بقلم الدكتور أيمن سلامة : أستاذ القانون الدولي العام والمستشار القانوني السابق في قوات الناتو لإنفاذ السلام في البلقان 1997-1998
أدى انهيار يوغوسلافيا عام 1991 لمقتل ما يقدَّر بنحو 140 ألف شخص، وإعادة ترسيم خريطة أوروبا بأعنف قتال شهدته القارة منذ الحرب العالمية الثانية، والآن على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود علي هذه الحرب، فإن هناك مخاوف من أن يعود الصراع من جديد.
ملف كوسوفو يعود إلى الواجهة مرة أخرى
لم يكد التوتر في الجبل الأسود يهدأ، حتى اشتعل التوتر في جزء آخر من أجزاء يوغسلافيا السابقة، ألا وهو إقليم كوسوفو، الذي فقدت صربيا السيطرة عليه في العام 1999، بعد تدخّل جويّ عنيف من جانب حلف الناتو.
ومنذ إعلان كوسوفو استقلالها في العام 2008، ظلّ التوتر بينها وبين بلغراد مكتوماً، وخصوصاً في العام 2011، حين دخلت شرطة كوسوفو إلى 4 قرى أغلبية سكّانها من الصرب، بهدف السيطرة على المعابر الحدودية بين كوسوفو وصربيا، ونتجت من هذا التدخل اشتباكات عديدة، وبدأت صربيا منذ ذلك التوقيت بالترويج لفكرة إمكانية انضمام الجزء الشمالي من كوسوفو إليها، وقد حاول الاتحاد الأوروبي منذ العام 2013 حل الخلافات العالقة بين الجانبين عبر سلسلة من جولات التفاوض، لكن لم تسفر هذه المحاولات عن أي تقدم.
من محطّات التوتر المهمّة في العلاقة بين الجانبين، تصديق البرلمان في كوسوفو في ديسمبر 2018 على تأسيس وزارة للدفاع، وتحويل الوحدات المسلحة التابعة للإقليم، والمسماة “قوة أمن كوسوفو”، إلى جيش قوامه 5 آلاف جندي.
تمت هذه الخطوة رغم مقاطعة النواب الصرب في البرلمان للتصويت على هذا القرار الذي عارضته بلغراد بشدة، واتّهم حينها الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بريشتينا – العاصمة الكوسوفية – بـ”قرع طبول الحرب”، وتهديد الصرب المتواجدين في أراضي كوسوفو.
غرب البلقان من جديد
تحتوي منطقة غرب البلقان على العديد من الدول التي دمرتها الحرب في التسعينيات، وهي الآن تواجه مشاكل جديدة مدفوعة جزئياً بالإرث القديم، حيث تواجه البوسنة والهرسك دعوات انفصالية في المنطقة التي يسيطر عليها الصرب “جمهورية صربسكا” التي تدعمها صربيا، كما توقفت جهود حل نزاع كوسوفو مع صربيا بشأن استقلالها، مما ترك الأقليات على جانبي الحدود عرضة للصراع من جديد.
الدومينو في يوغوسلافيا السابقة
يُعد مثال انفراط عقد فسيفساء الاتحاد اليوغوسلافي السابق الذي صنعته القوي العظمي إثر انتهاء الحرب العظمي – الحرب العالمي الأولي – المثال الصارخ لتحقق نظرية الدومينو التي راهن علي نجاحها الكثيرون من الخبراء في يوغسلافيا السابقة حيث مثل انفصال واستقلال سلوفينيا في عام 1991 عن الفيدرالية اليوغوسلافي أول سقوط لقطعة الدومينو في يوغوسلافيا ، وتلتها كرواتيا و البوسنة و الهرسك و مقدونيا ، و في عام 2006 ، حصل الجبل الأسود أخيرًا على استقلاله بإنهاء مجتمع دول صربيا والجبل الأسود بعد أن أعلن برلمان الجبل الأسود استقلال البلاد وفقًا لرغبة سكان الجبل الأسود الذين أعربوا عن ذلك في استفتاء 21 مايو 2006.
كوسوفو- صربيا : صراع شبه مستحيل
ربما لم تكن مفاجِئَة حالة التوتر التي عاشتها الحدود بين إقليم كوسوفو وجمهورية صربيا أواخر سبتمبر الماضي، بالنظر إلى الماضي الدموي الذي شهدته تلك المنطقة بشكل خاص، والعلاقة بين صربيا والجمهوريات المنبثقة من الاتحاد اليوغسلافي خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن كان لافتاً ارتباط هذا التصعيد بصراع أكبر تدور رحاه بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية.
لكن في بداية شهر أغسطس 2022، اندلعت اضطرابات كلاسيكية جديدة على الحدود الفاصلة بين صربيا وكوسوفو، وبالرغم من اعتياد البلقانيين ، تحديدا ، علي مثل هذه الاضطرابات منذ الإعلان الانفرادي للدولة في عام 2008 ، لكن اتخذت الاضطرابات بين الجارين العدوين اللدودين المتجاورتين في البلقان بعدًا جديدًا مع الصراع بين روسيا وأوكرانيا ، مما أثار مخاوف من ظهور بؤرة ثانية للحرب في القارة العجوز التي لم تخبر منذ نهاية الحرب العالمي الثانية سوي بالحرب اليوغوسلافية 1991-1995 ، و الحرب الأوكرانية هذا العام ، وبالرغم من ذلك ليس ثمة ما يدعو للجزم بأن صربيا وكوسوفا سيذهبان للحرب مرة أخرى.
كوسوفو هي القضية أكثر إشكالية وتعقيدًا.
بين عامي 1999 و 2008 ، لم يكن لكوسوفو وضع قانوني محدد ، حيث كانت لا تزال مرتبطة بجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية ثم بجمهورية صربيا والجبل الأسود ، ولكن في عام 2008 اجتمع برلمان كوسوفو في جلسة استثنائية ، وصوت لصالح استقلال كوسوفو حسب رغبة رئيس الوزراء هاشم تاتشي حينئذ ، فخلقت سابقة كوسوفو وضعا محفوفا بالمخاطر بالنسبة للبلدان التي تذخر بحركات انفصالية و تعيش في أقاليمها “أمم بلا دول” داخلها، وهنا يجب أن نتذكر هنا كلمات فوك ييريميتش ، وزير خارجية صربيا في ذلك الوقت ، الذي أعلن في لاهاي أثناء نظر محكمة العدل الدولية اصدار رأيها الاستشاري بخصوص استقلال كوزوفو: “إذا دعمت المحكمة الانفصال ، فلن تكون أي حدود في العالم وفي المنطقة آمنة”.
كوسوفو وجدلية الحق في تقرير المصير
تعد كوزوفو مثال يجسد أحد القواعد الدولية الآمرة في القانون الدولي، وهو حق كل شعب ، وفقًا للقانون الدولي ، في الخيار الحر لتحديد شكل نظامه السياسي والاقتصادي ، بشكل مستقل عن أي تأثير أجنبي ، لكن وبالرغم من اصدار الجهاز القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة – محكمة العدل الدولية – رأيها الاستشاري في هذا الصدد ، فإن حدود هذا “الحق في تقرير المصير” تظل غير يقينية .
يختلف القانونيون حول هذه المسألة المعقدة ، حيث من الواضح أنه من الصعب للغاية تحديد مفهوم الأشخاص بالدقة اللازمة لاستقرار النظام الدولي ، خاصة خين يتعارض المبدأ مع مبدأ يعد حجر الزاوية للقانون الدولي و هو مبدأ سيادة واستقلال الدول و ضمان سلامة وحدتها الإقليمية ، ومع ذلك ، يتم قبول معايير معينة بشكل عام ، لكي تتمكن قومية ما من طلب استقلالها ، فيجب أن يكون شعبها قابلاً للتحديد بوضوح وتمييزه عن غالبية الشعب داخل الدولة التي ينتمون إليها ، وأن لا يتمتعوا باستقلال ذاتي كافٍ هناك.
تكمن المشكلة في أنه حين استقلت كوسوفو عن صربيا ، لم تكن كوسوفو كما نفهمها اليوم دولة بعد ، فلم تكن هناك حكومة أو حدود ، ومع ذلك كان هناك شعب بالفعل ، و كان الوضع غريبًا بقدر ما كان غامضًا: من وجهة النظر السياسية ، فإن الأرض تنتمي من جميع النواحي إلى صربيا ، لكنها من وجهة النظر الثقافية و القومية تشبه ألبانيا بنفس القدر.
سابقة كوسوفو وصندوق باندورا
بعد عقد من الحملة الجوية العسكرية التي شنها حلف الناتو ضد بلجراد عام 1999، أعلنت كوزوفو استقلالها من جانب واحد في عام 2008، ففتح ذلك الإعلان صندوق باندورا، وألهمت كوزوفو الحركات الإقليمية الانفصالية وحركات الهوية الاستقلالية في بقاع شتي في أرجاء المعمورة ، مثل كتالونيا في إسبانيا ، وكردستان في العراق وكورسيكا في فرنسا ، وفي ذات الصدد تابع العالم لأسابيع المظاهرات العنيفة في كتالونيا – إسبانيا و التدخل الفوري للجيش الإسباني فضلا عن المحكمة العليا في مدريد و أجهضت أكبر محاولة لانفصال كتالونيا عن البلد الإيبيري.
هناك خمس دول في الاتحاد الأوروبي لا تعترف بكوسوفو كدولة، حيث يعد استقلال صربيا المعلن من جانب واحد أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت بعض الدول الأوروبية إلى عدم الاعتراف بهذه الجمهورية. بالنسبة لهذه البلدان ، فهي جزء آخر من صربيا ، حتى يتم التوصل إلى اتفاق كامل وتصحيح الإعلان.
اسبانيا لا تعترف بكوسوفو : واحدة من دول الاتحاد الأوروبي الخمس التي لا تعترف بهذه الجمهورية هي إسبانيا ، فحالة كوسوفو متشابهة لحد كبير التشابه مع الحالة الكاتالونية ، وذلك على الرغم من أنه من الواضح أن إسبانيا ليست صربيا والوضع مختلف تمامًا.
قبرص أيضا ليس لديها كوسوفو على الخريطة، فالبلد المنقسم بسبب اجتياح الأتراك للخاصرة الاوربية الضعيفة في عام 1974 يخلق حساسيتين قوميتين مختلفتين ، ولهذا السبب ، لم توافق على إعلان الاستقلال هذا.
يرتبط اليونان بصربيا قوميا وتاريخيا وينحاز إلى جانب الأراضي المتضررة من هذا الصراع بين القوميات، وهي إحدى الدول الخمس التي لا تعترف بكوسوفو على هذا النحو، مثل سلوفاكيا ، التي تتمتع بعلاقات قوية مع صربيا ولا تريد حاليًا الاعتراف بإعلان استقلال هذا الجزء من الإقليم.
تخشى رومانيا ، التي تضم عددًا كبيرًا من السكان المجريين ، من احتمال انتشار إمكانية إعلان الاستقلال وصولاً إلى أراضيها ، مما يؤدي إلى تمزيقها كما حدث مع صربيا.
المزاعم التاريخية والدينية تؤجج الصراع
بالنسبة للصرب القوميين ، لا تزال كوزوفو تمثل الأرض المتنازع عليها تاريخيًا ، كما تمثل كوسوفو بالنسبة للصرب “موطنًا” لسكانهم الأصليين ولألبان كوسوفو مهد الإيليريين في العصور القديمة، وعلى مر القرون ، كان هناك العديد من النزاعات القانونية والإقليمية هناك، لكن تبقى الحقيقة الآن وهي أن كوزسوفو صارت دولة سيدة ومستقلة منذ ما يقرب من عقدين.
تزعم صربيا أن كوسوفو تهدد السلام بين البلدين، لذا فإن احتمالية عودة الصراع من جديد لن يتطلب سوى نقطة اشتعال واحدة لإخراج أزمة كاملة عن السيطرة، فقد وضعت المدن ذات الأغلبية الصربية في شمال كوسوفو لافتات وملصقات تنتقد فشل المفاوضات خلال العقد الماضي، وعلى الجانب الآخر رفع ألبان كوسوفو أعلام جيش تحرير كوسوفو، وهو الجيش الذي قاتل الصرب في حرب كوسوفو عام 1998، والذي تصفه صربيا بأنه منظمة إرهابية.
بداية التوتر المستجد مع جمهورية الجبل الأسود
المفارقة هنا أنّ التوتّر تصاعد بشكل مفاجئ بين صربيا من جهة، وجمهورية الجبل الأسود وإقليم كوسوفو من جهة أخرى، خلال شهر أيلول/سبتمبر.
العلاقة بين جمهورية صربيا وجمهورية الجبل الأسود، التي استقلت عن صربيا بشكل رسمي في العام 2006، اكتنفتها دوماً صراعات مكتومة، اختلطت فيها الاعتبارات العرقية والدينية، فقد تصادم المتظاهرون في الجبل الأسود في أوائل الشهر مع الشرطة في مدينة “سيتيني”، بسبب تنصيب الكنيسة الأرثوذوكسية الصربية للمطران جانيكجي الثاني على رأس الكنيسة الأرثوذكسية في جمهورية الجبل الأسود، والتي ما زالت تتبع عملياً الكنيسة الصربية رغم استقلال الجمهورية. وبالتالي، أعاد تعيين المطران الجديد فتح هذا الملف، الذي يعتبره سكان جمهورية الجبل الأسود وسيلة من وسائل ممارسة بلغراد تأثيرها في الجمهورية، وخصوصاً أنّ عملية تنصيب المطران كانت بالتوافق بشكل كامل مع سلطات جمهورية الجبل الأسود.
على الرغم من اعتراف صربيا باستقلال جمهورية الجبل الأسود، التي تحظى بعضوية حلف الناتو، لا يزال البلدان يتشاركان العديد من الخلافات، وخصوصاً في ما يتعلق باعتراف جمهورية الجبل الأسود باستقلال كوسوفو، وكذا الخلاف حول اسم اللغة المستخدمة في أراضي الجبل الأسود، بالنظر إلى أن المكون الصربي داخل الجمهورية يصل إلى ثلث السكان، وهو ما يخلق توترات مستمرة في النسيج الداخلي لهذه الجمهورية.
تصاعد النزعة القومية مرة أخرى في صربيا
في منتصف سبتمبر الماضي، قام الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، وزعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك، وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الصربية بورفيريج، بتدشين تمثال في العاصمة الصربية بلغراد لأحد رهبان القرون الوسطى، والذي حكم الأراضي الصربية خلال القرن العاشر الميلادي، وهو ستيفان نيمانيا، الذي يحظى برمزية تاريخية مهمة في الذهنية الصربية. خلال هذا التدشين، تم إعلان عطلة وطنية جديدة في جمهورية صربيا، تحت اسم “يوم الوحدة والحرية والعلم الوطني”.
حملت الخطابات التي أُلقيت في حفل التدشين ملامح واضحة للرؤية الرسمية الصربية للوضع الحالي في منطقة البلقان، إذ تغلب على هذه الرؤية نظرة حزينة وغاضبة لتفكك الاتحاد اليوغسلافي، تعتبر أن تفكيك هذا الاتحاد كان بمثابة ظلم للقومية الصربية بشكل عام، وانتصار غير مستحق للألبان والبوسنيين.
لذلك يعتبر الخلاف الذي لم يتم حله بين كوسوفو وصربيا حول استقلال الأولى أكبر مصدر لعدم الاستقرار في غرب البلقان، فبينما كانت بلغراد وبريشتينا في حالة سلام منذ عام 1999، ومن خلال الوساطة التي يقودها الاتحاد الأوروبي توصلت إلى حلول معينة لتسهيل التجارة وإدارة الحدود، بينما في الخلفية يستمر الخلاف بينهما حتى يتوصل الطرفان إلى اتفاق يعالج اثنين من القضايا الرئيسية، الأولى تتعلق بعدم اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو، وما يصاحب ذلك من رفض كوسوفو الاعتراف بصربيا، والثاني يتعلق بمن سيحكم الطوائف ذات الأغلبية الصربية في كوسوفو.
الداخل والخارج يُصَعِدان من الاضطراب
تعدَّدت الدوافع التي تبرر الاستنفار الصربي السريع ضد كوسوفو خلال الفترة الماضية، منها الدوافع الداخلية، فالانتخابات الرئاسية والبرلمانية في صربيا باتت قريبة، وهذا ربما يفسر لعب الرئيس الصربي على الوتر القومي خلال الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً حين صرح قائلاً: “لن يتعرَّض صرب كوسوفو للقتل مرة أخرى”، وهو التصريح نفسه الذي أدلى به الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش في العام 1987، قبيل أيام قليلة من الهجوم على عاصمة كوسوفو “بريشتينا”.
العامل الخارجي في هذا الملفّ له التأثير الأكبر، فقد كان ملحوظاً خلال السنوات الماضية أن روسيا تحاول استخدام صربيا بالطريقة نفسها التي يستخدم فيها حلف الناتو بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، بحيث تكون بلغراد بمثابة خنجر روسي في خاصرة الاتحاد الأوروبي الذي كان يخطط لضمّ صربيا إليه.
لذا، لم يكن مستغرباً تصريح وزير الداخلية الصربي ألكسندر فولين منذ أيام حول التزام صربيا بما سماه “الحياد العسكري”، وعدم انضمامها إلى حلف الناتو أو تقديم الدعم لأية عقوبات ضد روسيا، وخصوصاً أن موسكو كانت على طول الخط مؤيدة لوجهة النظر الصربية في ما يتعلّق بملفّ كوسوفو.
الناتو يتدخل
يمكن الزعم إنَّ بلغراد باتت في مرحلة صعود لافتة بدعم من روسيا والصين، اللتين وجدتا في ما كان سابقاً القلب النابض للاتحاد اليوغسلافي فرصة لفتح جبهة جديدة أمام حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وخصوصاً في ظلِّ تراجع اهتمام الإدارة الأميركية الحالية بمنطقة البلقان، وتباين وجهات النظر الأوروبية تجاه العلاقة مع روسيا، وهو ما قد يفتح الباب في أي وقت لاندلاع نزاع واسع النطاق بين صربيا وجمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، وخصوصاً الجبل الأسود وكوسوفو، وفي الوقت نفسه يقرب هذا الوضع كلاً من موسكو وبكين من دول هذا الاتحاد السابق، التي كانت في الماضي تٌصنّف ضمن المعسكر الاشتراكي إبان الحرب الباردة.
أما عن الحاضر ، فقد صرّحت بعثة الناتو الموجودة في المنطقة الحدودية بين صربيا وكوسوفو إن “الوضع العام في بلديات شمال كوسوفو متوتر”، مؤكدة أنها ستكون “مستعدة للتدخل إذا تعرض استقرار المنطقة للخطر”، ويوم الثلاثاء الموافق 2 أغسطس 2022 أزال جنود قوات حفظ السلام مدعومين بطائرات هليكوبتر، سلسلة من الحواجز الموجودة على الطرق التي كان قد نصبها المتظاهرون.
يشار في ذات الصدد أن القوة المعنية الآن في البلقان و المعنية “بإنفاذ السلام ” هي القوات التابعة للاتحاد الأوربي التي تسلمت هذه المهمة ، بشكل رئيسي في جمهورية البوسنة و الهرسك ، من قوات الناتو KFOR التي حلت محل قوة الأمم المتحدة ة للحماية في يوغوسلافيا السابقة 1992-1995.
هل يشعل بوتين حربا أخري في البلقان ؟
بين دعم دوديك العضو الصربي في الرئاسة الثلاثية للبوسنة، ودعم صرب كوسوفو، أثبتت روسيا بنجاح قدرتها على استغلال الانقسامات الطائفية لتجميد وتكثيف الصراعات في البلقان، حيث تنجح الأنشطة الروسية في البلقان في إثارة قلق الغرب، ففي الوقت الذي يبحث فيه الكرملين عن طرق للهجوم على الغرب، سيستمر التدخل في البلقان باعتباره فرصة منخفضة المخاطر لروسيا لتهديد أمن أوروبا، وسيستمر المسؤولون الموالون لروسيا في البوسنة وصربيا في تعزيز المصالح الإقليمية الروسية مقابل الدعم الدبلوماسي، لذلك يتم دعم روسيا للشتات الصربي إلى كوسوفو والبوسنة، لتأخير حل النزاع الصربي الكوسوفي البوسني، فهذا الخلاف مهم للسياسة الخارجية لروسيا.
كما عارض بوتين في السابق تدخل الناتو في حرب كوسوفو عام 1999، طرح بوتين مؤخراً سؤالاً حول ما إذا سمح لكوسوفو بالانفصال عن صربيا بدعم الغرب، فلماذا لا يمكن لشبه جزيرة القرم وإقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصال عن أوكرانيا؟
وتعليقاً على الأحداث الأخيرة في كوسوفو، صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية واصفاً الكوسوفيين بالمتطرفين، وبأنهم يتخذون خطوة أخرى نحو طرد السكان الصرب من كوسوفو.
وفي نفس التوقيت اتهمت روسيا، وهي من بين 97 دولة عضو في الأمم المتحدة تعترف كوسوفو كجزء من صربيا، أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقف وراء الاستفزازات الحالية في المنطقة، وتحافظ موسكو على علاقات قوية مع صربيا واستضافت العام الماضي بشكل مشترك التدريبات العسكرية “الدرع السلافي” في البلاد، على الرغم من احتجاجات القادة الغربيين.
تجدر الإشارة إلي أن ، عندما أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحرب على أوكرانيا، نزل آلاف الصرب إلى الشوارع في العاصمة بلغراد لإظهار دعمهم، وكان العديد منهم يحملون لافتات كتب عليها “دونباس هي روسيا، وكوسوفو هي صربيا”، وأغرقت وسائل الإعلام الروسية فضاء المعلومات بمقالات تزعم أن التوترات كانت خطأ الغرب، وأعرب العديد من المسؤولين الروس عن دعمهم لصربيا، فقال النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الروسي، فلاديمير دشاباروف، في الأول من أغسطس 2022 إن روسيا يمكنها مساعدة صربيا بالدعم العسكري إذا لزم الأمر.
بلجراد تؤيد موسكو ولا تعادي الغرب
صدق القول أن البلقان منطقة يكون فيها الاصطفاف مع الكتلتين المهيمنتين للواقع الدولي واضحًا جدًا، وفي شأن الاصطفاف الصربي تجاه موسكو فقد تعرض موقف صربيا لانتقادات شديدة من الغرب، وقال مسؤول العلاقات الخارجية الخاص بالبلقان في الولايات المتحدة الخارجي الأمريكي هويت بريان يي : ” لا تستطع صربيا الجلوس على كرسيين في آن ” ، مشيرا إلى عدم تطبيق الحكومة الصربية للعقوبات على روسيا.
هل الأكمة وراء اللوحة ؟
انفجر التوتر في كوسوفو بين سلطات بريشتينا والأقلية الصربية مرة أخرى بعد أن قررت سلطات كوسوفو تطبيق الاتفاقات المبرمة بين بريشتينا وبلغراد التي أُبرمت في بروكسل بوساطة الاتحاد الأوروبي ، والتي تنص على المعاملة بالمثل للقواعد المتعلقة بوثائق الهوية ولوحات أرقام السيارات.
كانت سلطات كوسوفو ، اعتبارًا من 1 أغسطس ،أصدرت قراراً مفاده ” يجب إعادة تسجيل السيارات ذات اللوحات الصربية والحصول على لوحة ترخيص كوسوفية “، فانفجر التوتر علي الحدود الصربية- الكوسوفية ، ووضعت شاحنات ومركبات ثقيلة مختلفة علي الطرق الرئيسية بين البلدين ، على ما يبدو بمبادرة من المواطنين الصرب ، لمنع حركة المرور نحو معبرين حدوديين احتجاجًا على الحظر المفروض الذي أعلنت سلطات كوسوفو فرضه على لوحات الأرقام الصادرة عن بلغراد .
لقد وصف الرئيس الصربي “ألكسندر فوتشيتش “قوانين كوسوفو الجديدة على أنها عدوانية، ويقول إن التغييرات في لوحة الأرقام هي محاولة “لطرد” الصرب من كوسوفو، بينما قالت كوسوفو وحلفاؤها الغربيون إن معلومات مضللة تنتشر حول إقرار كوسوفو تغيير لوحة أرقام السيارات الصربية التي تدخل كوسوفو.
هل يستطيع الغرب تجنب كارثة جديدة في أوروبا؟
لقد أجّلَت كوسوفو سياساتها الجديدة حول لوحات السيارات بعد ضغوط من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في حين أن المتحدث الرسمي لقوات حلف “الناتو” المتواجدة في المنطقة قال إنه “مستعد للتدخل إذا كانت حالة الاستقرار في المنطقة مهددة”.
إن موقف صربيا يزداد صلابة تجاه الوضع في حدودها مع كوسوفو، ولقد كان الاتحاد الأوروبي يأمل في أن تخفف صربيا من موقفها بشأن كوسوفو مقابل العضوية في الاتحاد الأوروبي، ولكن من المرجح أن يتم رفض هذه الصفقة، فقد انخفض الدعم الصربي لعضوية الاتحاد الأوروبي بعد أن قال الاتحاد الأوروبي إن الاعتراف بكوسوفو شرط مسبق للانضمام على الرغم من وجود خمس دول في الاتحاد الأوروبي، وهي “قبرص واليونان ورومانيا وإسبانيا وسلوفاكيا” يرفضون الاعتراف بكوسوفو.
لقد أصبحت صربيا غير راضية بشكل كبير عن دعوات الاتحاد الأوروبي لها لكي تتماشى مع مطالب وسياسات الاتحاد تجاه خصمها اللدود، وهذه المطالب عززها الغزو الروسي لأوكرانيا حيث إن موقف صربيا من الحرب متناقض فقد تم تجاهل رغبة الاتحاد الأوروبي في انضمامها إلى برنامج العقوبات المفروضة على روسيا، حيث تدعم موسكو مطالب بلغراد بشأن كوسوفو .
ما الذي يمكن فعله لنزع فتيل الخطر؟
في محاولات حثيثة من المجتمع الدولي لنزع الفتيل المحرق في البلقان، طلب ممثل الولايات المتحدة سلطات كوسوفو وحصل منها على تأجيل الإجراءات الأخيرة المتحدة لمدة شهر واحد ، وفي غضون ذلك ، يتعين على الاتحاد الأوروبي ، الذي يقوم بدور الوسيط بين بلغراد وبريشتينا ، أن يتخذ إجراءات بسرعة وفعالية.
يجب أيضا دعم جهود الدبلوماسية الوقائية التي كانت البلقان المسرح الناجع لجهود الأمين العام السادس للأمم المتحدة حين فلحت جهود الدبلوماسية الوقائية في نزع أسفين الحرب بين اليونان والجمهورية المقدونية المستقلة حديثا في عام 1992 عن الاتحاد اليوغوسلافي.