إعداد: أكرم السيد
وسط آمال بأن تنتهي حالة عدم الاستقرار السياسي، اتخذت دولة السودان في الثامن من يناير الجاري أولى خطواتها نحو الوصول لاتفاق نهائي كان قد مهد له توقيع الاتفاق الإطاري بين المكونين المدني والعسكري مطلع ديسمبر الماضي، والذي لاقى ترحيبًا دوليًا وإقليميًا بشكل ملحوظ، ومن المتوقع أن تستمر المشاورات إلى ما يقارب الشهر بشأن التوصل لاتفاق نهائي من شأنه إنهاء الأزمة؛ ومن المتوقع أيضا أن يحسم هذا الاتفاق عددًا من القضايا الجدلية، ونتيجة لذلك فإن ثمة آمال يعلقها المتابعون على المشاورات الجارية في أن تخرج بنتائج إيجابية وتوافقات جدية بين مختلف القوى السياسية تكتب نهاية لفترة انتقالية غير مستقرة امتدت منذ العام ٢٠١٩، لكن ومن ناحية أخرى، فإن ثمة مشككين في جدية نوايا أطراف العملية السياسية في التوصل إلى اتفاق نهائي على الرغم من تصريحاتهم المرحبة، وما بين نظرات متفائلة وأخرى متشائمة، ستكشف الأسابيع القليلة القادمة إلى حد كبير عن ملامح المشهد السياسي السوداني المستقبلي.
اتفاق الخامس من ديسمبر “الاتفاق الإطاري”
جاء توقيع الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر الماضي بعد عدة جولات تفاوضية داخلية بين أطراف العملية السياسية، فضلًا عن دعم دولي وإقليمي كبير أسهم في الوصول إلى هذا الاتفاق، والذي وإن كان اتفاقًا إطاريًا فإنه أتى كمقدمة لتسوية نهائية فيما بعد، حيث تمثل هذا الدعم الدولي في الآلية الثلاثية الدولية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة إيجاد، بالإضافة إلى الآلية الرباعية التي تضم الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والسعودية، والإمارات، بالإضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأوروبي.
ويمكن النظر إلى بنود هذا الاتفاق على صعيدين:
الصعيد الأول يتعلق بالمباديء العامة، والتي تحتاح بطبيعة الحال إلى ما يترجمها على أرض الواقع من قوانين وإجراءات ملزمة، كالبنود التي تنص على أن الدولة السودانية دولة متعددة الإثنيات والأديان واللغات، وكذا المواد التي تتعلق بإرساء الحقوق والحريات، حيث لم يخلو الاتفاق بعد من مثل هذه البنود.
أما الصعيد الثاني فهو يتعلق أكثر بالأوضاع التي أصابت المشهد السياسي السوداني من انسداد واضطراب، عرقلت بدورها استمرار الفترة الانتقالية على النحو المخطط لها، وأبرز هذه البنود، هي أن السلطة الانتقالية المزمع تشكيلها في الأيام المقبلة يجب أن تكون سلطة مدنية ديمقراطية بالكامل ولا مشاركة للقوات النظامية فيها، وضرورة تعزيز حقوق المدنيين في المشاركة المدنية، والالتزام بمبدأ العمل السياسي السلمي ورفض وإدانة وتجريم كافة أشكال اللجوء للعنف والتطرف، واقتصار دور الجيش على المهام الدفاعية بشكل يحول بينه وبين ممارسة كل ما هو سياسي، فضلًا عن منع التداخل بين الجيش والأنشطة الاقتصادية والمضي قدما في اتخاذ الإجراءات اللازمة في الفترة المقبلة لتنفيذ ذلك، والشروع في مشاورات مع مختلف القوى من أجل صياغة دستور للبلاد، وتحديد مدى زمني للمرحلة الانتقالية بأربعة وعشرين شهرًا ابتداء من لحظة تعيين رئيس وزراء جديد، ويعقب انتهاء الفترة الانتقالية إجراء انتخابات شاملة.
هذا وتتضمن الاتفاق بنودًا شملت الإشارة إلى مختلف الملفات كالملف الاقتصادي، وملف السياسية الخارجية وغيرهما، لكن ثمة اهتمام أكبر بقضايا إدارة المرحلة الانتقالية والعلاقة المدنية العسكرية، ولعل ما شهدته الأوضاع المضطربة على مدار الفترة الماضية بين مكوني المشهد السياسي من عسكريين ومدنيين هو ما يجعل قضية إدارة علاقة المؤسسة العسكرية بالقوى المدنية على رأس أولويات هذا الاتفاق.
من اتفاق إطاري إلى اتفاق نهائي
دخلت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري المرحلة النهائية والأخيرة من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي مرتقب، وتعتبر هذه الخطوة على الرغم من عدم خلوها من انتقادات من بعض القوى، بمثابة مرحلة متقدمة تشهدها العملية السياسية في السودان؛ وتجدر الإشارة إلى أن المرحلة الحالية الهادفة للتوصل إلى اتفاق نهائي، تهدف أيضا إلى مناقشة قضايا خمس رئيسية، بعدما تم الاتفاق من حيث المبدأ في الاتفاق الإطاري بين المدنيين والعسكريين على ضرورة تولي المدنيين إدارة المرحلة الانتقالية القادمة، كانت القضايا الخمس هذه قد أجلت التشاورات بشأنها في الاتفاق الإطاري، حتى لا تعكر صفو توقيع الاتفاق، نظرا لكونها قضايا حساسة وبالغة التعقيد وتعتبر جوهر الخلاف بين القوى السياسية والمكون العسكري طيلة الفترة الانتقالية.
تعتبر قضية “العدالة والعدالة الانتقالية” في مقدمة القضايا الخمس الذي تناقشها القوى السياسية المنخرطة في التشاورات الجارية حاليا، ومن شأن قضية العدالة الانتتقالية أن يتم بموجبها إشراك أهالي الضحايا في تقرير مصير قاتلي ذويهم، إما بالعفو عنهم أو تقديمهم للمحاكمة، وبينما يبدي العسكريون تحفظات على هذه القضية ويطالبون بمبدأ العدالة بشكل عام، فإن قوى الحرية والتغيير تدافع بضراوة عن هذه القضية، باعتبارها مطلبًا أساسيًا لقوى الشارع لا سيما أهالي المحتجين الذين لاقوا حتفهم أثناء التظاهرات.
ومن بين القضايا الخمس، قضية إصلاح المنظومة الأمنية وإعادة هيكلتها، والتي تعتبر قضية تلقى بجدال عميق بين العسكريين والمدنيين على السواء، فبينما يرى العسكريون أن إصلاح المنظومة الأمنية من قوات مسلحة وشرطة وأمن وحمايتها من الاختراقات الحزبية التي كثيرا ما عانت منها المؤسسات الأمنية وبالتحديد في فترة البشير، وأنها قضية يجب أن تتم تحت إشراف عسكري، يعارض المدنيون وجهة نظر العسكريين، ويرون ضرورة أن تتم إعادة الهيكلة تحت سمع وبصر المدنيين.
تفكيك نظام الإخوان، وتعتبر هذه القضية واحدة من أهم القضايا االتي تحتاج إلى حسم، ومنهج عمل واضح في الفترة القادمة، وذلك نتيجة لتغلغل خلايا نظام الإخوان في مختلف مؤسسات الدولة، وبدون مقاومة واضحة له فإن هذا من شأنه أن يجهض أي تحول مدني مرتقب، ويتبلور الخلاف بين العسكريين والمدنيين حول هذه القضية، في أن العسكريين يؤيدون تفكيك نظام الإخوان عبر الأجهزة القضائية، بينما يؤيد المدنيون بأن تتولى لجنة التفكيك، التي تم تجميد أعمالها والتي كانت سببا بفض الشراكة بين العسكريين والمدنيين، مسؤولية تفكيكك النظام السابق.
قضية شرق السودان، وتعتبر حلقة ضمن سلسلة حلقات الصراع القبلي في السودان، ويدور الصراع في قضية إقليم شرق السودان بين قبيلتي “الهدندوة والبني عامر” حول خلافات تتعلق بالتنافس على إدارة الإقليم والتحدث باسمه، ومن المنتظر أن تدار مناقشات بشأن هذه القضية في الاتفاق النهائي الذي يجري الآن.
اتفاق جوبا للسلام، والذي جرى توقيعه في أكتوبر من العام 2020، بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، حيث يخضع هذا الاتفاق للتشاور وإعادة التقييم، لا سيما وأنه قد أعطى بعض الحصص الوزارية للحركات المسلحة مما أسهم في زيادة هذه الحركات سعيا منها في الحصول على حصص وزارية، في المقابل تسعى قوى الحرية والتغيير إلى إسقاط بند تقاسم السلطة مع الحركات المسلحة، ومن المفترض أن تؤدي النقاشات التي تجرى بشأنه حاليًا إلى الخروج بتوافقات بشأن هذا الاتفاق.
الأسماء المرشحة لتولي الحكومة
تلوح في الأفق عدة أسماء قد ترددت الإشارة إليها من أجل تولي رئاسة الحكومة المقبلة، ويأتي هذا في وقت يشير فيه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان إلى رغبة المؤسسة العسكرية في أن تفضي العملية السياسية الجارية إلى المجيء بحكومة من المستقلين، وفي هذا السياق قد رشحت قوى الحرية والتغيير عدة أسماء لتولي منصب رئاسة مجلس الوزراء، ويعد وزير العدل السابق في حكومة عبد الله حمدوك “نصر الدين عبد الباري” من أبرز المرشحين نظرًا لتصاعد القبول السياسي له طيلة الفترة الماضية، كما يعتبر “ياسر عرمان” رئيس الحركة الشعبية والقيادي بقوى الحرية والتغيير من الأسماء المطروحة أيضًا، بالإضافة إلى “محمد عصمت” رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الموحد والقيادي بالحرية والتغيير. وتجدر الإشارة إلى استمرار اسم رئيس الوزراء السابق “عبد الله حمدوك” مطروحًا للعودة من جديد لتولي رئاسة الوزراء، لاسيما في وقت مازال يحتفظ فيه حمدوك بشعبية لم تتآكل؛ فوفقا لاستطلاع رأي أجرته منظمة رصد الرأي العام السودانية في أغسطس من العام الماضي حول أبرز الأسماء التي من الممكن أن تتولى رئاسة الوزراء في الفترة الانتقالية في حال التوصل لاتفاق سياسي، حصل حمدوك على أكثر من ٦٦% من إجمالي الأصوات، وهو ما يشير إلى إن اسم حمدوك لم يخرج بعد من المعادلة السياسية على الرغم من الانتقادات التي نالها أثناء توليه رئاسة الحكومة في المرتين السابقتين. وفي حال تم التوصل إلى اتفاق نهائي وأخير في الأسابيع القادمة، فسوف يتم تسمية رئيس الوزراء الذي يقود المرحلة الانتقالية، ومن الوارد ألا يخرج اسمه عن هذه الأسماء المشارة إليها.
معوقات في طريق التوصل لاتفاق نهائي
على الرغم من إبداء القوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري رغبتها في الوصول لاتفاق نهائي، بالإضافة إلى إبداء المكون العسكري رغبته في الانسحاب من المشهد السياسي وفتح الطريق أمام حكومة مدنية تقود زمام الفترة الانتقالية، علاوة على الدعم الدولي والإقليمي المرحب بجهود تسوية الأوضاع السياسية المضطربة، إلا أن هذا لا يعني الجزم باقتراب انتهاء توترات المشهد السياسي، فلا تزال ثمة قوى سياسية معارضة تبحث التشاورات مع المكون العسكري، وعلى رأس هذه القوى لجان المقاومة التي تقود الحراك في الشارع، إلى جانب أحزاب يسارية، وتجمع المهنيين، وفصائل مسلحة موقعة على اتفاق السلام السوادني، بالإضافة إلى مجموعات متحالفة مع الإخوان، والتيارات الإسلامية؛ وبغض الطرف عن موقف الإخوان والتيارات الإسلامية والمتحالفين معهم من التشاورات الجارية باعتبار أن ثورة ديسمبر 2019 قد قامت على هذه التيارات، وبالتالي فمن المنطقي أن يتم استبعادهم من المشهد السياسي، فإنه لا يمكن تجاهل مواقف القوى السياسية الأخرى المعارضة لأي تفاوض مع المكون العسكري، نظرا لكون هذه القوى من عوامل عدم الاستقرار السياسي في الشارع، حيث تتواصل التظاهرات التي تقودها هذه القوى، لذا فإنه يمكن النظر إليها بمثابة معوق لإتمام اتفاق نهائي مرتقب.
كذلك فإن شرط المؤسسة العسكرية في السودان للخروج من المشهد مقرون بضرورة توافق القوى السياسية، توافقا من شأنه أن يتم من خلاله تسمية رئيس وزراء وتشكيل حكومة لإدارة الفترة الانتقالية، يعقب الفترة الانتقالية إجراء انتخابات تأتي على إثرها حكومة منتخبة يخضع لها الجميع لا سيما المؤسسة العسكرية، وبدون حدوث توافق بين القوى السياسية المنخرطة في التشاورات الجارية وهذا وارد نظرا لاختلافات وجهات النظر بين مختلف القوى السياسية، فإنه لن يؤذن بعد للمرحلة الانتقالية التي ستعقبها انتخابات عامة بالبدء، وبالتالي فإن الأوضاع ستبقى على حالة الاضطراب الحالية ولن تخرج المؤسسة العسكرية من المشهد.
إجمالا.. فإن التطورات التي تشهدها العملية السياسية في السودان بدءا من تشاورات قادت إلى اتفاق إطاري بين القوى السياسية والمكون العسكري وصولا إلى الانتقال من مرحلة الاتفاق الإطاري إلى التشاور بشأن التوصل لاتفاق نهائي هو تطور إيجابي للأزمة بعد سنوات من الثبات على حالة الاضطراب الانتقالي.
وكذلك فإن ثمة فرصة كبيرة أمام مختلف القوى السياسية المدنية -حتى القوى المدنية “المثالية” التي تجعل من هدم كل موروثات النظام السابق أساسًا وشرطًا لدخولها في عملية تفاوضية أن تتوافق فيما بينها، وأن تستغل فرصة إبداء المكون العسكري رغبته في الانسحاب من العملية السياسية عند حدوث التوافق بين المدنيين في أن تتوحد لإنجاح المسار التفاوضي الحالي، لتبدأ السودان على إثر ذلك مرحلة انتقالية جديدة مستقرة تدفعها لإجراء انتخابات منتظرة.