هل أعلن الرئيس الروسي الحرب اليوم ؟
إعداد: البروفيسور أيمن سلامة
أثار الإعلان المفاجئ للرئيس الروسي بوتين اليوم لحالة الحرب في الأقاليم التي ضمتها روسيا مؤخرا من أوكرانيا جدلا كبيرا خاصة بين غير المتخصصين في القانون الدولي ، لذلك ستناقش هذه المقالة التمييز القانوني بين المصطلحين القانونية : ” إعلان الحرب ” ، و” حالة الحرب ” ، ولكن ستناول بداءة وباختصار غير مخل مفهوم الحرب خاصة حين يندلع النزاع المسلح بين الدول ذات السيادة كما في الحالة الروسية الأوكرانية .
جدير بالذكر أن مستشار الرئيس الأوكراني ” ميخايلو بودولاك ” صرح لوسائل الإعلام فور إعلان الرئيس بوتين ، إن “الأحكام العرفية” التي أعلنها بوتين على الأراضي الأوكرانية المحتلة مؤقتًا ، والتي “انضمت” إلى الاتحاد الروسي ، ليس لها أهمية بالنسبة لأوكرانيا ، ,اردف قائلا أن كل الأشياء المنصوص عليها في “الأحكام العرفية” ستفسر من قبل أوكرانيا والقانون الدولي على أنها جرائم جنائية .
“مرسوم” بوتين بشأن “الأحكام العرفية”
فرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “الأحكام العرفية” على الأراضي المحتلة مؤقتًا في مناطق دونيتسك ، ولوهانسك ، وخيرسون ، وزابوريزهيا.، وقد نشرت وسائل الإعلام الروسية النص الكامل لما يسمى بـ “مرسوم” رئيس الكرملين، وبحسب “المرسوم” ، يمكن تنفيذ الإجراءات على أراضي روسيا ، إذا اعترف الكرملين بضرورة ذلك.
الحرب
تعرف الحرب بكونها هي نزاع مسلح عنيف بين دولتين أو أكثر ، ولكن يحظر القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة لجوء الدول للحرب Jus ad Bellum ،كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية ، ولا يسمح بذلك ميثاق الأمم المتحدة سوي في حالتين حصريتين : الدفاع عن النفس ، وإجراءات الأمن الجماعي التي يقودها مجلس الأمن لمنظمة الأمم المتحدة .
حالة الحرب
في سياق التمييز بين إعلان الحرب وحالة الحرب ، سبق للمحكمة الفيدرالية الأمريكية أن قررت في عام 1946 : “الإعلان الرسمي للكونغرس في الثامن من ديسمبر عام 1941 الحرب على اليابان ، لم يكن شرطًا أساسيًا مسبقًا لتحديد سياسي لوجود حالة حرب تبدأ بالهجوم على بيرل هاربور الأمريكية ، ونشير في ذات السياق أن يمكن لمواجهات عسكرية محدودة بين الجيوش النظامية للدول ألا ترقي لمفهوم النزاع المسلح الدولي لطالما انعدمت بعض الأركان القانونية ومن بينها ” الشدة ” أي شدة العدائيات العسكرية المتبادلة .
جلي أن الرئيس بوتين يدرك التداعيات العسكرية الأخيرة للهجمات المضادة الأوكرانية في المناطق التي ضمتها روسيا لخريطتها السياسية ، ومن ثم يطمح الرئيس الروسي فرض تدابير الأحكام العرفية من أجل فرض النظام واستتباب الأمن وخمد أي محاولات لزعزعة الاستقرار في هذه المناطق .
الحرب المعلنة
تهدف المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي لتحسين حال جرجي الجيوش في الميدان التي صدرت في عام 1949م إلي تحقيق هدف سامي يتمثل في توسيع نطاق تطبيق اتفاقيات جنيف بحيث تسري أحكامها حتى وإن لم تكن الأعمال العدائية بين الدول ناتجة عن إعلان الحرب رسميًّا؛ وهكذا، تخدم المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي الغرض الإنساني[1] لاتفاقيات جنيف ، حيث تقابل هذه المادة الحالات التي تحاول فيها الدول أن تتحلل من التزاماتها بموجب القانون الإنساني[2] ، بأن تمتنع هذه الدول عن إعلان الحرب أو رفض الاعتراف بوجود نزاع مسلح ، أو تتحايل علي حالة العدائيات العسكرية الشديدة مع غيرها من الدول العدوة المتحاربة .[3
أكدت المادة المشار إليها مفهوم الحرب المعلنة حسبما أوردته المادة الثانية من اتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899، وكذلك مع ديباجة اتفاقية لاهاي الثالثة لعام 1907 فيما يتعلق ببدء الأعمال العدائية، وتجدر الإشارة أن مفهوم الحرب المعلنة أكثر محدودية من مفهوم النزاع المسلح الوارد في المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي من حيث إغراقه في الشكلية والذاتية. وإذا كانت اتفاقيات جنيف الأربعة تمحورت حول المفهوم الشكلي للحرب فقط، لكان تطبيقها مرهونًا باعتراف أحد الأطراف المتحاربة رسميًّا بحالة الحرب (أو خلق تلك الحالة) عبر إصدار إعلان الحرب، وإعلان الحرب، وهو تصرف من جانب واحد، ينشئ حالة الحرب بغض النظر عن موقف وسلوك من وجه إليه (إليهم).[4] وقد تكرر هذا المفهوم في المادة 2(1)، التي تؤكد أن حالة الحرب تنشأ حتى وإن لم يعترف بها أحد المتحاربين.
وطبقًا للنظرية التقليدية للحرب المُعلنة، فإن مجرد حقيقة انخراط الدول في العنف المسلح لا ينهض سببًا كافيًا لإزاحة قانون السلم – القانون الدولي لحقوق الإنسان – ووجوب تطبيق القانون الإنساني بديلًا عنه؛ فالحرب المعلنة بمعناها القانوني تبدأ بإعلان الحرب،[5
أهمية إعلان الحرب
تعرضت لجنة دعاوى إريتريا – إثيوبيا في عام 2005، للمغزى القانوني لأهمية إعلان الحرب ، حين ذكرت أن “جوهر إعلان الحرب هو التأكيد الصريح على وجود حالة حرب بين المتحاربين”.[6] وينبغي الفهم أن إعلان الحرب هو “إعلان رسمي يصدر عن جانب واحد تصدره السلطة المختصة دستوريًّا في دولة ما، يحدد بالضبط اللحظة التي تبدأ عندها الحرب مع عدو معين”.[7]
أثر إعلان الحرب على تطبيق القانون الدولي الإنساني
بمجرد الإعلان الرسمي من جانب دولة واحدة تُصبح اتفاقيات جنيف واجبة التطبيق فور إعلان الحرب حتى وإن لم تعقب، ذلك، مواجهات مسلحة بين الدولة المعلنة والخصم (الخصوم) المحدد من جانبها.[8]
إهمال استخدام " إعلان الحرب " لا يسقط الالتزام الدولي
منذ دخول اتفاقيات جنيف الأربعة حيز النفاذ، لم يحدث أن أعلنت الدول الحرب إلا فيما ندر، ولقد نتج عن إقرار ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945[9]، وإنشاء نظام قانون شن الحرب (jus ad bellum) الذي قضى بعدم شرعية حروب العدوان، انخفضت بشكل كبير الحالات التي لجأت فيها الدول لإعلان الحرب كبير ، ومع ذلك، فإن هذا لا يعني بالضرورة سقوط فكرة الحرب المعلنة في دائرة الإهمال[10]، ولذلك سيكون من السابق لأوانه الإقرار بزوال مفهوم الحرب المعلنة، حتى وإن كان من غير الممكن تجاهل التراجع التدريجي لهذا المفهوم.[11]
جلي أن الإبقاء على مفهوم الحرب المعلنة يخدم أيضًا غرضًا إنسانيًّا، حتى وإن لم تكن الدول قد انخرطت فعليًّا في أعمال عدائية عسكرية ، لأن الإعلان يتيح لمواطني الدولة العدو الموجودين على أرض الطرف المعادي الاستفادة من الحماية التي يسبغها القانون الإنساني في حالة تعرضهم للآثار الضارة المترتبة على إعلان الحرب ، و هنا يتعين على الدول أن تعامل المدنيين من رعايا الدولة المعادية الموجودين على أراضيها وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة عام 1949 ، وعلى هذا، فإن تطبيق اتفاقيات جنيف في حالة الحرب المعلنة تثبت فائدته من منظور الحماية التي تسبغها وينسجم مع أهدافها الإنسانية.[12]
التحول من مفهوم الحرب إلى مفهوم النزاع المسلح
شهد اصدار اتفاقيات جينيف الأربعة في عام 1949م ، تولد الشعور بالحاجة الماسة إلى التخلي عن الذاتية والشكلية المرتبطين بمفهوم الحرب المعلنة وضمان استناد انطباق القانون الإنساني في الأساس إلى معايير موضوعية ومرتبطة بالوقائع ، فأدخلت اتفاقيات جنيف مفهوم النزاع المسلح القائم على وقائع، أي تعريف النزاع بمعناه المادي الفعلي الذي تؤكده العدائيات العسكرية المتبادلة بين الدول المتحاربة ، وليس بمعناه القانوني ، وعبر هذا التحول في دلالة الألفاظ، ابتعد صائغو اتفاقيات جنيف عن اشتراط انطباق اتفاقيات جنيف على المفهوم القانوني للحرب وحده.
ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، لم يعد انطباق القانون الإنساني مرتبطًا فقط بالإرادة المعلنة للدول، بل أصبح معتمدًا على معايير موضوعية ومرتبطة بالوقائع تنبثق عن مفهوم النزاع المسلح الوارد في المادة 2(1)، مما يجعله واجب التطبيق بمجرد قيام دولة بعمل (أعمال) عسكري معادٍ ضد دولة أخرى.
نافل القول ، لا يُجدي عزوف الدول عن التصريح الرسمي العلني المستهدف دولة بعينها أو مجموعة دولة بإعلان الحرب عن تنصل هذه الدول التي لم تعلن الحرب رسميا أو صاغت عبارات تمويهية على لفظة ” الحرب ” من التزاماتها الدولية بموجب القانون الدولي الإنساني الذي ينطبق آليا عند بدء العدائيات العسكرية بين الدول المتحاربة ، ودون انتظار لإعلانات الدول ، والغاية السامية في هذا السياق ، كما أسلفنا ، هو حماية المدنيين غير المشاركين بشكل مباشر في النزاع المسلح .
التمييز بين الحرب و النزاع المسلح
لا مِراء أن الفضل يرجع لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 1949م ، حيث لم تعتبر الاتفاقيات للإرث التاريخي والقانوني في آن واحد ، الذي كان يقرن انطباق قانون الحرب بوجود حالة الحرب الرسمية بين الدول تأسيسا على إعلان الحرب من جانب أي من الدول المتحاربة ، فتغلبت المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي على هذه القاعدة الجامدة التي سادت قبل صدور اتفاقيات جينيف في عام 1949م.[13] ويترتب على المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي أن الوجود الفعلي لنزاع مسلح كافٍ لانطباق القانون الإنساني.[14]
ولذلك، فقد أرست المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي تطورا قانونيا هاما في صدد تطبيق قانون النزاعات المسلحة تتمثل في إرساء انطباق اتفاقيات جنيف استنادًا إلى معايير موضوعية ومرتبطة بالوقائع ، وليس بالإعلانات الشكلية .
خلافا لما كان سائدا قبل صدور كلا من ميثاق منظمة الأمم المتحدة واتفاقيات جينيف الأربعة ، أولَت المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي ، الاهتمام في الواقع، للوجود الفعلي للنزاع المسلح أكثر من حالة الحرب الرسمية، ولذلك، فالجزم بوجود نزاع مسلح بالمعنى المقصود في المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي يجب أن يستند، فقط، إلى الوقائع السائدة التي تبرهن على وجود أعمال عدائية بين المتحاربين بحكم الواقع (de facto)، حتى من دون إعلان الحرب.
أكد الاجتهاد الفقهي والقضائي الدولي ما ذهبت إليه المادة الثانية من اتفاقية جينيف الاولي ،[15] ولقد أكدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا على أنه يتعين تقرير انطباق القانون الإنساني وفقًا للظروف السائدة بدلًا من الارتكاز على الآراء الذاتية لأطراف النزاع.[16][17
التكييف الانفرادي للعدائيات العسكرية المتبادلة
جلي أن إعلانات الدول والكيفية التي تصف بها الدول المواجهات المسلحة لا تؤثر على تطبيق اتفاقيات جنيف إذا أثبت الوضع الفعلي أن الدولة المعنية تنخرط – فعليًّا – في أعمال عدائية مسلحة ضد دولة أخرى ، والأكثر من ذلك أن عدم إشارة دولة ما، لأسباب سياسية أو لأسباب أخرى، إشارة صريحة إلى وجود نزاع مسلح بالمعنى الوارد في المادة الثانية من اتفاقية جينيف الأولي في حالة بعينها لا يحول دون تصنيفه – قانونًا- على أنه كذلك. ولقد ذكر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في أحد قراراته على سبيل المثال، تصنيفه لحالة ما طبقًا للقانون الإنساني.[18] وسبق للجنة الدولية للصليب الأحمر أن أكدت أن انطباق اتفاقيات جنيف يستقل عن التصريحات الرسمية لتفادي الحالات التي يُمكن فيها للدول أن تتنصل من الحماية التي تنص عليها تلك الاتفاقيات.[19]
لا مشاحة أن الدول التي تمتنع عن إعلان الحرب قبل انخراطها في عدائيات عسكرية ترقي لوضعية النزاع المسلح الدولي ، تستغل افتقار الجماعة الدولية لسلطة مركزية قانونية يكون من بين اختصاصاته تحديد أو تصنيف حالة ما على أنها نزاع مسلح ، و نتيجة لذلك تقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر من جانبها بتكييف الوقائع الماثلة بصورة مستقلة وبعيدة تماما عن اعتبار سياسي من جانب اللجنة أو الدول المنخرطة في النزاع المسلح الدولي الذي يقتضي في الأساس ” إعلان الحرب ” .[20] و لا يقتصر أمر تكييف تحقق النزاع المسلح الدولي علي اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، ولكن ترى جهات فاعلة أخرى دولية حكومية ، مثل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، أن تصنف الحالات المتعلقة بعملها، ويصدق ذات القول على المحاكم الدولية والوطنية بغرض ممارسة اختصاصها.[21]
ينبغي أن يكون التقدير القائم على الوقائع السائدة منسجمًا مع الفصل الصارم بين قانون الحرب (jus in bello) وقانون شن الحرب (jus ad bellum) وأن يساعد على الإبقاء على ذلك الفصل.[22] وبحكم هذا التمييز، فإن تقدير وجود نزاع مُسلح وما يرتبط به من انطباق القانون الدولي الإنساني يتوقف، حقًّا، على الظروف السائدة على أرض الواقع فقط ، فالهدف و الغاية من القانون الدولي الإنساني حماية أولئك الذين لا يشتركون أو توقفت مشاركتهم في الأعمال العدائية أثناء النزاع المسلح – ينتفيان إذا ما استند تطبيق هذا القانون إلى مشروعية النزاع بموجب قانون شن الحرب (jus ad bellum).
لا مِرية أن ثمة عدائيات عسكرية شديدة ترقي لمصاف النزاعات المسلحة الدولية ، لكن رفضت الدولة أو مجموعة الدول التي انخرطت في هذه النزاعات المسلحة الدولية أن تعلن الحرب بشكل رسمي أو تتحايل علي مسمي الحرب التي بادرت بشنها ، وحقيقة الأمر أن هذه الدولة أو الدول تدرك يقينا أن ما أقدمت عليه يفتقر لأي شرعية دولية بموجب أحكام القانون الدولي ، وهنا يهدف ذلك الطرف المحارب ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، إلي حرمان ضحايا هذا النزاع تعسفيًّا من الحماية المستحقة لهم بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني .