إعداد: بسمة أنور
لم يعُدْ غياب الأمن العسكري أخطر التهديدات على «السلم، والأمن» الدولييْن، فقد احتل الأمن المائي أعلى قائمة الجوانب غير العسكرية للأمن القومي لأيِّ دولةٍ؛ لأنه يمسُّ وجود حياة شعوبها وكياناتها وسيادتها، فالمياه تُعدُّ أكثر الموارد الأساسية تجاوزًا للحدود؛ لذا تتسابق الدول فيما بينها؛ لتأمين قدْرٍ كافٍ من المياه؛ لضمان الاستمرار بخُططها التنموية، وبالنظر لمنطقة الشرق الأوسط، فقد وصفتها تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بالمياه، أنها المنطقة الأكثر شُحًّا في المياه عالميًّا، خاصةً “المنطقة العربية” منها؛ لوقوعها جغرافيًّا في حزام المناطق الجافة وشبه القاحلة.
وبمقارنة متوسط كمية المياه المتاحة للفرد سنويًّا على المستوى العالمي، والتي تُقدَّرُ بنحو 7000 متر مكعب، بمتوسط كمية المياه المتاحة للفرد سنويًّا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حوالي 1200 متر مكعب فقط؛ ما يدل على الأوضاع المائية المتردّية التي يعيشها أغلب سكان هذه المنطقة، وفضلًا عن هذا، مع توقُّع نمو سكاني قد يصل إلى 500 مليون نسمة، في عام 2025، فمن المنتظر، تراجُع كمية المياه المتاحة للفرد إلى النصف، بحلول عام 2050، وفي هذا المقال، سوف نُلْقي الضوء على مخاطر شُحِّ المياه على المنطقة، من ارتدادت عكسية فاقمت الصراعات والتهديدات التي تواجهها المنطقة بأكلها، والتي غالبًا ما تكون المُحرِّك للصراعات على المياه؛ ما تفاقم المخاطر والتهديدات التي تواجهها المنطقة، في ظلِّ الأزمات العالمية المختلفة، وبالإضافة إلى طرْح آليات المواجهة، واستشرافٍ لمستقبل مياه الشرق الأوسط ، على النحو التالي:
أولًا: المخاطر والتهديدات
تعود تحديات الأمن المائي بالشرق الأوسط إلى عِدَّةِ عوامل رئيسية، أهمها: سوء إدارة الموارد المائية، والتغيُّر المناخي، وتزايد عدد السكان؛ ما يضاعف مشكلة الجفاف بالمنطقة تعقيدًا، وتأثيرات النزاعات، والأزمات الاقتصادية، وتحديات المياه العابرة للحدود، هذا إلى جانب تسيس قضية المياه، واعتبارها ورقة ضغط في العلاقات بين دول المنطقة وخارجه؛ حيث تأتي 76 % من مياه أنهار الشرق الأوسط من منابع خارجه، وإدراكًا منا لأهمية موضوع المياه في الصراع في منطقة الشرق الأوسط، نرى أهمية استقراء بسيطٍ ومُوجزٍ، لأبرز التهديدات التي يواجهها الأمن المائي بمنطقة الشرق الأوسط؛ لبلورة رؤيةٍ شاملةٍ حول ملف المياه بالمنطقة، ومن ثمَّ التوصُّل للمقترحات والتوصيات العامة؛ لمواجهة الشُّحِ المائي بالكمية المتاحة لديها.
1 – الإجهاد المائي وتداعياته «سياسيًّا واقتصاديًّا وصحيًّا»:
تُعدُّ تأثرات الإجهاد المائي من بين المخاطر الرئيسية التي تهدد النمو على المدى البعيد؛ ما يؤدي إلى تفاقُم الأوضاع «الاقتصادية، والسياسية، والصحية» الصعبة، التي تواجهها مجتمعات الشرق الأوسط
فبالنظر للشِّقيْن «الاقتصادي والصحي»: فقد تسبَّبت حيوية المياه بالنسبة للاقتصاد على مرِّ العصور، في ظهور ما يعرف بـ “اقتصادات المياه”، ويُقصد بها حساب تأثيرها في معدلات النمو وتقدير تأثيرات غيابها أو شُّحها على الاقتصاد، بكافة أنشطته «زراعية، أو صناعية، أو خدمية»؛ ما يُعرقل النمو الاقتصادي بالمنطقة على المدييْن “المتوسط، والطويل”، هذا إلى جانب الاحتباس الحراري، وتقلُّص كمية المياه المتاحة، من شأنه، تكليف بعض الاقتصادات حتى 6 % من الناتج المحلي، إضافةً إلى العجز عن توفير المياه للزراعة أو الصناعة، أو حتى الاضطرار لنقل مصانع، أو إحداث تغييرات في البنية التحتية؛ فدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في صدارة الدول المهددة بخسارةٍ نِسَبٍ كبيرةٍ من ناتجها المحلي، بحلول عام 2050، إذا لم تُجْرَ تغييرات جذرية في أسلوب استخدام المياه لتأثير نُدْرتها على «الزراعة، والصناعة، والصحة العامة»؛ فالشُّحُّ المائي وتغيير المناخ سيؤثران بشكلٍ ملحوظٍ على الزراعة؛ ما يتسبب في انعدام الأمن الغذائي، فالشُّحُّ المائي له تأثيرٌ عميقٌ على كافة سكان المنطقة، بدْءًا من صحتهم وتغذيتهم
وعلى الصعيد السياسي: أصبح شحّ المياه مُحرِّكًا للنزاعات والنُّزوح بشكلٍ متزايدٍ في الشرق الأوسط، لا سيما في «سوريا، واليمن، والسودان»، وارتفاع الهجرة من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، والنمو السكاني، وسوء إدارة المياه، وتدهور البنية التحتية للمياه، ومشاكل الحوكمة؛ فالجفاف وسوء إدارة الموارد المائية، أمور دفعت المتضررين إلى اللجوء للجماعات المسلحة والمتطرفة ببعض مناطق الشرق الأوسط، وعلى صعيدٍ آخر، يسعى السياسيون إلى وضْع أيديهم على مصادر المياه، ويبدأ الاقتتال للسيطرة عليها؛ لذا صُنِّفت أزمة نقْص المياه منذ عام 2012، كواحدةٍ من أخطر خمس أزمات في العالم، حسب قائمة الأزمات الاقتصادية العالمية، وفي عام 2017، أدَّى الجفاف الحاد إلى أسوأ مشكلةٍ إنسانيةٍ منذ الحرب العالمية الثانية، عندما دفع بنحو 20 مليون شخص من سكان أفريقيا والشرق الأوسط إلى مغادرة منازلهم؛ بسبب ما صاحب ذلك من نقْصٍ حادٍّ في الغذاء، وبسبب الصراعات التي اندلعت.
2- الصراع المائي:
إن السلام العالمي مرهونٌ بضمان حقِّ الدول في الاستفادة من المياه، ولهذا ربما يصبح الحفاظ على الإدارة السلسة للمياه بين الدول، والحيلولة دون تطور أيِّ نزاعات، من التحديات المستقبلية، فالمسطحات المائية تُشكِّل حدودًا طبيعية بين الدول وبعضها، تتقاسم دول عديدة مياه الأنهار أو البحيرات؛ نظرًا لكونها “دول منبع، أو مصب، أو تمر من خلالها”، وبالنظر إلى الاستعداد الفطري لدى البشر للدخول في صراعات من أجل البقاء، فقضايا المياه بمنطقة الشرق الأوسط، قد تتفاقم إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، وتتحول إلى حروبٍ فعليةٍ، إذا لم تُعَالج بالوسائل الدبلوماسية، وبالنظر للمشكلات السياسية المرتبطة بالأنهار الدولية الرئيسية في الشرق الأوسط، يدور أغلبها حول “قضايا السدود”، والتي تُضْعِف من حصص الدول المائية؛ ما يعرضها للفقر المائي، وتُعدُّ قضايا “نهر النيل ونهريْ «دجلة والفرات»، بالإضافة إلى نهر الأردن، النهر الصغير ذي الإيراد المائي المحدود” من أهم قضايا المياه بالمنطقة، وإن كانت الخلافات والنزاعات بين دول حوض النيل أو حوض دجلة والفرات قد قامت حول حقوق هذه الدول في مياه الأنهار، فإن مشكلة المياه في نهر الأردن وليدةٌ للصراع «العربي – الإسرائيلي» قبل أن تكون مشكلةً لاقتسام المياه، وسوف نسلط الضوء على أبرز الصراعات المائية الجارية بين دول الشرق الأوسط ودول المنابع خارجه:
مصر وإثيوبيا “نهر النيل”: تُعدُّ إدارة النيل الأزرق أمرًا مُعقَّدًا؛ حيث يمتد النهر لأكثر من 4 آلاف ميل، ويمر بـ12 دولة، ويلتقي بالنيل الأبيض في «الخرطوم»، ويتدفق بعد ذلك لمصر، وقد أعلنت إثيوبيا في فبراير 2011، عن عزْمها إنشاء سدٍّ على نهر النيل، ويبعد ]20-40 كم[ من الحدود السودانية، ويُعدُّ «سدّ النهضة» هو الأضخم في أفريقيا، بطاقة استيعاب، تصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه؛ لغرض توليد الكهرباء؛ لتعويض النقْص الحاد في الطاقة في إثيوبيا، وتصدير الكهرباء إلى البلدان المُجاورة، ودارت عدة محادثات بين إثيوبيا ودولتيْ المصب “مصر والسودان” حول الجدول الزمني وسرعة ملْء السد، وكيفية تخفيف أثر الجفاف، واقترحت إثيوبيا في البداية، ملْء السد خلال 3 أعوام، بينما تريد مصر فترةً من «10 إلى 15» عامًا؛ لخشيتها من تأثير ملْء السد بوتيرةٍ سريعةٍ على نقْص حصتها المائية؛ حيث تعتمد مصر على مياه النيل، بنسبة 97 % في أمور الرّي ومياه الشرب، وبانخفاض 2 % من مياه النيل؛ سيؤدي إلى خسارة 200 ألف فدان زراعي، وحواليْ مليون وظيفة؛ لذا شدّدت مصر على موقفها؛ خوفًا على أمنها المائي، واتهمت إثيوبيا بالتعنُّت؛ لرفضها إجراء دراسات لتقييم الأثر البيئي والاجتماعي، والخضوع إلى رقابةٍ دوليةٍ، فقد بدأت إثيوبيا عملية ملْء خزان السد الإثيوبي، في عام 2020، إلى أن أعلنت «أديس أبابا» رسميًّا اكتمال الملْء الثالث للسد، وتخزين 22 مليار متر مكعب من المياه، دون إضرار، أو توقُّف المياه إلى دولتَيْ مصب النهر، وهذه خطوة كفيلة بتأجيج التوتُّر بين الدول الثلاث.
ودعت إثيوبيا دولتيْ المصبّ إلى مواصلة المفاوضات، وذكرت أن “أيّ رأي بخلاف ذلك، لن يوقف ما بدأته، وسيكون جهْدًا ضائعًا”، دأبت مصر على رفْض الخطوات، التي تتخذها “أديس أبابا” بشكلٍ منفردٍ من دون اتفاقٍ مع دولتيْ المصب؛ لما يترتب على هذه الخطوات الإثيوبية من تأثيرٍ كبيرٍ على حصتها من مياه نهر النيل؛ ما يهدد أمنها القومي؛ فمصر لا تريد أن تنخرط في حربٍ قد تكلفها الكثير، فإن أيَّ غارةٍ جويةٍ قد تشنّها الأخيرة على السد، ستؤدي إلى اندلاع مواجهة عسكرية بين «مصر، وإثيوبيا»، غالب الظن أن الغارة الجوية ستلحق أضرارًا كبيرة بالمنطقة القريبة للسدّ، التي تقع في إقليم “بني شنقول قمز” غرب إثيوبيا، على بعد 15 كيلومترًا من الحدود السودانية، وسواء دمّرت مصر السد بشكلٍ كُليٍّ أو جزئيٍّ، سيؤدّي ذلك – على الأرجح- إلى حدوث فيضانات؛ ما قد يُلحق أضرارًا كارثية بالمجتمعات المحلية المقيمة على الحدود «الإثيوبية – السودانية»، وعلى الجانب الإثيوبي، فإنه يضع كُلًّا من «مصر، والسودان» أمام خيارَيْن؛ إما الرضوخ للأمر الواقع، وإما الطوفان؛ إذ إن الخيار العسكري بـ(ضرب) السدّ لن يكون مُجْدِيًا حينها؛ لأن نتيجته الحتمية هي إغراق جغرافيا واسعة في كُلٍّ من «السودان، ومصر»، حسب خبراء في هذا الملف، ولتجنُّب الدخول في هذه الخيارات الكارثية، لجأت مصر إلى مجلس الأمن.
تركيا وسوريا والعراق.. «دجلة والفرات»: تُعدُّ قضية المياه من أهم القضايا الرئيسة المشتركة بين الدول الثلاث “العراق، وسوريا، وتركيا” ومصدرًا للنِّزاع بينهم، في العديد من المناسبات، كادت أن تؤدي إلى حدوث صدامٍ مسلحٍ؛ حيث يُعدُّ “دجلة والفرات” من أهم المصادر الرئيسية التي يعتمد عليها كل من “العراق وسوريا” في الاستخدامات «الزراعية، والصناعية، والمنزلية»، وقد قامت تركيا بإنشاء سدودٍ كثيرةٍ على النهريْن؛ ما أدَّى إلى إخفاضٍ كبيرٍ في حصص البلديْن، وخلَّف حالةً من التوتُّر بيْن البلديْن، فالميزان المائي العراقي يعتمد بصورةٍ أساسيةٍ على المياه السطحية، من نهريْ “دجلة والفرات”، بينما تُعدُّ سوريا أفقر دول حوض الفرات بالمورد المائي، أما تركيا فهي الدولة الأغنى بالمياه، فتُقدر كمية المياه السنوية الجارية فيها بنحو ١٨٦مليارًا، ويعود تاريخ الأزمات المائية بين الدول الثلاث إلى عام 1974، عندما قامت تركيا بملْء خزَّان “كيبان”، وكذلك عندما قامت سوريا بملْء خزَّان “الطبقة”؛ الأمر الذي أدَّى إلى توقُّف تدفُّق مياه نهر الفرات إلى العراق، كما حدثت أزمة أخرى في عام ١٩٨٣، عندما انخفض منسوب خزَّان «الطبقة»، احتجَّت سوريا على تركيا؛ كونها السبب في ذلك.
وفي بداية عام ١٩٩٠، تجدَّد سوء التفاهم بين تركيا من جهة، والعراق وسوريا من جهةٍ أُخرى، وتطوَّر ذلك الوضع إلى مواجهة خطيرة، فقد قامت تركيا بتحويل مياه الفرات لملْء «سد أتاتورك»، واستمرار تركيا بإنشاء مشاريعها على نهريْ «دجلة، والفرات» من دون مراعاة حقوق «العراق، وسوريا» وحصصهما، هذا إلى جانب استخدام المياه كورقة ضغطٍ على البلديْن «سوريا، والعراق»؛ من أجل إخراج «حزب العمال الكردستاني» من الأراضي «السورية، والعراقية»، وعلى صعيدٍ آخر، فإن رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يتطلب نموًا أقصى للمياه؛ من أجل الحصول على تنميةٍ زراعيةٍ متقدمةٍ؛ لتظهر نفسها كقوةٍ إقليميةٍ بارزةٍ في المستقبل على الصعيد المائي، فهى تمارس المزيد من الضغوط على جيرانها؛ لأجل إحكام السيطرة على المورد المائي، واتخذت مؤخرًا عدة خطوات للتواصل الدبلوماسي مع العراق؛ لحلِّ أزمة نقْص المياه الحاد التي تقاسيها الأخيرة؛ ما تسبب في تداعيات كارثية عليها، وخاصة مع انخفاضٍ في الأمطار ومستوى الأنهار؛ لعقد اتفاقٍ لتحديد حصص مياه نهري «دجلة، والفرات» اللذين ينْبُعَان من الأراضي التركية، فمن أسباب نقْص المياه الواردة للعراق، احتجاز تركيا للمياه في السدود التي بنتها، ومنها “سد أتاتورك”، الذي تسبَّب في خفْض نسبة مياه نهر الفرات، التي تذهب إلى سوريا ثم إلى العراق.
وقد اتفقت البلدان «تركيا، والعراق» على تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ في 9 يناير 2023م؛ لحل مشكلة المياه، ومن خلال هذه اللجنة، يمكن الذهاب إلى قواعد القانون الدولي، التي تُنظِّم تقسيم وتوزيع المياه بين الدول المتشاطئة بصورةٍ عادلةٍ، وهذا سيضمن استقرار العلاقات «السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية» بين «العراق، وتركيا»، وحصة العراق المائية.
إيران وأفغانستان.. “نهر هلمند”: ظلَّ الملف المائي معضلةً استمرت لعقود بين “طهران، وكابول” ومع تسلُّم «حركة طالبان» مقاليد الحكم، سعت إيران بشكلٍ براغماتيٍّ إلى إيجاد حلٍّ لهذا الملف الشائك، فـ«نهر هلمند» الواقع جنوب غربي أفغانستان وشرقي إيران، من شأنه، أن يُشْعِل صراعًا يعود إلى قرنٍ من الزمان بين البلديْن المتجاورين، يُعدُّ النهر الأطول «نهر هلمند» في أفغانستان، يبلغ طوله1150 كلم، وهو ممتد جنوبًا من الجزء الغربي من جبال “هندوكوش”، مرورًا عبر المناطق الصحراوية، إلى أن يصب في بحيرة “هامون” على الحدود مع إيران، التي لها حصة الأسد من مياه هذه البحيرة، التي تُعدُّ مصدرها الأساسي للمياه العذبة؛ ما يمنحها أهميةً اقتصاديةً وبيئيةً كبيرةً بالنسبة لـ«طهران»، يُعدُّ هذا النهر أهم موردٍ للماء في البلديْن؛ لذا يتمحور الصراع المائي “الإيراني – الأفغاني” حول «نهر هلمند»، فقد قام الرئيس الأفغاني السابق، أشرف غني – الذي فرّ إلى الإمارات، بعد سيطرة «طالبان» على البلاد- ببناء سدّ “كمال خان” في محافظة «نيمروز» بالقرب من الحدود الإيرانية، استمر بناؤه أربعة أعوامٍ، وافتتحه في مارس/ آذار 2021، وحينها قال «غني»: “سوف نعطي إيران المياه مقابل النفط”، وبدوره أعاد إشعال نزاعٍ قديمٍ بين «إيران، وأفغانستان» حول حصتها في «نهر هلمند»، وآنذاك اتهمت إيران أفغانستان بعدم احترام اتفاقية المياه، المُوقَّعة بين الطرفيْن، في عام 1973، معتبرةً أنها تحصل على كميات أقل بكثير مما تقتضيه الاتفاقية المذكورة، وبقدوم حكم «طالبان» وانسحاب القوات الأمريكية منها، غادر البلاد عددٌ كبيرٌ من خبراء إدارة المياه والسدود، وبدوره تسبَّبت قضية المياه في مشكلاتٍ بين أفغانستان وجارتيْها “إيران، وباكستان” وحذّرت إيران مؤخرًا الجانب الأفغاني، من أن التفريط في حقِّها في المياه سيؤثر سلْبًا على مجالات التعاون الأُخرى بينهما، في إشارة إلى ملف اللاجئين الأفغان في إيران، في المقابل، لا يفقه قادة «طالبان» سوى القليل عن المشاكل البيئية، ويريدون العمل بشكلٍ أساسيٍّ مع الأشخاص الذين يوافقونهم أَيْدِيُولُوجِيًّا.
ثانيًا: حلولٌ في الأُفُق:
إن حلول مشكلة نُدْرة المياه في الشرق الأوسط تُمثِّلُ تحديًا كبيرًا لمجموع دول المنطقة، وعلى المدى البعيد، قد يكون لنُدْرة المياه عواقب وخيمة على استقرارها؛ لذلك فإن التوصُّل لحلول وابتكارات تسطيع مواجهة الشُّح المائي، وتُقلِّل من حِدَّة المخاطر التي تسببها، وتقليل فرص واحتمالات نُشُوب حروبٍ فعليةٍ بالمنطقة؛ من أجل المياه، وعدم الانجرار إلى هذه العوائق، ومحاولة الوصول إلى حلولٍ جذريةٍ؛ من أجل تحقيق الأمن والسلام في المنطقة، فالحروب لا تؤدي إلا إلى كوارث تطال المنطقة بأكملها، تقضي على «الأخضر، واليابس»؛ فتبْزُغ أهمية الوقت الذي كلما مضى قُدمًا، تراجعت إمكانية إيجاد تسوية سلمية للأزمة، بينما يتقدَّم الخيار العسكري إلى الواجهة، فعلى الجميع أن يفعل الحلول المطروحة في الأُفُق على كافة المستويات، سواء “منظمات دولية، أو حكومات، أو أفراد”؛ من أجل تحويل التهديدات إلى فرص، فتمثل هذه الحلول ضرورةً مُلحِّةً لوقْف الصراعات، والحدِّ من النزوح و الهجرة، وطالما أنه من الممكن تحديد الأسباب المُؤجِّجة للصراعات على موارد المياه، فمن المستطاع، مواجهة أيٍّ منها بالحلول المتاحة؛ للسيطرة عليها مستقبلًا:
على المستوى الداخلي:
- العمل المشترك بين دول المنطقة، والاستعانة بالخبرات وخبراء الموارد المائية؛ لبحث المُعوِّقَات وسُبُل الحلول الممكنة لإدارة الموارد المائية الشحيحة، إلى جانب التعاون الداخلي من “فُرادى المزارعين والمستهلكين إلى الشركات والهيئات العامة”، فعليهم أيضًا أن يتحملوا مسؤولية التغلُّب على نُدْرة المياه.
- دور الحكومات بعمل إصلاحات أساسية في مجال المياه، وتوعية المواطنين بخطورة هدْر المياه؛ لأنه مورد صُبِغَ بالندرة فى المنطقة، فعلى الجميع مسؤولية الحفاظ عليه؛ لأنه المصدر الأول للحياة، ولأهميته الكبيرة للتنمية في كافة المجالات والصحة والأمن والحاضر ومستقبل الأجيال القادمة.
- تعجيل وتيرة تطوير الابتكار، ونشره من أجل الإدارة المستدامة للمياه، ويتطلب هذا بدوره “وعي مائي” جديد، بالإصلاحات التي تقوم بها الدولة؛ من أجل الحدِّ من مشكلة نقْص المياه، وإدارة مصادرها.
- تضييق الفجوة بين العرْض والطلب على المياه هو من الأولويات العاجلة.
- ونحو إدارةٍ أفضلَ للموارد المائية؛ يجب الطلب من مقدمي خدمات المياه استثمار جزء من أرباحهم في إجراء الأبحاث، والقيام بعملية دمْج البنية التحتية الخضراء في إدارة مياه الأمطار “البيرو نموذجًا في ذلك”.
- العمل على الحدِّ من التلوُّث الصناعي لـ «البحار، والأنهار»، ودمْج البنية التحتية التقليدية للمياه؛ لضمان التوزيع العادل للمياه بين السكان في «الريف، والمدينة».
- العمل على توفير كميات إضافية من الماء، باتِّباع تقنيات مختلفة كـ «تحلية مياه البحر»؛ فهذه التقنية التي تُؤَمِّنُ للسعودية ما يزيد على 50% من حاجتها إلى الماء، كما أن معالجة مياه الصرف الصحي يمكن أن تصبح مصدرًا بديلًا منخفض التكاليف وسهل التنفيذ؛ لتأمين المياه التي يمكن استخدامها في المناطق الزراعية، التي تعاني الجفاف، تفيد إحدى الدراسات العالمية، أن تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف الصحي، يمكن أن تُقلِّل نسبة مَن يعانون النقص الحاد للمياه من «40% إلى 14%».
- وأوصى البحث العلمي لضخِّ كميات إضافية عند الحاجة الملحة، بالاعتماد بصورةٍ مستمرةٍ على تقنية «تحلية مياه البحر»، ومعالجة مياه الصرف الصحي؛ لكونها أفضل الإستراتيجيات وأكثرها كفاءةً، استجاب عدد من الدول لهذه التوصية، ومن بينهم مصر؛ فقد أبرمت الحكومة المصرية في العام المنصرم، عددًا من العقود؛ لبناء نحو 47 محطةً لـ«تحلية مياه البحر»، وإنشاء أكبر محطة في العالم لمعالجة مياه الصرف الصحي، على الرغم من تسريع السلطات المصرية لعمليات بناء هذه المحطات؛ فإن الجزء الأكبر من هذه المشروعات لن يكتمل قبل حلول عام 2030.
وعلى المستوى الدولي:
- تُعدُّ اتفاقيات تقاسُم الماء حلًّا مثاليًّا لتخفيف حِدَّة الصراعات على المياه؛ فقد تمَّ توقيع أكثر من 200 اتفاقية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنها معاهدة مياه «نهر السند» التي وقّعت عام 1960، بين «الهند، وباكستان»، ومعاهدة السلام التي جرى توقيعها بين كُلٍّ من «الأردن، وإسرائيل»؛ ولكن محاولات الأمم المتحدة التي استمرت لعقْد من الزمن لتقديم اتفاقية مياه عالمية بشأن الأنهار والبحيرات العابرة للحدود لم تُثْمر كثيرًا؛ حيث تعهَّدت 43 دولةً فقط بالالتزام بهذه الاتفاقية.
- قد يكون من الجيد أن تتضمن المعاهدات الموقعة حديثًا بروتوكولات؛ للتخفيف من وطْأة الجفاف؛ ما قد يُبدِّد بعض مخاوف دول مصبات الأنهار من إمكانية حرمانها من المياه في أوقات الأزمات، بالإضافة إلى آلية تسوية النزاعات في حال نشوبها.
- وعلى المنظمات والمجتمع الدولي تقديم الدعم في دول الحروب، والتي تم استهداف البنية التحتية المائية بها؛ للتخفيف من معاناة السكان، ولعدم اضطرارهم للنزوح لأماكن أكثر أمانًا، أو البحث عن أماكن بها خدمات أساسية، ومن ضمنها المياه، ولإعادة تأهيل البنية التحتية المتصدعة؛ نظرًا للمشكلات اليومية التي يعانونها، كالحصول على ماء الشرب النظيف.
- تشديد المجتمع الدولي على عدم استخدام المياه كسلاح حرب في الحروب والنزاعات بالمنطقة؛ لأنه أمر مناهض للقانون الدولي الإنساني.
- يبدو من غير المرجح، أن تتوصل الدول المتصارعة على المياه في قضايا السدود إلى اتفاقٍ فيما بينها؛ لذا يجب تكثيف الجهود الدبلوماسية الدولية؛ لتجنّب التصعيد.
ختامًا:
باستشراف المستقبل، فإن المياه تُشكِّل تهديدًا مصيريًّا لاستقرار المنطقة وتنميتها بشكلٍ مُسْتَدَامٍ، فبعد أن كانت وفْرة المياه بالمنطقة أهم أسباب ازدهار حضارات «الشرق – أوسطية» القديمة، وأهمها “الحضارة الفرعونية وبلاد ما بين النهريْن”، باتت منطقة الشرق الأوسط مهددةً، بأن تكون أكثر مناطق العالم نُضُوبًا متوقعًا لمصادر المياه العذْبة، وفْق التقديرات الدولية، فالمخاطر – التي يحدثها الشُّح المائي عالميًّا- تتضاعف على منطقة الشرق الأوسط؛ نظرًا لكوْنها أكثر منطقةٍ في العالم تُعانِي من شُّحٍّ مائيٍّ؛ لذا التداعيات الكارثية ستطال كافة الأصعدة؛ ما يؤدي إلى تفاقُم المشاكل والأزمات بها، وبدوره سيُزيدُ الشُّحُّ المائيُّ من تصعيد الصراع المائي بالمنطقة مع دول المنابع؛ ما يزيد من احتمالية دقِّ طبول الحرب مستقبلًا.
ونظرًا لحساسية عنصر المياه، تتجه دول المنطقة في سياق تغيير العلاقات الدولية، فأيّ طرفٍ يمكن أن يستعمل عنصر المياه “كورقة ضغط ومساومة” بالنسبة للطرف الآخر، تفيد العلاقات الدبلوماسية بين الدول في الحدِّ من تصعيد الصراعات المتعلقة بالمياه، ولهذا تُعدُّ اتفاقيات تقاسُم الماء حلًّا مثاليًّا؛ لتخفيف حِدَّة هذه النزاعات؛ وقد أجرى “بيتر جليك”؛ رئيس معهد باسيفيك، في «أوكلاند»، دراسةً في العلاقة بين نقْص الماء والصراعات والهجرة، وتوصَّل إلى أن الصراع على مصادر المياه آخِذٌ بالازدياد؛ إذ يقول: «لا أحد يموت من العطش إلا في حالاتٍ نادرةٍ جدًّا، ولكن البشر يموتون أكثر وأكثر؛ بسبب شرْب الماء المُلوَّث، أو بسبب الصراعات على مصادر المياه».
وتبرز أهمية إبرام اتفاقيات الموارد المائية المشتركة للحفاظ على «السلم، والأمن» بمنطقة الشرق الأوسط، ومثال ذلك، ما حدث بين “ليسوتو، وجنوب أفريقيا” و”بوتسوانا، وناميبيا”، والتي استطاعت بعد أن تصاعدت الخلافات فيما بينها على الموارد المشتركة إلى درجةٍ خطيرةٍ عام 2000، أن تكثّف التعاون فيما بينها، عن طريق لجنة نهر أورنج سينكو (أوراسيكوم)، وتكريس مبادئ ترشيد الاستهلاك، فهذه الاتفاقيات من شأنها خفْض حِدَّة النزاع، والإسهام في عملية التهدئة.
وباستطلاع التغيُّرات المناخية التي تتوقع فصول صيفٍ أكثر حرارةً وجفافًا في السنوات القادمة؛ فلهذا المناخ تداعيات سياسية كثيرة؛ أهمها: نزوحٌ جماعيٌّ على نطاقٍ واسعٍ جدًّا، إلى جانب مواجهة دول المنطقة، بحسب ما وصفه خبراء الشؤون البيئية «بإفلاسٍ مائيٍّ وشيكٍ».