معاهدة الجوائح العالمية.. هل ترى النور قريبًا؟

إعداد: مصطفى مقلد

مقدمة:

يشهد كوكبنا حاليًا مجموعة من “الأزمات الكونية” تهدد استقراره وانتظام أنشطته الاقتصادية والاجتماعية، وأبرز تلك الأزمات هى “التغير المناخى” و”الجوائح أو الأوبئة”، وهو ما استدعى توجهات جدية لتعظيم التعاون الدولى لمواجهتها، لكن ذلك يواجه العديد من التحديات والعقبات كالتمويل وتوفير بيئة قانونية مرنة ومتطورة قادرة على احتواء تلك المستجدات الخطيرة، وبينما تمضى الأمم المتحدة من خلال وكالاتها وأجهزتها فى تنظيم اتفاقيات دولية تحقق أهدافًا طموحة، إلا أنها تصطدم برغبات الدول ومصالحها الوطنية.

فمؤتمر الدول الأطراف فى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب 28″، قام بتفعيل “صندوق الخسائر والأضرار” فى اليوم الأول من انعقاده، علمًا بأن الصندوق أنشئ فى “كوب 27″، ويسعى إلى مساعدة البلدان الضعيفة على التعامل مع الآثار الشديدة لتغير المناخ، مع إطلاق صندوق “ألتيرا” للتمويل المناخى من قبل الإمارات برأس مال قدره 30 مليار دولار، بالإضافة إلى حشد المؤتمر أكثر من 85 مليار دولار كتمويلات مالية تجاه العمل المناخى، كما تم التوصل إلى اتفاق يدعو إلى الانتقال من استخدام الوقود الأحفورى فى أنظمة الطاقة، بطريقة عادلة ومنظمة ومنصفة، لتحقيق صافى انبعاثات صفرى بحلول عام 2050، والدعوة لتبنى هدف عالمى لوقف إزالة الغابات بحلول عام 2030.

وفى مسار آخر، هو مسار الوقاية من الجوائح العالمية والاستعداد لمواجهتها مستقبلًا، أعلنت مجموعة من قادة العالم فى مارس 2021، عن الحاجة لمعاهدة جديدة لتطوير القدرة على الاستجابة ومواجهة الأوبئة، وقد تم رفع هذه المبادرة إلى منظمة الصحة العالمية، فلم تكن أى دولة فى العالم تقريبًا مستعدة بشكل كافٍ، لمواجهة جائحة (كوفيد-19)، وتريد الدول الأعضاء فى منظمة الصحة العالمية البالغ عددها 194 دولة، أن تكون مستعدة بشكل أفضل لمواجهة الجوائح فى المستقبل.

بداية العمل:

يجرى العمل على إبرام اتفاق منذ نهاية عام 2021، وقد أسهم الاتحاد الأوروبى بشكل رئيس فى إطلاق هذه المبادرة، التى دعمتها بعض دول الاتحاد الإفريقى، ودول فى آسيا وأمريكا الجنوبية، غير أن الولايات المتحدة والصين لم يكونا ضمن المجموعة الداعية إلى سَن هذه المعاهدة، وسيتم التوصل إلى هذا الاتفاق بتوافق الآراء، كما هو الحال عادة فى منظمة الصحة العالمية، ومن المقرر إجراء المزيد من المشاورات فى منتصف شهر فبراير، وأن تعتمد جمعية الصحة العالمية “الهيئة الإدارية لمنظمة الصحة العالمية”، هذا الاتفاق فى شهر مايو المقبل.

 لكن يتوقع بعض المراقبين أن تستغرق المشاورات وقتًا أطول، للتوصل إلى اتفاق ملزم قانونًا، حيث تُظهِر المناقشات بين بلدان الجنوب العالمى، والشمال العالمى، أنه الطريق ما زال طويلًا قبل التوصل إلى اتفاق، حيث تأمل البلدان النامية فى الحصول على المزيد من الدعم، وتصر البلدان الصناعية، على التمسك بقانون براءات الاختراع الحالى.

وتهدف تلك المعاهدة لعدم تكرار حالة التخبط التى شهدها العالم مع ظهور جائحة كورونا، فالدول التى تُجْرى أبحاث اللقاحات، وتتولى تصنيعها (مثل بعض بلدان الاتحاد الأوروبى، والولايات المتحدة) تستأثر بالنصيب الأكبر من مخزون اللقاحات، أو تفرض قيودًا على تصديرها إلى غيرها من البلدان، وحاليًا تسعى دول غنية عدَّة إلى حماية الملكية الفكرية للتقنيات المهمة ذات الصلة بإنتاج اللقاحات، ووقت الأزمة تنافسَتْ الدول على أدوات الحماية الشخصية، وأدوات الكشف عن فيروس كورونا، وتفعيل مبدأ “الصحة الواحدة”، الذى يأخذ فى الاعتبار صحة الإنسان والحيوان والبيئة فى نفس الوقت، بهدف منع انتقال مسببات الأمراض من الحيوانات إلى البشر، لذا تشمل مسودة المعاهدة والمفاوضات حولها قضايا مثل:

  1. تعريف ووسائل وإجراءات إعلان الجائحة، وما يعنيه ذلك عمليًا بالنسبة للدول.
  2. كيفية عمل المعاهدة جنبًا إلى جنب مع اللوائح الصحية الدولية.
  3. المبادئ الدولية الرئيسية التى ستواجه المعاهدة، مثل حقوق الإنسان والسيادة والإنصاف والتضامن والشفافية والمساءلة.
  4. كيفية تحقيق العدالة فى سلسلة التوريد العالمية للمنتجات المتعلقة بالوباء، والوصول إلى التقنيات ذات الصلة.
  5. تعزيز مرونة واستجابة النظم الصحية.
  6. كيفية التنسيق والتعاون بين الدول ومنظمة الصحة العالمية فى مجال التأهب والاستجابة للأوبئة.
  7. كيفية تمويل مبادرات التأهب والاستجابة للأوبئة.
  8. فرص إنشاء هيئة إدارة جديدة للمعاهدة أو مؤتمر الأطراف.
  9. المسائل القانونية العامة الأخرى المتعلقة بالمعاهدة، مثل التعديلات والانسحاب وتسوية المنازعات.

مواقف الدول من مسودة المعاهدة:

ما زالت المواقف الوطنية متباينة على نطاق واسع، حيث ترغب الدول النامية فى ضمان الوصول العادل إلى المنتجات الطبية، مثل اللقاحات، والأدوية والاختبارات التشخيصية، وأن يشكل ذلك، محور التركيز الرئيسى للمعاهدة، وتنتقد البلدان الغنية بسبب تخزينها للقاحات والعلاجات النادرة، لاستخدامها الخاص، وتشير البلدان النامية إلى أن المعاهدة التى تم التفاوض عليها حتى الآن، تتطلب منها القيام بالكثير فى مجال الوقاية، بينما صيغت التدابير الرامية إلى الوصول المنصف إلى وسائل التشخيص والمنتجات الطبية، بشكل غامض.

وتُعد مسألة الموارد المالية والتكنولوجية واحدة من النقاط “الجدلية”، وفى حين تمتلك الدول الصناعية قدر أكبر من المال والتكنولوجيا اللازمة لإنتاج اللقاحات لكن ملكيتها محمية بموجب حقوق براءات الاختراع، ما يجعلها غير متاحة أو مكلفة بالنسبة للدول النامية، لذا تدعو بعض الأطراف لتقديم الدول الصناعية المزيد من الالتزامات فيما يتعلق بنقل التكنولوجيا، والملكية الفكرية، حيث سيمكن ذلك الدول النامية من إنتاج اختبارات تشخيصية ولقاحات وأدوية، لكن الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبى، تنتقد الدعوات الرامية إلى التخفيف من حقوق براءات الاختراع.

وعبر الاتحاد الأوروبى أنه ملتزم بمعالجة الفجوات فى القدرات فى البلدان النامية وبمسألة التمويل، من خلال صندوق الوقاية من الجوائح التابع للبنك الدولى، دون إنشاء أى هيئات جديدة، وقد تم إنشاء الصندوق بعد جائحة “كوفيد”، كشراكة تعاونية بين البلدان المانحة، والمؤسسات، ومنظمات المجتمع المدنى.

اللوائح الصحية الدولية:

لدى منظمة الصحة العالمية بالفعل قواعد ملزمة تعرف باسم “اللوائح الصحية الدولية”، والتى حددت فى عام 2005 التزامات البلدان التى من المحتمل أن تواجه فيها الصحة العامة خطرًا، ويشمل ذلك تقديم المشورة الفورية لمنظمة الصحة العالمية بشأن حالة الطوارئ الصحية والتدابير المتعلقة بالتجارة والسفر، وقد تم اعتماد هذه اللوائح بعد تفشى مرض “السارس” فى الفترة 2002-2003، وما زالت تعتبر مناسبة للأوبئة الإقليمية مثل “الإيبولا”، ولكنها غير كافية لمواجهة جائحة عالمى، وتدرس الأطراف المتفاوضة حاليًا إيجاد سبيل يوفر التكامل بين تلك اللوائح والمعاهدة الجديدة، فأحد الاقتراحات هو أن تنطبق القواعد الحالية على حالات التفشى المحلية، وتطبيق القواعد الجديدة إذا أعلنت منظمة الصحة العالمية عن جائحة عالمية.

ومع ذلك، تعرضت المعاهدة المقترحة لانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعى، معظمها من “النقاد اليمينيين” الذين حذروا من أنها قد تؤدى إلى تنازل الدول عن سلطتها لمنظمة الصحة العالمية، وردت الهيئة مؤكدة أن الحكومات تقود المفاوضات ولها الحرية فى رفض الاتفاق.

وتحرص البلدان النامية، على استثمار المفاوضات لتأمين وصول أفضل للقاحات، فى أعقاب مزاعم “الفصل العنصرى فى اللقاحات” التى أطلقها المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، وما زالت المسودة الأخيرة للمعاهدة تتضمن آلاف الأقواس، التى تشير إلى مجالات الخلاف أو اللغة التى لم يتم حسمها بعد، بما فى ذلك حول تعريف كلمة “جائحة”.

ختامًا:

يظل تمويل الدول النامية من أكبر القضايا الشائكة، حيث تحتاج تلك الحكومات التى تكافح لتعزيز أنظمتها الصحية العامة فى ظل الأعباء المالية التى تواجهها إلى المزيد من الأموال إذا أرادت الاستثمار فى الوقاية، وقد يشمل ذلك تدابير مثل تحسين مراقبة الأمراض الناشئة، والجهود المبذولة لمكافحة إزالة الغابات، فإزالة الغابات ترجع أسبابها إلى الطلب على المعادن والمواد الغذائية وغيرها من المواد الخام بين الدول الغنية، ويرى بعض المسؤولين أن المسؤولية المشتركة والعواقب المشتركة لابد من أن تعنى تقاسم النفقات، وهنا يظهر ترابط مهم بين الحفاظ على المناخ والوقاية من الجوائح، حيث وجدت تقارير لوكالات متخصصة أن معظم المخاطر المسببة لانتشار الجوائح تعود جزئيًا إلى إزالة الغابات.

كلمات مفتاحية