بعد الانقلاب على بوتين.. ما مستقبل فاجنر فى أفريقيا؟

إعداد/ دينا لملوم

فى السنوات الأخيرة الماضية باتت القارة الإفريقية مطمعًا للعديد من القوى الدولية، كان من بينها روسيا، التى سعت لتعزيز دورها فى القارة، حتى أصبحت إفريقيا مسرحًا لتصفية الخلافات بين قوى الشرق حيث موسكو والصين وغيرهما، وقوى الغرب حيث الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ومؤخرًا عمدت موسكو إلى توظيف مجموعات فاجنر التى تنتشر فى أكثر من عشرين دولة لتنفيذ سياساتها فى القارة السمراء، ولكن يونيو الماضى شهد حدوث انقلاب زعيم فاجنر “يفجيني بريجوجين” على الرئيس الروسى، وهو ما شكل تهديدًا صارخًا لعرش بوتين، ولكن سرعان ما فشل هذا التمرد ومرت عاصفة فاجنر على الكرملين بأقل الخسائر، وتثار العديد من التساؤلات حول مستقبل هذه القوات لا سيما فى إفريقيا فى ظل الضبابية المتعلقة بمصير “فاجنر” وانعدام القدرة على التوصل لاستقراء واضح وصريح لما ستؤول إليه الأوضاع خلال الفترة المقبلة.

مهام فاجنر فى إفريقيا:

تعد جماعات “فاجنر” الذراع الطويلة لموسكو فى إفريقيا، حيث توظفها لتنفيذ مصالحها الوطنية فى القارة دون مشاركة الجيش الروسى أو تدخل الحكومة الروسية بشكل مباشر، وتضطلع فاجنر بمهام عديدة، حيث المشاركة فى عمليات القتال فى الخطوط الأمامية ودعم الشرطة وأجهزة الاستخبارات المدنية فى إفريقيا، فضلًا عن تأمين كبار الشخصيات السياسية ومساندة بعض الأنظمة الحاكمة فى الانتخابات وتقديم استشارات سياسية للحكومات الإفريقية، والأخطر من ذلك هو المحاولات الروسية لتوسيع قاعدة الانتشار لقوات فاجنر عبر خلق بؤر أمنية جديدة فى الدول الإفريقية تمكنها من إقامة المزيد من المشروعات الاستثمارية فى مختلف المجالات، وهو ما يوحى بأهمية المكاسب الاقتصادية التى تأتى فى المقام الأول وتدفع الجانب الروسى لتأكيد سياسته الخارجية فى إفريقيا، والواقع يشير إلى ذلك، فمجموعات فاجنر باتت تسيطر على الحقوق والامتيازات فى عدة مجالات، كالتعدين والنفط، فى حين تقديمها خدمات زهيدة للدول الإفريقية كحماية الأنظمة الحاكمة، وبالرغم من ذلك إلا أنها لم تتمكن من تحقيق الاستقرار فى المنطقة.

لماذا تتواجد فاجنر فى إفريقيا بشكل خاص؟

تتمركز قوات فاغنر فى مناطق عدة عبر العالم، حيث تنشط فى آسيا وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وأخيرًا إفريقيا، فقد أدت حالة عدم الاستقرار السياسى والأمنى فى العديد من الدول الإفريقية، ومن ثم زيادة بؤر التوتر التى أدت فى نهاية المطاف إلى تفاقم ظاهرة الإرهاب ومطاردة رؤوس التنظيمات المتطرفة، إلى جعل القارة مرتعًا لتواجد مثل هذه الشركات التى لجأت إليها بعض الدول، اعتقادًا منها أنها ستساندها فى تخطى الأزمات الأمنية التى تعصف بها مثلما فعلت مالى، ولكن ثمة تعقيدات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من قبل هذه الجماعات، على الصعيد الآخر نلاحظ أن فاجنر بدأت تتغلغل فى القارة على اعتبار أنها امتداد للنفوذ الروسى، حيث الانخراط فى أعمال استخراج المواد الخام بما فى ذلك الذهب والمنجنيز واليورانيوم وغيرهم من ثروات القارة، فمن جهة تقوم بتأمين مصالحها الشخصية والحصول على الموارد الطبيعية التى تتمتع بها إفريقيا، ومن جهة أخرى ترسيخ موطئ قدم لها فى منطقة بات الغرب يتكالب عليها، لا سيما الولايات المتحدة؛ لذا فقد عمدت موسكو إلى تأمين نصيبها من الكعكة الإفريقية من خلال نشر ميليشيا فاجنر عبر القارة.

خريطة تمركز فاجنر فى إفريقيا:

تنشط قوات فاجنر فى أكثر من عشرين دولة إفريقية، ويمكن إجمال أبرز الدول التى تتواجد فيها هذه المجموعات فى التالى:

١- إفريقيا الوسطى: تعد جمهورية إفريقيا الوسطى البوابة الرئيسية لروسيا للعبور إلى القارة الإفريقية باعتبارها حلقة الوصل بين الشمال والجنوب، كما أنها تعد أولى الدول الإفريقية التى رحبت بقوات فاجنر؛ لكى تساندها فى مجابهة التنظيمات المتطرفة، وتتمثل المهام المنوطة بفاجنر فى بانجى في قيامها بتدريب الحرس الرئاسى، وحماية مناجم الذهب والماس، وتحصل فى المقابل على نسبة من أرباحها، وقد أطاحت فاجنر بالسياسيين الموالين لفرنسا فى إفريقيا.

٢– ليبيا: فى سبتمبر ٢٠١٩، قامت فاجنر بإنزال ما يتراوح بين ٨٠٠-١٢٠٠ عنصر من مقاتليها؛ وذلك من أجل تغيير موازين القوى لصالح الجيش الوطنى الليبى، علاوة على توطيد النفوذ الروسى فى المنطقة وإدماجه فى عمليات التسوية لأى صراع قادم.

٣- موزمبيق: تتولى فاجنر مهام مكافحة التمرد فى البلاد، ويقوم ٢٠٠ عنصر بعمليات التصدى للإرهاب فى منطقة “كابو دلغادو” شمال البلاد، فضلًا عن تواجد قرابة ٢٧٠٠ عنصر على سفن حربية روسية على مقربة من سواحل موزمبيق.

٤- مالى: يتمركز قوات فاجنر فى مالى منذ عام ٢٠١٩؛ وذلك من أجل مكافحة التمرد والمشاركة فى القتال ضد تنظيم داعش، وقد قامت حكومة مالى بتوقيع اتفاق مع فاجنر؛ لنشر ١٠٠٠ من قواته؛ من أجل مجابهة الإرهاب.

٥- السودان: تتواجد فاجنر فى السودان منذ يناير ٢٠١٨، فى الوقت الذى أعطى فيه الرئيس السابق “عمر البشير” صلاحيات واسعة لهذه القوات فى السودان، حيث الحصول على امتيازات التعدين وبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر فى ميناء بورتسودان، ومنذ ذلك الوقت تتواجد فاجنر بالرغم من الإطاحة بالبشير، كما أنهم يلعبون دورًا فى الاشتباك المسلح القائم فى الوقت الحالى، والذى تدور رحاه منذ أبريل الماضى، بين قائد الجيش السودانى، وقائد قوات الدعم السريع وفى المقابل تستحوذ هذه الميليشيات على حصص من مناجم الذهب والألماس،[1]ولم يقتصر التواجد الفاجنرى على هذه الدول فحسب، بل تنتشر فى بلدان أخرى من ضمنها بوركينافاسو.

أهداف روسية:

فى ظل العداء الصارخ بين روسيا ومعسكر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا سعت القيادة الروسية إلى البحث عن نقطة ارتكاز خارجية تمكنها من تعزيز نفوذها وفى ذات الوقت تعظيم مصالحها الاقتصادية وهو ما جعلها تتجه نحو إفريقيا، حيث سعت إلى تدعيم علاقاتها مع الأنظمة الحاكمة الإفريقية وقامت بنشر شركات فاجنر فى مناطق عدة فى القارة؛ لكى تتمكن من تكوين قطب جديد يشمل نخب إفريقية وشركاء موالين لروسيا، يمكنها من إعادة إحياء أسطورة العالم الروسى حتى تتمكن من استعادة مكانتها الدولية مرة أخرى، وتعمل موسكو على مد سياسة اليد الطويلة من خلال فاجنر، تلك الميليشيات التى تعول عليها موسكو دون الزج بجيشها الوطنى حتى لا تتعرض للمساءلة سواء داخليًا أو خارجيًا، مع نفى روسى دائم لأى صلة تربطها بفاجنر، كما تعد روسيا من أكبر موردى الأسلحة فى  إفريقيا، حيث تستحوذ على ٢٦% من سوق المنطقة.[2]

تداعيات الانتشار الفاجنرى فى إفريقيا:

  • زيادة التنافس الدولى: يؤدى انتشار جماعات فاجنر فى إفريقيا إلى إثارة حالة من القلق لدى القوى الدولية، وهو ما يدفع إلى زيادة التكالب نحو القارة لتطويق النفوذ الروسى ومنع تمدده، وهو ما يعمل على زيادة حدة التناحرات والتوترات بين الأقطاب الدولية فى سبيل تعزيز النفوذ وحماية المصالح، ومن ثم جعل إفريقيا كساحة لتصفية الحسابات.
  • تقويض أسس الديمقراطية: يؤدى تدخل عناصر فاجنر فى الانتخابات الرئاسية لدعم القادة الأفارقة المفضلين لروسيا وتحقيق مصالح موسكو على حساب مصالح الشعوب الإفريقية إلى غياب أسس الديمقراطية، وبالتالى غياب النزاهة والشفافية وتشبث الحكام المستبدين بمقاليد الحكم.
  • القيام بانقلابات عسكرية: قد تقوم شركات فاجنر بانقلابات عسكرية على الأنظمة الحاكمة فى إفريقيا مثلما فعل ضابط القوات الخاصة البريطانية فى زيمبابوى، حيث تم القبض عليه عام ٢٠٠٤ بتهمة محاولة الإطاحة برئيس البلاد آنذاك.
  • تفاقم الصراع: يؤدى تدخل الأطراف المختلفة سواء داخليًا أو خارجيًا إلى زيادة حدة التوترات وتفاقم الصراعات وتعقدها، وهو ما يصعب معه إيجاد مخرج لها، وبالتالى تهديد أمن واستقرار الدول الإفريقية.

انقلاب اليوم الواحد:

قامت قوات فاجنر العسكرية ٢٤ يونيو الماضى بشن انقلاب مسلح على الرئيس الروسى، ففى بادئ الأمر قامت بالاستيلاء على مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية فى مدينة روستوف، ووضعت حواجز على مداخل المدينة ومخارجها تمهيدًا للزحف نحو موسكو؛ فى محاولة لإسقاط القيادة العسكرية فى وزارة الدفاع، ولكن سرعان ما فشل الانقلاب وتراجع زعيم ميليشيا فاجنر عن التقدم نحو موسكو؛ تجنبًا لإراقة الدماء على حد قوله، وذلك جاء بعد وساطة من قبل رئيس بيلاروسيا تم التوصل من خلالها إلى اتفاق نص على انتقال بريجوجين إلى بيلاروسيا وإنهاء تمرد فاجنر، الذى أعده مراقبون كانقلاب اليوم الواحد؛ نظرًا لانتهائه بشكل أسرع من المتوقع، وإجلاء فاجنر إلى الأراضى البيلاروسية.

مداهمة قصر بريجوجين:

يبدو أن بوتين بدأ يسلك مسار تصفية الحسابات مع زعيم فاجنر، حيث قامت أجهزة الأمن الروسى بمداهمة المكاتب والشركات والمنازل التابعة لبريجوجين وتم العثور على بعض المتعلقات منها مبالغ طائلة من المال وجوازات سفر تحمل العديد من الأسماء المستعارة له فى العديد من الدول، وكأنها محاولة للبحث عن أدلة تثبت تورطه فى عمليات القتل فى مناطق النزاعات التى  كانت تتواجد بها ميليشيا فاجنر، أيضًا وجهت ضاربة قاسية لفيجينى بريجوجين، حيث فقد أحد أهم أسلحته، فهو لم يعد قادرًا على النشر عبر قنواته الرسمية منذ أكثر من أسبوع، وذلك بعد أن كان يتربع على عرش إمبراطورية هائلة من الإعلام الناطق باللغة بالروسية، وهو ما يوحى باقتراب ساعة الحسم، سواء بمحاكمته أو قتله، مع عدم المساس بقوات فاجنر ذاتها، فربما أراد بوتين رد اعتبار موسكو بعد هذا الانقلاب وإبعاد بريجوجين للأبد عن البلاد، ولكن فى الوقت ذاته عدم القدرة على الاستغناء عن قوة مثل فاجنر التى توظفها فى مناطق عدة خاصة فى  إفريقيا، وعليه فقد تشهد الفترة المقبلة وجود زعيم جديد لفاجنر مع استمرار الوضع كما كان عليه بشرط إحكام قبضة الكرملين على ذلك الزعيم وأن يحظى بثقته ويقوم بتنفيذ رغباته.

سيناريوهات محتملة:

بالنظر إلى مستقبل قوات فاجنر على الخريطة الإفريقية بعد الانقلاب على بوتين، نلاحظ وجود عدة رؤى يتوقف كل منها على الظروف والمتغيرات التى ستحكم الساحة الروسية بعد هذا التمرد، وحدوث نوعًا من الخلل فى العلاقة بين بريجوجين وبوتين، ويمكن إجمال هذه المؤشرات فى التالى:

السيناريو الأول:

تخلٍ مدفوع بهزيمة: قد تؤدى أى هزيمة محتملة لفاجنر إلى تخليها عن أنشطتها الخارجية خاصة الإفريقية التى لا طالما أسست لها موطىء قدم فى  إفريقيا وباتت تلعب أدوارًا كبيرة فى مواطن صراع عدة، ولكن هذا السيناريو مستبعد نوعًا ما؛ بسبب المكاسب التى حققتها قوات فاجنر على مدار سنوات تواجدها فى القارة، أيضًا قد يؤدى التعتيم المشهدى والضبابية التى تحيط بشرعية هذه القوات إلى تعقيد الوضع وهو ما يجعل من الصعب على الدول الإفريقية طرد هذه المجموعات أو التعامل معها.

السيناريو الثانى:

هدوء نسبى: ربما أراد بوتين من وراء الدفع بفاجنر إلى بيلاروسيا فى الرغبة فى الحصول على مزيد من الوقت للتفكير فى وضعها بقارة إفريقيا، ذلك النفوذ الذى سعت إليه موسكو ولن تتخلى عن تواجدها فى مناطق تمدد النفوذ الأمريكى وغيره من القوى المناوئة لها، هو ما يدفع إلى الحديث عن احتمالية التضحية ببريجوجين مع عدم التخلى عن عناصر فاجنر؛ نظرًا لكونها الذراع الروسى الممتد فى إفريقيا، فى الوقت الذى لا ترغب فيه موسكو توريط جيشها النظامى فى عمليات مسمومة ملطخة بالدماء، وعليه فبوتين ربما يحتاج إلى بضع من الوقت لاتخاذ قرار صائب فى ظل هذه التحركات الأخيرة، وعليه فقد يكون الرد صادم وقاسى فى ظل العقيدة الروسية التى دائما ما تسعى للانتقاء من بين البدائل واختيار البديل الأصلح لموسكو.

السيناريو الثالث:

زيادة نفوذ فاجنر: قد يعمل الصدام الذى حدث بين قائد ميليشيا فاجنر والرئيس الروسى والذى أدى إلى أزمة ثقة بين الطرفين إلى دحر نفوذ فاجنر خارجيًا، وبالتالى البحث عن سبيل آخر يمكن المجموعة من استكمال مساراتها، وهو ما يدفعها إلى زيادة تواجدها فى إفريقيا، لا سيما إذا ما لم يقوى هذا الصراع موقفها داخل موسكو، ويعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا خاصة فى ظل تشابك المصالح التى تمكنت فاجنر من الحصول عليها خلال السنوات الأخيرة، فقد تحولت من مجرد مرتزقة يقاتلون لحماية الأنظمة الحاكمة إلى منظومة متكاملة من التحالفات والشركات والعلاقات التجارية.

ختامًا:

بات انقلاب اليوم الواحد الذى أعلنه زعيم فاجنر محل تساؤل حول مصير هذا الفعل، ويبدو أن رد الفعل الروسى من قبل بوتين والذى قضى بإرسال بريجوجين إلى بيلاروسيا كان بمثابة مسكن مؤقت، وفرصة لإعادة ترتيب الأوراق من جديد؛ تمهيدًا للتخلص منه مع إبقاء قوات فاجنر لاستخدامها فى مسارح الحروب الخارجية، وإعادة هيكلتها من جديد واستبدال قيادتها بأخرى تشكل مصدر ثقة لدى الكرملين، وهو ما بدا واضحًا من خلال اقتحام قوات الأمن الروسى لقصر بريجوجين وغلق مواقع التواصل الاجتماعى المملوكة له؛ فربما جاء ذلك كمقدمة لسلسلة من الانتقامات الموجهة له، والتى قد تنتهى بقتله أو محاكمته مع الحفاظ على قوات فاجنر، وخلاصة القول، إن الكرملين لن يتخلى عن حق موسكو وسيكون عقاب بريجوجين قاسى حتى لا يتكرر هذا التمرد ثانية.

[1] http://ncmes.org/ar/publications/middle-east-papers/504

 

[2] https://cutt.us/QjYXq

 

كلمات مفتاحية