نتائج الانتخابات التركية: لماذا فاز أردوغان وخسر كليتشدار أوغلو؟

إعداد: أحمد محمد فهمي

انتهى المشهد الانتخابى التركى بإعلان الهيئة العليا للانتخابات، النتائج النهائية لجولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية والتى عقدت فى 28 مايو الماضى بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان بعد حصوله على 52,18% من الأصوات، على منافسه كمال كليتشدار أوغلو بعد حصوله على 47,82% من الأصوات.

وعلى الرغم من حشد المعارضة لكافة أدواتها الانتخابية والدعائية لإزاحة أردوغان من المنصب وضمان وصول منافسه إلى سدة الحكم والتى تكللت جزئيًا بالنجاح فى الدخول لجولة إعادة، إلا أن أردوغان استطاع حسم الانتخابات لصالحه والقضاء على كل فرص المعارضة فى إثبات وجودها على الساحة السياسية التركية بعد خسارتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولم يبقَ أمامها سوى التجهيز للانتخابات البلدية المقرر عقدها العام القادم فى ظل إعلان أردوغان استعداداته لتلك الانتخابات ورغبته القوية فى استعادة المدن الكبرى (أنقرة وإسطنبول) من حزب الشعب الجمهورى المعارض.

وبعد نهاية المشهد الانتخابى كان لابد من معرفة خلفيات نتائجه النهائية، وهى الأسباب التى أدت إلى فوز أردوغان وخسارة كليتشدار أوغلو، وذلك تأسيسًا على الاستعدادات والإستراتيجيات التى قامت بها المعارضة والتى بالنهاية لم تجدى نفعًا فى ربح الاستحقاقات الانتخابية وإقناع الناخب التركى ببرامجها ومشروعاتها.

الحرب على الإرهاب وسياسة المعارضة:

فى أعقاب انهيار عملية السلام فى عام 2013 بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستانى (P K K) والذى تصنفه أنقرة والعديد من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية كحركة إرهابية، وذلك بعد صراع مرير بين الطرفين بدأ عام 1984 وخلف الآلاف القتلى، أعلن الجيش التركى استمراره فى شن عملياته العسكرية ضد وحدات حزب العمال الكردستانى وكافة الأحزاب والفصائل المسلحة المنضوية تحت رايته والمتحالفة معه، سواء تلك التى تقاتل فى تركيا أو العراق أو سوريا.

وحتى يومنا هذا لا تزال المعارك تدور من فترة لأخرى بين الطرفين فى ظل عزم الرئيس أردوغان وتشديده على تصفية وجود المسلحين الأكراد وضمان سلامة وأمان الشعب التركى، خاصة فى المناطق الحدودية المحاذية للمناطق التى تحتضن المعسكرات التدريبية للعناصر المسلحة.

فى مقابل ذلك عقد تحالف الأمة المعارض ومرشحه للانتخابات الرئاسية كليتشدار أوغلو صفقة انتخابية مع حزب الشعوب الديمقراطى المتزعم لتحالف العمل والحرية الكردى، بعدم قيام التحالف الكردى بتقديم مرشح لهم للانتخابات الرئاسية على غرار ما حدث فى انتخابات 2018 بالدفع برئيس حزب الشعوب الديمقراطى “صلاح الدين دميرطاش” والذى حصل على 8,32% من الأصوات، مقابل توجيه الكتلة التصويتية للأكراد تجاه دعم ترشيح كليتشدار أوغلو للانتخابات مقابل تعهد الأخير بحل المسألة الكردية عبر البرلمان، وإلغاء تطبيق نظام “الوصاية” التى فرضت على البلديات المتهمة بدعم منظمة العمال الكردستانى، كما ذكرت وسائل إعلام تركية بأن الحزب الكردى لديه رغبة بوزارتى “الثقافة” و”البيئة”.[1]

ولتلك الصفقة الانتخابية ردود فعل سلبية على المسيرة الانتخابية لكليتشدار أوغلو فى ظل اتهامات الحكومة التركية لحزب الشعوب الديمقراطى بأن له صلة بحزب العمال الكردستانى المحظور والذى يجعله يواجه احتمالًا بحله وحظره، وهو ما استغله أردوغان فى دعايته الانتخابية بأن منافسه قد عقد اتفاقًا مع حزب داعم للإرهاب وأن فوزه يعنى تقويض الجهود الوطنية التى بدأت منذ عقود لمكافحة الإرهاب والقضاء على الوجود الكردى المسلح المهدد للأمن الداخلى، كما تسببت الصفقة كذلك فى حالة استياء وسط مناصرى حزب الشعب الجمهورى لأن هذا الاتفاق يخالف الأسس الأيدلوجية للحزب التى أسسها أتاتورك، كما خالف ذلك الاتفاق أيضًا تطلعات مناصرى التيار القومى داخل التحالف والذى يتزعمه حزب الجيد.

تفكك تحالف “كليتشدار أوغلو” مقابل تماسك تحالف “أردوغان”:

مرت المعارضة بكافة أشكالها وأطيافها بمحطات خلافية عديدة فيما بينهم، من أهم سماتها الخلاف حول توزيع المناصب والحقائب الوزارية حتى قبل مرحلة الانتخابات وخلالها، كما ضمت بين أركانها أيدولوجيات مختلفة لم تعطى جوابًا مقنعًا للناخب التركى حول مستقبل التعاون فيما بينهم فى حالة الفوز فى الاستحقاقات الانتخابية.

وعلى الرغم من اتفاق تحالف الأمة البارز على نقاط جوهرية فى تحالفهم الانتخابى وهو العودة إلى النظام البرلمانى وتقليص صلاحيات رئيس الدولة، إلا أن أبرز الخلافات التى بدأت قبل مرحلة الانتخابات هي عدم الاتفاق على مرشح للتحالف للانتخابات الرئاسية، وصارت هناك تكهنات حول العديد من الأشخاص المرشحة للانتخابات، وبعد قرار التحالف بالدفع بكمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهورى أثار ذلك حفيظة رئيس حزب الخير ميرال أكشنار والتى انسحبت من التحالف، ولم تعد إليه إلا بعد التوافق حول دعم ترشيح كليتشدار أوغلو مقابل تعهده بتعيين كلًا من منصور يافاش رئيس بلدية أنقرة، وأكرم أمام أوغلو رئيس بلدة إسطنبول كنواب له فى حال فوزه بالانتخابات.

كما يعد ملف اللاجئين السوريين من أبرز الملفات الخلافية بين التحالف خاصة بعد تغير موقف كليتشدار أوغلو عن موقفه فى الملف فى برنامجه الانتخابى، وأصدر قبل بدء الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية تصريحات عنصرية أدت إلى استقالة 11 عضوًا من حزب المستقبل الذى يتزعمه أحمد داود أوغلو، والعضو فى التحالف احتجاجًا على الخطاب المعادى للاجئين وذلك بعد ما أسموه “تناقضات بين البرنامج الحزبى والممارسات الحزبية”، كما أن الخلافات طالت حزب الشعب ذاته بعد أن انتقد الحزب سلوكيات أعضائه تجاه تعاملهم مع متضررى الزلزال الذين أعطوا أصواتهم لأردوغان فى الجولة الأولى.

وذلك على عكس التحالف الحاكم الذى حسم ترشيح أردوغان للرئاسة وعلى الاتفاق بشكل سريع وحازم على البرنامج الانتخابى للتحالف، كذلك لم يقم أردوغان بتغيير أى محور من محاور برنامجه الانتخابى حتى بعد مشاوراته مع المرشح الخاسر سنان أوغان، والذى شهد تأكيد أردوغان عزمه استكمال محاربة الإرهاب، كما أعلن أن ملف اللاجئين السوريين يتم إنجازه فى إطار خطه الحكومة التركية لترحيل اللاجئين إلى مدن الشمال السورى بعد بناء المنازل لهم، كما أن هذا الملف يعد أساسيًا فى المفاوضات التى تدور بين دمشق وأنقرة فى ظل رغبة الأخيرة بعودة آمنة للاجئين إلى باقى المدن السورية التى تقع تحت سيطرة النظام السورى.

الشخصية التركية ومسارات السياسة الخارجية:

بعد تأسيس الجمهورية التركية اتبعت تركيا سياسة خارجية تابعة لسياسات الولايات المتحدة وأوروبا تجاه العديد من القضايا، وخاصة تجاه الاتحاد السوفيتى “سابقًا” بعد مشاركتها فى نصب صواريخ “جوبيتر IRBM” موجهة ضد الأراضى السوفيتية عام 1961، كما ساندت القرارات الغربية تجاه ملفات الشرق الأوسط وخاصة تجاه تأييد السياسات الإسرائيلية ضد الأراضى العربية المحتلة.

وبعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، بدأ إعادة هيكلة السياسة الخارجية التركية بشكل تدريجى تجاه الخروج من مسارات التبعية، خاصة بعد فشل المباحثات التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، فصارت السياسات الخارجية تضع فى اعتباراتها تحقيق المصالح الذاتية لتركيا، وأصحبت تسعى فى ظل سياستها الإستراتيجية “العثمانية الجديدة” انطلاقًا من الرؤية التى أسسها رئيس الوزراء التركى السابق والمعارض لاحقًا أحمد داود أوغلو “العمق الإستراتيجى” إلى الهيمنة الإقليمية والنهوض الدولى وهو ما أثر كثيرًا على الشخصية التركية التى ترى أنه انطلاقًا من ماضيها التاريخى وموقعها الجيواستراتيجى فانه فُرض عليها واجب الارتقاء للقيام بدور أكبر ورفض سياسة الانكفاء والتبعية.

بدأت تركيا تتخلى تدريجيًا عن تبعيتها للسياسات الغربية، وبدأ ذلك فى الأول من مارس عام 2004 برفض البرلمان التركى مشروع قرار يسمح بنشر قوات أمريكية فى تركيا وإرسال قوات تركية إلى الخارج وتحديدًا فى شمال العراق، وكان ذلك تحسبًا لاجتياح أمريكى للعراق، وصولًا إلى رفض تركيا اتباع سياسات حلف “ناتو” بالمشاركة فى العقوبات المفروضة على روسيا فى أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بل وأصبحت تلعب دورًا محوريًا فى الأزمة منفردة دون التقيد بالسياسات التى تضعها الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

فى المقابل، فإن كليتشدار أوغلو أعلن بشكل صريح وقاطع فى برنامجه الانتخابى إعادة هيكلة السياسة الخارجية التركية تجاه التوافق والتحالف مع السياسات الغربية، وخاصة تجاه ملف الأزمة (الروسية – الأوكرانية)، كذلك فإنه سيتبع مسار سياسات المؤسس أتاتورك تجاه مشاكل الشرق الأوسط وهو عدم الانخراط بها وتجاهل أزمات العالم العربى.

وتلك الوعود الانتخابية أثارت القلق تجاه سلبية عودة تركيا إلى الانكفاء بعيدًا تجاه عما يدور فى محيطها الإستراتيجى، وخاصة تجاه تزايد نشاط الجماعات المناوئة لتركيا فى كلٍ من العراق وسوريا خاصة وأنه فى حالة تطبيق سياسات أوغلو قد يدعم الجهود الكردية فى تكوين دولة لهم أمام الحدود التركية، وهو ما سيجشع أكراد تركيا على القيام بالأمر مثله، وذلك بعد المكاسب التى حققتها تركيا فى تعظيم وجودها فى الخارج سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، حتى استطاعت تركيا والتى كانت تعتمد على تسليحها بشكل كامل من الدول الغربية، والتى فرضت حظرًا على تسليح الجيش التركى فى أعقاب غزوها للجزيرة القبرصية لتضطر إلى استيراد احتياجاتها التسليحية من إسرائيل، إلى قدرتها فى تصنيع السلاح محليًا وبل قيامها ببيعه حتى لدول الاتحاد الأوروبى.

مفهوم “إعادة البناء” الكليتشداري:

فشلت سابقًا سياستى الرئيس السوفيتى الراحل ميخائيل جورباتشوف، “الجلاسنوست” والتى تعنى المصارحة، و”البيريسترويكا” والتى تعنى إعادة البناء، والتى أدت إلى تذمر عدد من قادة الدولة العميقة فى الاتحاد السوفيتى فقاموا بتدبير انقلابًا عسكريًا أدى لاحقًا ليس إلى انهيار الاتحاد السوفيتى فحسب، بل إلى إعادة المشهد السياسى فى العالم بأسره وإعلان سقوط الشيوعية وانتصار الليبرالية.

وبخصوص “إعادة البناء” كان ينوى كليتشدار أوغلو تطبيقها على الطريقة التركية، فأوغلو والذى يعد معارضًا بشدة لتوجهات وسياسات حزب العدالة والتنمية والتى تم تكرسيها منذ عام 2002، كان ينوى بسياسات سطحية إعادة هيكلة تركيا بشكل جذرى وقاطع نحو “الكمالية” على غرار ما فعله المؤسس أتاتورك بالحقبة العثمانية، وهو ما قد ينتج عنه خلق اضطرابات خاصة إذا لم يراعِ الطبيعة المحافظة الحالية للأتراك والتى تسعى للحفاظ على مكتسباتها التى حققتها فى عهد حكومة العدالة والتنمية.

وفى هذا الصدد لابد من ذكر تجربة العدالة والتنمية فى كيفية استمرار وجوده فى السلطة على الرغم من وجود عدة كيانات تعارضت مصالحها مع سياسات الحزب، أبرزها الحرس القديم للجيش التركى الذى اعتبر نفسه حارسًا أمينًا على المبادئ الكمالية، وكذلك الموالين لجماعة “فتح الله جولن” والذين استطاعوا خلال سنوات عديدة الانخراط فى أجهزة الشرطة والجيش والقضاء والجامعات وأجهزة الإعلام وغيرها، واستطاع أردوغان مواجهة تلك المعوقات وأصبح لحزبه وللموالين له اليد الأولى فى إدارة شؤون البلاد.

تأثير الخطاب الطائفى لكليتشدار أوغلو:

للمرة الأولى فى التاريخ التركى تثار الطائفية فى الانتخابات التركية بشكل علنى وواضح، فى بلد تشكل الطائفة السنية الأغلبية فيه مقابل وجود ما بين 15 إلى 20% من مجموع سكان تركيا أقلية علوية، بعد التصريح الشهير لكليتشدار أوغلو عندما قال “حان الوقت أن نتحدث عن موضوع خاص للغاية، وشديد الحساسية.. أنا علوى.. أنا مسلم”، وهو التصريح الذى يعتبر إعلانًا ضمنيًا بأنه ليس مرشحًا للمعارضة فقط، بل هو مرشح للأقلية العلوية.

وكان العلويون الأتراك فى العديد من المحطات السياسية التركية موالين للسياسات القوى الحاكمة فى البلاد، فكانوا مؤيدين للمؤسس أتاتورك وكانوا يرفعون صوره إلى جانب صورة على بن أبى طالب وحاجى بكتاش فى جميع مناسباتهم الوطنية والدينية، كما أعلنوا تأييدهم لانقلاب الجيش التركى عام 1960 ضد حكومة عدنان مندريس والذى أعدم لاحقًا، كما أن العلويين منحازين تاريخيًا إلى حزب الشعب الجمهورى لضمان العلمانية التى حمت وضعهم بوصفهم أقلية، كما أن هناك تعاطفًا بين العلويين وبين حزب العمال الكردستانى كَون عبد الله أوجلان – المعتقل حاليًا فى تركيا – زعيم الحزب هو كردى علوى.[2]

وهذا الخطاب الجديد فى السياسة التركية، لم يعطِ لكليتشدار أوغلو ما تمناه ولم يحقق مساعيه فى الوصول إلى المنصب الرئاسى، بل على الرغم من ذلك فقد أثر ذلك فى تصويت كتلته التصويتية الذين رأوا تصريحه انقلابًا على العلمانية وعلى إرث أتاتورك الذى أخذ موقفًا متشددًا من القيم والخطابات الدينية، كما أنه يشجع على استقطاب طائفى يرفضه المجتمع التركى ومن المستحيل التعويل عليه.

وختامًا:

كانت هناك فرصة مواتية للمعارضة التركية فى تحقيق مكاسب من الاستحقاقات الانتخابية الماضية فى حالة إذا وضعت مطالب الشارع التركى على رأس أولوياتها، والتى من أبرزها إيجاد حلول واقعية للأزمات الاقتصادية بدلًا من الانقسام والتعويل على أزمات اللاجئين وبناء البرامج الانتخابية على خطابات قومية وعنصرية، والتى أظهرت فى نهاية الانتخابات رفض الناخب التركى لها وأنها اختارات الخطابات المعتدلة التى لم تكن تتعارض مع قومية ومصالح الدولة.

وصار من المتوقع أن يبتعد كليتشدار أوغلو عن المشهد السياسى بعد خسارته فى كافة الانتخابات التى خاضها ضد مرشحى حزب العدالة والتنمية، بعد الانتخابات البلدية عام 2009 على منصب رئيس بلدية إسطنبول والانتخابات الرئاسية فى مايو الماضى على منصب رئيس الجمهورية، أما أردوغان فقد استطاع فى أيامه الأولى فى ولايته الأخيرة تحقيق مكاسب سياسية جديدة، منها نجاحه بعد الاتصال بالرئيس السيسى فى رفع مستوى العلاقات بين الدولتين وتبادل السفراء، كما نجح فى كسب دعم الرئيس الأمريكى جو بايدن فى حصول تركيا على طائرات F16 المقاتلة.

المصادر:

[1]“دعم ضمنى من “الشعوب الديمقراطي” لكليتشدار أوغلو.. عاصفة فى حزب أكشنار”، موقع عربى 21، 22/3/2023، متاح على: https://2u.pw/jpBEi0.

[2] “الأقليات والطوائف فى تركيا”، موقع الجزيرة نت، 3/11/2006، متاح على: https://2u.pw/hQqtiH.

كلمات مفتاحية