الصيني المتصاعد. (11)

استقالة دراجي

في آخر حلقات الزعزعة السياسية، في منتصف الشهر الجاري، أعلن رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراجي، استقالته؛ خلفية نشوب خلاف سياسي، داخل حكومته الائتلافية، وبالأخص بعد مقاطعة حركة «5 نجوم» التصويت على حزمة إغاثة اقتصادية مقترحة؛ للتخفيف من «آثار ارتفاع التكاليف المعيشية، وأسعار الطاقة». وتنقسم حركة «5 نجوم» بشدة، حول ما إذا كانت ستعيد تأكيد دعمها لـ«دراجي»، أو تسْحب وزراءها من الحكومة، وهو الأمر الذي اعتبره «دراجي» بمثابة تحرُّك يمول بحجب الثقة عن التحالف، وفي الواقع، تم رفض استقالته على الفوْر، من قِبَلِ الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا؛ ويرجع ذلك لضرورة التماسُك السياسي في الفترة الراهنة.

في الأساس، شغل «دراجي» منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي، وقد نُسِبَ له الفضل، في إنقاذ اليورو، خلال الأزمة المالية، ولعب دوْرًا حاسمًا في استقرار الاقتصاد الإيطالي، وثالث أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ومع تعيينه كرئيس للوزراء، في أوائل عام 2021، كان من أهدافه الواضحة، إعداد وتنفيذ حزمة الإنعاش الاقتصادي الإيطالي؛ لمعالجة الآثار الاقتصادية من جائحة كورونا، وذلك من خلال  القروض والمنح التي يعرضها الاتحاد الأوروبي للدول الأعضاء، والتي أصبحت خط إنقاذ ضروري لبعض الدول، فإن إيطاليا مثل الكثير من الدول، تعيش الآن أزمة التكلفة المعيشية؛ نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي النهاية، تعالت الأصوات في «الخارج، والداخل»، التي تناشد ببقاء «دراجي» في منصبه،  مشيرةً إلى أن حرمان إيطاليا من حكومة تعمل بكامل طاقتها، من شأنه، أن يُقوِّض التقدم في الإصلاحات الاقتصادية، ويُؤخِّر إقرار ميزانية 2023 حتى العام المقبل، في حين أن الأولوية تكْمُن في الموافقة على الميزانية التالية، والمُضي قدمًا في الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة؛ لإطلاق الشريحة التالية، من حزمة التعافي الاقتصادي، من وباء كورونا من قِبَلِ الاتحاد الأوروبي، والتي تبلغ بالإجمال 750 مليار يورو، منها 200 مليار يورو، مخصصة لإيطاليا (12) وبالتالي، فإن فوْر صدور خبر استقالة «دراجي» وما قد ينتج عنه من أزمة اقتصادية في ثالث أكبر اقتصاد أوروبي، وضع تصورات مرتبطة بمستقبل الاتحاد الأوروبي بشكلٍ عامٍ، وأُعِيدَ وميض ذاكرة أزمة اليورو، ورجوع احتمالية التفكُّك والتقاسُم داخل الكيان.

مستقبل الإتحاد الأوروبي

يدرك الإتحاد الأوربي حالة التشرذم في سياسته الداخلية والخارجية، ولطالما وجه أسئلة حول شكله وطابعه المستقبلي، ففي أعقاب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في يونيو عام 2016، أعلن قادة الاتحاد الأوروبي إطلاق عملية “التفكير السياسي” للنظر في مستقبل الاتحاد الأوروبي، حيث جدد الدول الأعضاء التزامهم بمشروع التكامل الأوروبي، واعترفوا بالتحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي، وتعهدوا بجعله أقوى وأكثر مرونة، من خلال المزيد من الوحدة والتضامن بينهم.

و تجددت ذلك النوع من الإصلاح الوجودي، حيث أطلق الاتحاد الأوروبي في مايو 2021 مؤتمرًا حول “مستقبل أوروبا” لتعزيز الحوار حول مجموعة واسعة من الموضوعات بين المواطنين والخبراء ومسؤولي الاتحاد الأوروبي، و انتهت المناقشات في مايو من العام الحالي نتج عنه تقرير يتمحور حول 49 اقتراحًا تتضمن أهدافًا ملموسة وأكثر من 320 إجراء لمؤسسات الاتحاد الأوروبي في مواضيع: تغير المناخ والبيئة، الصحة؛ اقتصاد أقوى وعدالة اجتماعية، القيم والحقوق وسيادة القانون والأم ؛ التحول الرقمي، و الديمقراطية الأوروبية،  الهجرة؛ التعليم والثقافة ودور الشباب. (13) و لذك يبقى التكامل الاقتصادي و السياسي الحل المتفق عليه في مجابهة تحديات الإتحاد الأوروبي.

خلاصة القول: كان ولايزال مسار الاتحاد الأوروبي مُتقلِّبًا؛ حيث مرَّ عبْر سنواتٍ من الصراع السياسي، والركود الاقتصادي، وما تلته من أزمة وجودية؛ حيث أصبح وجوده نفسه موضوعًا للنقاش في وجه التحديات المختلفة، فكانت خطة إنقاذ اليونان، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الأكثر خطورة على سلامة بقاء الاتحاد الأوروبي، مرورًا إلى أزمة الهجرة، وجائحة كورونا، وأوكرانيا الأخيرة، كُلٌّ منها يفرض تحديات كبيرة على تضامُن، وتماسُك و نجاة الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، أصبح من الضروري التأقْلُم السريع؛ لمواكبة النظام السياسي العالمي المتغير، وتتمثل الدروس المستفادة التي استخلصها الاتحاد الأوروبي من الأزمة الأوكرانية:

أولًا: أهمية تعظيم دور «الناتو»؛ لتكون أداةً فعَّالةً في حلِّ النزاعات الدولية.

ثانيًا: ضرورة تقليص الاعتماد على الطاقة من روسيا، وإيجاد بديل؛ ليكفي احتياج دول الأعضاء من الوقود.

في الختام: على الرغم من التحديات التي واجهت الاتحاد الأوروبي على مدار السنوات، مرورًا إلى أزمات الفترة الراهنة، فقد حرصت الدول الأعضاء على أهمية التماسُك، وتفعيل التعاون المشترك بينهم، وذلك في إطار تعزيز دور الاتحاد الأوربي على كافة المستويات، والتي تتضمن تعظيم القدرات العسكرية لحلف «الناتو»؛ ليكون ذراعًا عسكريًّا فعَّالًا، يعكس قوة وتأثير الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من تحرُّكات الدول الأعضاء المتباينة في الآونة الأخيرة، فيما يتعلق بالغزو الروسي، إلا أن الاتحاد الأوروبي، يمتلك من القدرات «الاقتصادية، والعسكرية»، القادرة على استعادة التوازن ككتلة مؤثرة في النظام الدولي، كما أنه غير مستبعدٍ، أن يقوم الاتحاد الأوروبي، بمواصلة مساعيه بضم المزيد من الدول لكيانه، خاصةً الدول التي تقع في المجال الحيوي الروسي.

قائمة المصادر

1. Amadeo, K. (2021). Largest Economies in the World. Retrieved from The Balance: https://www.thebalance.com/world-s-largest-economy-3306044

2. European Parliament. (n.d.). The Enlargement of the Union. Retrieved from The European Parliament: https://www.europarl.europa.eu/factsheets/en/sheet/167/the-enlargement-of-the-union

3. Depmpsey, J. (2019). Europe’s Enlargement Problem. Retrieved from Carnegie Europe: https://carnegieeurope.eu/strategiceurope/80203

4. Tidey, A. (2022). EUROPE NEWS ‘Historic moment’: EU opens accession negotiations with Albania and North Macedonia. Retrieved from Euro News: https://www.euronews.com/my-europe/2022/07/19/historic-moment-eu-opens-accession-negotiations-with-albania-and-north-macedonia

5. Oosterveld , B., & Tsiknia, A. (2018). This Greek tragedy is not over just yet. Retrieved from Atlantic Council : https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/this-greek-tragedy-is-not-over-just-yet/

6. Downes, J. F., & Loveless , M. (n.d.). Why centre-right parties adopt hardline positions on immigration at their peril. Retrieved from The Loop: https://theloop.ecpr.eu/why-centre-right-parties-adopt-hardline-positions-on-immigration-at-their-peril/

7. Global Detention Project. (2022). The Ukraine Crisis Double Standards: Has Europe’s Response to Refugees Changed? . Retrieved from Relif Web: https://reliefweb.int/report/ukraine/ukraine-crisis-double-standards-has-europe-s-response-refugees-changed

8 &10. European Council. (n.d.). EU response to Russia’s invasion of Ukraine . Retrieved from European Council : https://www.consilium.europa.eu/en/policies/eu-response-ukraine-invasion/

9. Beauchamp, Z. (2022). Europe’s other threat to democracy . Retrieved from Vox: https://www.vox.com/23009757/hungary-election-results-april-3-2022-orban-putin

11. Scheuermann, C. (2022). Johnson’s Resignation and the Consequences for Europe. Retrieved from Spiegel International: https://www.spiegel.de/international/europe/johnsons-resignation-and-the-consequences-for-europe-we-cant-do-without-britain-a-590a7ec1-8e75-4bab-a638-e29a11022ee8

12. Kazmin, A. (2022). Italy still needs Mario Draghi . Retrieved from Financial Times: https://www.ft.com/content/5e8015e4-1a38-4da7-abbf-9b54a28aacb0

13. European Parliament. (2022). The Conference on the Future of Europe concludes its work . Retrieved from European Parliament: https://www.europarl.europa.eu/news/en/press-room/20220509IPR29102/the-conference-on-the-future-of-europe-concludes-its-work

كلمات مفتاحية