مصير السلام في الشرق الأوسط في ضوء تطورات الأزمة الأوكرانية

مصطفى أحمد مقلد

مقدمة:

لا تزال انعكاسات الحرب الأوكرانية على القضية الفلسطينية في طوْر التشكُّل، خاصةً وأن الصراع يبدو أنه يتجه صوْب سيناريوهات مفتوحة، غير أنه يمكن قياس حدود التأثر؛ استنادًا لما يمكن أن تُحْدِثَه الحرب من تغييرات على طرفيْ الصراع «الفلسطيني –الإسرائيلي» وتحديد كيفية توظيف كل طرف ما لديه في تعزيز موقفه.

وقد أصبح من المعلوم، أن إسرائيل تنتهج سياسة “خلْط الأوراق”، والاكتفاء بمقاربة “تقليص الصراع” التي تبنَّتها حكومة (بينيت – لابيد)، من خلال الاكتفاء بالحلول الاقتصادية، والبحث عن دوْر الوسيط أو ناقلٍ للرسائل بين أطراف الصراع «الروسي – الغربي»، وهو ما يمكن القول: بأن «نتنياهو» اتبعه جزئيًّا غير أنه اتجه إلى التصعيد تجاه الفلسطينيين منذ عودته للسلطة على رأس حكومة متطرفة، كما أن تصريحاته عكست مزيدًا من التقارُب لأوكرانيا، لكنه ترك باب الوساطة مفتوحًا.

في المقابل، كرَّرت الحكومة الفلسطينية تحذيرها من تأثير انشغال المجتمع الدولي بالأزمة «الروسية – الأوكرانية» على تدهور الوضع الأمني في فلسطين.

تراجُع الاهتمام الأمريكي بالقضية الفلسطينية:

زاد اندلاع الحرب في أوكرانيا من ابتعاد ناظريْ الدول الغربية عن قضية السلام في الشرق الأوسط، فقد وجدت الدول الغربية نفسها متورطةً في كل تفاصيل الحرب، سواء بتقديم دعْمٍ «ماديٍّ، وعسكريٍّ» غير محدود؛ ما أثقل العبْء على ميزانيات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وخلق مشكلات اقتصادية لديهم.

ويبدو أن الحرب مستمرة لزمنٍ أكثر مما توقَّعت الدول الغربية، التي تراهن على انهيار الاقتصاد الروسي أو تقهقر القوات المسلحة المشاركة في الحرب ضد أوكرانيا، وتواجه أوروبا عملية استنزاف، وباتت تكافح لتوفير الذخائر التي تحتاجها أوكرانيا، بعدم معرفة أن استهلاك أوكرانيا اليومي منها أكبر من القدرة الإنتاجية للمصانع الغربية، بالتالي، تراجعت القضايا والملفات الأُخرى التي كانت تستحوذ على اهتمام الدول الغربية.

ويظهر ذلك جليًّا في آخر زيارة لمسؤولٍ أمريكيٍ للمنطقة، فقد أنهى “بلينكن” زيارته في يناير الماضي، دون أيِّ تقدُّم يُذْكر؛ للحدِّ من التوتُّرات بين «الإسرائيليين، والفلسطينيين»؛ حيث لم يعرض أي مبادرة أمريكية جديدة، وألقى بمسؤولية إحلال السلام على عاتق طرفيْ الصراع، بقوله خلال مؤتمر صحفي في القدس: “الأمر متروك لهم بشكلٍ أساسيٍّ، ويتعين عليهم العمل معًا؛ لإيجاد مسارٍ؛ للمُضي قُدُمًا لنزْع فتيل دورة العنف الحالية”.

وهو ما فُهم منه، أنها كانت محاولة لاحتواء القضية، كجزءٍ من جهود إدارة «بايدن»؛ لضمان أن الأزمة «الإسرائيلية – الفلسطينية» لا تُلقي بظلالها على أهداف الولايات المتحدة الأوسع، خاصةً فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية.

زيادة الاهتمام الروسي بالقضية الفلسطينية:

حرصت الدول الغربية على عدم الانخراط في حرب مباشرة مع روسيا، وهو ما يدفعها ليس فقط إلى محاولة تكبيدها أكبر خسائر ممكنة عبْر دعْم أوكرانيا، وإنما أيضًا إلى توسيع نطاق المواجهة غير المباشرة معها، من خلال فرْض عقوبات على إيران – التي قدَّمت لروسيا مساعدات عسكرية – وهو ما تدعمه إسرائيل، وترى “تل أبيب”، أن الدعم الإيراني لروسيا يمكن أن ينتج تأثيريْن:

  • إقدام روسيا على تغيير سياستها الحالية عبْر التغاضي عن محاولات إيران تعزيز حضورها العسكري في سوريا بالقرب من الحدود الإسرائيلية، بعد أن كانت روسيا حريصةً على وضْع حدودٍ لتحرُّكات إيران هناك.
  • توجه روسيا – بعد الدعم العسكري الإيراني لها – في أوكرانيا؛ لرفع مستوى التعاون العسكري بينهما.

في المقابل، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو: “إنه يدرس إمداد أوكرانيا بمنظومة «القبة الحديدية»”؛ لذا هدّدت روسيا إسرائيل بردٍّ عسكريٍّ انتقاميٍّ، في حال تسليمها أسلحةً إلى أوكرانيا، لكن يرى مراقبون، أنّ تلميحات «نتنياهو» بدراسة الأمر، فيما يتعلق بدعْم أوكرانيا بالمساعدات العسكرية إعلامية أكثر من كوْنها جِدِّيَّة، خاصةً وأنّ «نتنياهو» لا يريد إغضاب «موسكو»، وأن التلميح نابعٌ من اعتراض إسرائيل على التعاون العسكري المتبادل بين «إيران، ورسيا».

وعلى ذلك، تبنَّت روسيا مواقف تحْمِلُ في طيَّاتِها “مكايدة سياسية” ضد إسرائيل، منذ بدْء إرسال إسرائيل مساعدات إنسانية لأوكرانيا، ونقْل المعدات الدفاعية المنقذة للحياة، ومنها «خوذات، وسترات واقية»، واتضحت تلك المواقف في استقبال وفودٍ من «حركة حماس» في مايو 2022، ولقاء «بوتين، ومحمود عباس» خلال اجتماعهما على هامش قمة مؤتمر “التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا” (CICA)، في «أستانا» خلال أكتوبر الماضي، وحتى مواقف روسيا في مجلس الأمن، التي عبَّرت عن انزعاج روسيا من استخدام إسرائيل العنف ضد الفلسطينيين.

التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين:

منذ مطلع عام 2022، شهد الفلسطينيون تصعيدات أمنية وسياسية من الجانب الإسرائيلي ذات منعطفات خطرة، أدَّت إلى مقتل 168 فلسطينيًّا، بينهم 33 طفلًا، في نحو 2000 عملية «أمنية، وعسكرية»، شنَّها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، تركَّزت معظمها خلال الأشهر الأخيرة، في مدينتيْ «جنين، ونابلس»، بخاصةٍ مع ولادة ظواهر مسلحة جديدة، مثل “عرين الأسود” و”كتيبة جنين”، إلى جانب تنفيذ فلسطينيين مئات العمليات ضد أهداف إسرائيلية، وُصِفَ بعضها بـ«النوعية، والجريئة».

ووفقًا لمصادر إعلامية إسرائيلية، فإن 30 إسرائيليًّا على الأقل بين جنود ومستوطنين، قُتِلُوا منذ بداية العام الحالي، وأُصيب مئات آخرون في هجمات فلسطينية مختلفة، وهو العدد الأعلى من القتلى الإسرائيليين منذ عام 2016، وبذلك يكون 2022 الأكثر “دموية” على الفلسطينيين والإسرائيليين.

لم يتوقف الأمر عند المواجهة العسكرية ضد الفلسطينيين، والتي مازالت مستمرة خلال 2023، بل إن إسرائيل وضعت خطة كاملة للاستفادة من كوْن الأزمة الأوكرانية على رأْس أجندة عمل واهتمام المجتمع الدولي؛ حيث اعتمدت تسريع وتيرة الاستيطان، وتغيير الواقع على الأرض؛ لتقويض حلِّ الدولتيْن بشكلٍ حاسمٍ، واستفادت فوْر بدْء المواجهات العسكرية «الروسية – الأوكرانية»، وأعلنت أنها مستعدة لاستقبال آلاف المهاجرين “اليهود” من أوكرانيا؛ لذا أعلن قسم الاستيطان الإسرائيلي في المنظمة الصهيونية العالمية، عن بدْء تحرُّكٍ لإنشاء 1000 وحدة سكنية استيطانية جديدة؛ لإيواء اليهود الفارين من أوكرانيا.

في سياقٍ موازٍ، اعتمدت إسرائيل على الضغط الاقتصادي على الفلسطينيين؛ حيث جاء قرار وزير المالية الإسرائيلي، بأن إسرائيل التي تجمع الضرائب نيابةً عن السلطة الفلسطينية، ستأخذ 32 مليون دولار من أموال السلطة الفلسطينية؛ لتعويض ضحايا الهجمات الفلسطينية.

وكان قد قام الاتحاد الأوروبي، في مارس 2022، بـ”تأجيل” تسليم مساعدات للسلطة الفلسطينية (بقيمة 235 مليون دولار)؛ بسبب ما اعتبرته المجر “تدريس معاداة السامية في المناهج التربوية الفلسطينية”.

ليس ذلك فقط، بل عمدت حكومة «بينيت» ثم حكومة «نتنياهو» لطرح وساطتها في الصراع بين «روسيا، وأوكرانيا»؛ لغرس فكرة “المساهمة الإسرائيلية في السلام العالمي”، وتحسين صورة إسرائيل الدبلوماسية، باعتبار أن نجاح ترتيب المفاوضات بين «أوكرانيا، وروسيا» سيجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي “شخصية دولية”، ويُحسِّن الصورة السلبية لإسرائيل، وحتى يُغيِّر نظرة الغرب الفورية للصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي».

كذلك استثمرت إسرائيل الغضب الغربي من إيران؛ نتيجة مماطلة الأخيرة في مفاوضات الملف الإيراني، ودعْم روسيا في حربها مع أوكرانيا، ودفعت الملف الإيراني؛ ليكون على رأْس الاهتمامات التي تجمع المسؤولين الغربيين مع الإسرائليين؛ بهدف تلافِي الضغوط الغربية؛ نتيجة التصعيد الذي تشهده العلاقات «الفلسطينية – الإسرائيلية»، وظهر ذلك خلال زيارة “بلينكن” الأخيرة للمنطقة؛ حيث حرص وزير الخارجية الإسرائيلي، على جعْل الملف النووي الإيراني الأبرز أمام وسائل الإعلام؛ ما أعاد «بلينكن» تناوله مع «نتنياهو»، واتفقا على أنه لا ينبغي السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي.

في ضوْء توفُّر تلك البيئة التي تشهد انحسار الاهتمام بقضية السلام في الشرق الأوسط، وصعود حكومة إسرائيلية “هي الأشدُّ تطرُّفًا في تاريخ إسرائيل”، فإننا بصدد الانتقال إلي سياسات «نتنياهو» تجاه الفلسطينيين.

سياسات «نتنياهو» المتشددة:

لايزال عشرات الآلاف من الإسرائيليين يتظاهرون بعد أن اتخذ «نواب البرلمان» خطوات تشريعية أوَّليّة، نحو سنِّ تغييرات قضائية اقترحتها الحكومة، وأثارت انتقادات واسعة النطاق في الداخل والخارج؛ حيث تزْعُم التيارات اليمينية، أن المحكمة العليا تميل إلى اليسار والنخبوية، وتتدخل في الشؤون السياسية، وكذلك تُقدِّم حقوق الأقليات على المصالح الوطنية في كثيرٍ من الأحيان، كما تهدف المقترحات لإقامة المزيد من المستوطنات على أراضٍ يسعى الفلسطينيون لإقامة دولتهم بها.

الخطط كشفت عن انقساماتٍ عميقةٍ داخل المجتمع الإسرائيلي؛ ما وضع المؤسسة الاقتصادية والقطاعات الأكثر ليبراليةً بالبلاد، في مواجهة أنصار «نتنياهو» وحلفائه في الائتلاف من التيارات اليمينية الدينية والقومية.

وذلك يقود إلى انعكاسات على الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي»؛ حيث ستؤثر التغيُّرات الدستورية في العلاقة مع الفلسطينيين، من حيث إنها سوف تزيل عن الحكومة كل رقابة أو مساءلة قانونية تتعلق بالممارسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، بحيث تستطيع الحكومة اتخاذ قرارات متعلقة بالضفة الغربية، تتضمن انتهاكات لحقوق الفلسطينيين، دون أن تكون هناك إمكانية للجهاز القضائي أو المستشارين القضائيين لمنع هذه الإجراءات.

لذا ستتمكن الحكومة من مصادرة أراضٍ خاصة للفلسطينيين؛ بهدف الاستيطان، أو شرعنة بناء استيطاني على أراضٍ خاصة، وذلك عبْر قانون “التسوية” الذي حاول اليمين قبل سنوات تشريعه، علاوةً على ذلك، ستُمكن التغييرات الدستورية من عدم محاسبة الجنود الإسرائيليين على انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، وتشريع قوانين تُعطي الحماية للجنود الإسرائيليين، بصورةٍ غير دستوريةٍ.

ومن الضروري، ملاحظة أن المتظاهرين يفتقرون إلى وجود قيادة، كما لم يقرروا ما إذا كان هدفهم هو وقْف التغييرات القضائية، أو إسقاط حكومة «نتنياهو» بالكامل، في المقابل، تشهد الحكومة خلافات وصراعات داخلية، تُشكِّل الخطر الأكبر على استمرار ثباتها وائتلافها، فوزير العدل “ياريف ليفين” هدَّد بالاستقالة وحل الائتلاف (في حال وجود تنازلات “كبيرة” في خطة الإصلاح القضائي أمام معارضي الخطة).

وبذلك نكون أمام سيناريوهات:

1) نجاح «نتنياهو» في المُضي قُدُمًا بإصلاحات القضاء، وفي الواقع، لن تتسرع الإدارة الأمريكية في تصعيد الخلافات مع «نتنياهو» قبل أن تتضح صورة التغييرات الدستورية، التي ستنفذها الحكومة، وتداعياتها السياسية الداخلية على النظام الديمقراطي وعلى الضفة الغربية، بل ستحاول التعاون مع «نتنياهو»، ودفعه إلى منْع إجراء تغييرات جوهرية في المبنى الدستوري الإسرائيلي، وفي المقابل، فإن المعارضة ترى في المشروع انهيارًا للنظام الديمقراطي؛ لذا من المرجح، أن تزداد حالة الاحتقان «السياسي، والاجتماعي»، وكذلك تصاعُد التوترات مع الفلسطينيين.

2) الحكومة رغْم تماسُكها عُرضةٌ للصراعات الداخلية؛ بفعل الضغط الدولي الذي قد يمنع الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ مشاريعها في الضفة الغربية وفي النظام السياسي، فكلما انصاع «نتنياهو» لهذا الضغط، وبخاصة فيما يتعلق بالاستيطان، ستتفاقم الأزمة السياسية في الحكومة؛ ما قد يقود في النهاية لحل الحكومة؛ ما يُمثِّلُ أملًا لدى الفلسطينيين.

3) استمرار الحكومة وبدْء محادثات مع المعارضة بعد دعوة الرئيس الإسرائيلي للهدوء.

ختامًا:

الحرب «الروسية – الأوكرانية» تتيح فُرَصًا لتغييرات« سياسية، واقتصادية، وجيوسياسية» دولية، قد تنعكس إيجابًا على القضية الفلسطينية، فتصاعُد النفوذ الرُّوسي في إطار إعادة التوازُن للنظام الدولي، يُمثِّلُ عاملًا قويًّا لمصلحة القضية الفلسطينية، وفرصة يمكن استغلالها، لكن في المقابل، حَمَلَت الحرب معها تحديات للفلسطينيين، تمثَّلت في تراجُع اهتمام المجتمع الدولي بقضيتهم، ومنحت فُرْصةً لإسرائيل للتحرُّك بشكلٍ أكثر حرية في التعامل مع الفلسطينيين؛ انطلاقًا من سياسات أكثر عدوانية.

من ناحيةٍ أُخرى، برزت الإصلاحات القضائية في إسرائيل، التي قد تحمل في طيَّاتِها تغيُّرات مفاجئة على الساحة الإسرائيلية، إمَّا أن تؤدي لتفكُّك الائتلاف الحكومي؛ ما يحمل معه فُرْصةً لإعادة الهدوء والتوازُن في العلاقات «الفلسطينية – الإسرائيلية»، أو نجاح الحكومة الإسرائيلية في إقرار الإصلاحات؛ ما يُمهِّد لاشتعال التوترات مجددًا.

 

كلمات مفتاحية