الدكتور أيمن سلامة: أستاذ القانون الدولي وضابط الاتصال السابق فى حلف الناتو في البلقان
فشلت كل المساعدات العسكرية التي قدمها الغرب في الأسابيع الأخيرة لأوكرانيا لردع الغزو الروسي لأوكرانيا، أخفقت أيضا العقوبات الاقتصادية الكبيرة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في أوروبا ودول أخري عديدة في كبح جماح الرئيس بوتين واثناءه عن الاستمرار فيما وَسَمه بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
أفادت الأنباء، في الأسابيع الأخيرة، أن أوكرانيا كانت تدشن ميليشياتها المدنية الخاصة بها تحسبًا لضرورة خوض حرب عصابات في حالة حدوث غزو روسي واسع النطاق، وأمل الرئيس الأوكراني زيليسنكي أن تحشد أوكرانيا الآلاف من مقاتلي حرب العصابات المُدربين ، المستعدين لشن مقاومة مستمرة للاحتلال الروسي ، ويمثل ذلك رادع إضافي لأي غزو.
بادئ ذي بدئ من الضروري الإشارة أن كافة المقاربات النظرية الرقمية التي ذهب إليها الكثيرين من المراقبين ، لم تؤت أي ثمار ، فقد غلبت الحماسة على تنظيراتهم التي ذهبت للزعم بأن الجيش الأوكراني لديه تكافؤ تقريبي مع القوات الروسية المحيطة بالبلاد ، فضلا عن احتلال الأخيرة شبه جزيرة القرم ، ومنطقة دونباس في شرق أوكرانيا ، ناهيك عن أن الميليشيات الشعبية في هذه الكيانات الانفصالية الثلاثة قد شنت هجومها غير المباغت علي القوات الأوكرانية قبل تحرك جحافل الجيش الروسي نحو أوكرانيا .
جَليٌ أن أوكرانيا يمكن نعتها بأضعف خاصرة في الشرق الأوربي، ولذلك لا يمكن مقارنة استعداد جيشها القتالي والتدريبي، وإمكانيات القوات الجوية والصواريخ مع تلك التي تحوزها روسيا العظمي، ورأي الكافة كيف استهدفت المطارات والرادارات و بطاريات الصواريخ المضادة للطيران الأوكرانية في الساعات الأولي من الهجوم الروسي، وقبل ذلك الهجمات السيبرانية الروسية ضد الأهداف الحيوية الأوكرانية سواء أكانت مدنية أم عسكرية.
من المرجح أن تسقط كييف في غضون أيام، فالعاصمة تتعرض لهجوم كاسح من البر والجو والبحر، وتزامن ذلك الهجوم مع معاناة إنسانية مروعة بين المدنيين الأوكرانيين الأبرياء.
في السياق الأوكراني فإن غزو بلد ما والإطاحة بحكومته يختلفان تمامًا عن هضمها، فالأنباء تشير إلي وجود مقاومة شعبية نسبية في العديد من المدن الرئيسية في أوكرانيا، ولكن تظل اعتبارات الغلبة في النهاية لمدي توافر المتطلبات الرئيسية التي تحدد نجاح حرب العصابات، مع عدم إهمال المستجد الأخير.
لا يجمع الشراح والخبراء على تعريف حصري لمفهوم حرب العصابات، ولم يُسبر المصطلح حتى الآن السبر المطلوب، لكن السائد بين الفقهاء أن مصطلح “حرب العصابات” كلمة مشتقة من اللغة الإسبانية “الحرب الصغيرة”، وتتوافق في مضمونها في اللغتين الفرنسية والإنجليزية المستخدمتين في القرن الثامن عشر «الحرب الصغيرة»، وفى اللغة الألمانية “المعركة السرية”، وفى اللغة الروسية “حرب التخريب”.
إن اختلاف التسميات و التعريفات لحرب العصابات لا يعدم أهم الخصائص المُحددة جيدًا لحرب العصابات ، ومن بين هذه الخصائص: الكفاح المسلح لمجموعات صغيرة جدًا تحارب العدو الأكثر تسليحا وتنظيما وعتادا، مع استقلالية تكتيكية معينة لمن يخوضون هذه الحروب الخاصة غير النمطية، فحروب العصابات تشنها وحدات صغيرة ومنفصلة تشكل مجموعات حرب تقاوم العدو باستقلالية ملحوظة، ولكن تتعاون مع القوات المسلحة النظامية أو تكون جماعات إرهابية أو عصابات أو ميليشيات حزبية تنتمى لأحزاب سياسية في الأساس، وتتبع هذه المجموعات القتالية الخاصة تكتيكات القتال الخاصة لهذه المجموعات أو الوحدات الصغيرة، والتي تتميز بأقصى قدر من الحركة والسرعة، من خلال اتصالها السريع بالعدو بسرعة البرق من خلال هجمات سريعة مباغتة تبغت العدو وتشل إرادته وتفكيره وتخطيطه للمعارك المقبلة.
يُعد المثال الجيفارى للمناضل الكوبي «تشي جيفارا» المثال الصارخ تكتيك «اضرب واهرب» الذى تتبعه منذ عقود خلت كافة المجموعات والميليشيات التي تتبع ذات الاستراتيجية والتكتيك، فضلا عن القوات الخاصة «الكوماندوز» للجيوش النظامية. لا يقتصر شن حروب العصابات على المهارات والخصائص العسكرية العالية للعناصر التي تخوض مثل هذا النوع من الحروب، ولكن الإيمان الراسخ بعدالة القضية التي يحارب من أجلها هؤلاء يمثل حجر الأساس بل عمود الرحى الذى تتمحور حوله المفاهيم والمحددات وعوامل نجاح حروب العصابات، بل والفترة الزمنية التي تخوضها هذه المجموعات وإن كانت تمتد لفترة طويلة نسبيا مقارنة بالحروب والمعارك النظامية التي تخوضها الجيوش النظامية للدول ذات السيادة.
حرب العصابات هي نوع من الحرب غير النظامية التي تشمل مقاتلين شبه عسكريين أو مدنيين مسلحين أو غيرهم من العناصر غير النظامية في القتال ضد خصم عسكري تقليدي. قد تستخدم هذه العصابات من المقاتلين غير النظاميين تكتيكات بما في ذلك نصب الكمائن وغارات الكر والفر والتخريب. والحرب الصغيرة، وبشكل عام، تُعد جيوش حرب العصابات أقل عددًا بكثير من الجيوش التقليدية، لذلك يتعين عليها استخدام القدرة على الحركة للحصول على ميزة عليها.
شهد القرن العشرون التطور التاريخي لظهور الأمارات الأولى لحرب العصابات، فيعد ذلك القرن المرآة العاكسة التي تبرز التراكم الضخم لتطور هذا النوع من الحروب منذ العصور القديمة واستمراره دون انقطاع عبر العصور الوسطى إلى العصر الحديث والمعاصر.
تشير الملامح الرئيسية لحروب العصابات إلى شكل النضال الذى اختاره أولئك الذين يعتقدون أنهم يستطيعون نشر قواتهم بأكثر الطرق فاعلية ووظيفية، فحرب العصابات حرب تمرد وتحرر وطني واجتماعي، وهى أيضا حرب شعبية شاملة، كما أنها مقاومة مسلحة ضد سيطرة أجنبية أو ضد نظام بغيض، ولكن لا يمكن اختزال حرب العصابات في منظور أو مفهوم حصريين، فهي ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية ونفسية، وهى عمل فريد من نوعه ولد من أعماق المجال المدني، وفى ممارسته يتحول إلى طاقات سياسية – عسكرية يمكنها تغيير هياكل المجتمع بأسره بعنف وإنشاء علاقات قوة جديدة بشكل عام في مجال السلطة.
أما إثيوبيا فقد شهدت المفارقات الأكثر عدداً وغرابة في ذات الوقت لحروب العصابات التي شهدتها دولة واحدة، ولن تقتصر بالطبع على الحروب التي خاضتها ميليشيات التيجراى ضد الجيش النظامي الإثيوبي، فحروب العصابات في إثيوبيا هي التي هزمت الغازي المحتل الإيطالي في نهاية عام 1941، وهى ذات الحروب التي أسقطت بعد نيف وثلاثين عاما الإمبراطور هيلاسيلاسى، ثم نجحت ميليشيات تيجراى في صد العدو الإريترى بنهاية الحرب الإريترية الإثيوبية، بعد أن كان التيجريون تحالفوا مع الإريتريين فى إسقاط «منجستو» في العاصمة أديس أبابا عام 1991.
أيضا يعد من بين أبرز ممارسي تكتيكات حرب العصابات الثوري الماركسي “تشي جيفارا”، الذي كتب كتيبه الخاص حول هذا الموضوع – بعنوان حرب العصابات ببساطة – في عام 1961.
لا يمكن في اللحظة الآنية الجزم بكم وكيف المقاومة الشعبية الأوكرانية التي تتبنى تكتيكات حرب العصابات ضد الجيش الروسي، لكن من المرجح أن يقاتل السكان الأوكرانيون ضد القوات الروسية إذا كانت توافر لديهم أسلحة ومعدات للقيام بذلك.
خُبِرت أوكرانيا بحرب العصابات حيث ينبئنا التاريخ أن قوة من مقاتلي حروب العصابات الأوكرانية خاضوا حرب عصابات ضد قوات أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد دحر النازي بقي البعض من هذه القوة في الغابات الأوكرانية لمقاومة قوات جوزيف ستالين بعد ذلك.
تدعم الجغرافيا الأوكرانية، مثل سكانها، فُرص نجاح التمرد ضد القوات الروسية ولكن لحد نسبي قصير بالنظر لضخامة القوات المسلحة الرئيسية وتفوقها الكمي والنوعي على الأوكرانيين ، كما توفر الخطوط الساحلية على البحر الأسود وبحر آزوف سبلًا إضافية للدعم الخارجي، وهذا كان الباعث الرئيسي الذي فطر إليه الدب الروسي في التمدد بقواته البرية والبحرية نحو السواحل الأوكرانية لقطع الطريق أمام أي إمداد بحري للأوكرانيين بالعتاد والسلاح.
في المقابل توفر سهول أوكرانيا الفرص السانحة لإمداد مقاتلي حرب العصابات الأوكرانيين بأي مد خارجي لهؤلاء الذي يمكن أن تشكل الجبال أو الأدغال ملاذات آمنة يتطلقوا منها في غاراتهم المباغتة ضد الجيش الروسي، ولن يتحقق أي من ذلك إلا عندما تلوح جدوى حرب العصابات ضد الدب الروسي.
إن اتساع اليابسة الأوكرانية – ثاني أكبر الدول الأوروبية مساحة – ووجود العديد من المدن وخطوط الاتصال الجيدة للقوى الغربية الصديقة تشير جميعها إلى أن الحصول على الدعم للمقاومين الأوكرانيين لن يكون أمراً صعبًا، علي الأقل حتي هذه اللحظة .
يعيد التاريخ نفسه، ولا مشاحة، فبينما تقوم موسكو هذه المرة باجتياح أوكرانيا، قامت بذات الفعلة في عام 1939 لكن ضد فنلندا في الحرب الموسومة بحرب بموسكو الشتوية 1939-1940. فبعد أسبوعين من الهجوم السوفيتي الضخم غير المبرر حينئذ ضد فنلندا، احتشد الرأي العام العالمي في صف الفنلنديين، وأفضي تأثير الرأي العالمي لطرد الاتحاد السوفيتي من عصبة الأمم.
إثر الاجتياح السوفيتي لفنلندا ذهب حوالي 12000 متطوع من الأنصار الأجانب لمساعدة الفنلنديين ، بما في ذلك 350 فنلنديًا من أصل أمريكي ،متأسين في ذلك بالدعم الشعبي الضخم من دول عديدة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936-1939 لنصرة الجمهورية ضد الوطنيين بقيادة الجنرال الإسباني فرانكو ، لكن بريطانيا وفرنسا ، الحليفان الأوروبيان الرئيسيان لفنلندا ، فشلا في تقديم مساعدات عسكرية للدولة الضحية ، وفي نهاية المطاف واجهت فنلندا الاتحاد السوفيتي بمفردها كما تواجه الآن أوكرانيا روسيا الاتحادية الدولة الخَلف للاتحاد السوفيتي السابق .
رغماً من أن الأرقام لا تستشرف النهايات في كل الظروف والأوقات، لكن لزاما علينا التذكير بالبدايات في سياق حرب العصابات التي ادارتها فنلندا و أنصارها ببسالة واقتدار ضد جحافل الجيش السوفيتي العرمرم ، فقد ناهز عدد سكان الاتحاد السوفيتي 168.5 مليون نسمة أي 45 ضعف عدد سكان فنلندا البالغ 3.7 مليون نسمة، و كان لدى السوفييت 100 ضعف عدد الدبابات و 30 مرة من الطائرات الحربية مثل فنلندا.
أطلق ستالين أربعة جيوش مؤللة يبلغ مجموعها نصف مليون جندي ضد فنلندا، وأمرهم بالتوقف عند الحدود الغربية لفنلندا مع السويد، وتمني الجنود السوفييت وقائدهم الأعلى ستالين اشتهاء الرنجة المقلية في ولائم النصر في العاصمة هلسنكي، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، و أضحت الرنجة الفنلندية الشهيرة ذاتها أضغاث أحلام، حيث دخل الجيش الأحمر في كابوس مزعج جثم علي صدور مقاتلي الجيش الأحمر في فنلندا لمدة 105 أيام. لجأ الفنلنديون إلى استخدام تكتيكات حرب العصابات، ففلحوا في عزل الوحدات السوفيتية، وقطعوا خطوط إمدادهم ، وتحكموا في عقود المواصلات الحاكمة ، وحرموا الجنود من الزاد و العتاد ، فمنعوا عنهم الطعام و الوقود وغيرها من يعوزه المقاتل في الحرب .
قاتلت العناصر الفنلندية الخاصة في ظلام شبه تام لشتاء القطب الشمالي، و على جبهة برية مترامية الأطراف ناهزت حوالي 1000 ميل، واجه المقاتلون الفنلنديون الدبابات، مما أدى إلى تعطيلها باستخدام الأدوات البدائية مثل زجاجات المولوتوف، فقامت الشركة الفنلندية الوطنية المنتجة للكحول في فنلندا بإنتاج كميات كبيرة من زجاجات المولوتوف كي يستخدمها أبطال حرب العصابات، وبدون مُرية عوضت “روح حرب الشتاء” الأرقام غير المتكافئة بين الجحافل السوفيتية والمقاومة الفنلندية بشكل كبير.
يكاد يجمع المؤرخون على الخسائر التي وقعت في صفوف المتحاربين، فبعد ثلاثة أشهر من الحرب، ففي حين خسرت فنلندا 70000فرد بين قتلى أو جرحى أو مفقودون؛ فقد الاتحاد السوفيتي 350.000، وخسرت فنلندا 62 طائرة، وفي المقابل خسر الاتحاد السوفيتي 500 طائرة، أما عدد الدبابات المفقودة في فنلندا فناهزت 25 ؛مقابل 2500 في صفوف الاتحاد السوفيتي .
لا جرم أن المبتهج الأول بالأداء الضعيف للجيش الأحمر في فنلندا كان النازي هتلر، فشجع ذلك هتلر على شن عملية “بربروسا” ضد الاتحاد السوفيتي في عام 1941 ، وحينها أطلق هتلر عبارته الشهيرة الساخرة: “علينا فقط أن نركل الباب ، وسوف ينهار الهيكل الفاسد بأكمله”.
في حين أن بوتين قد يتجاهل دروس حرب الشتاء، فإن الأوكرانيين يحسنون صنعاً إذا تصرفوا بناء على كلمات” إميل مانرهايم “، القائد العام لفنلندا في زمن حرب الشتاء ضد الجيش الأحمر السوفيتي “الحصون والمدافع والمساعدات الخارجية لن تساعد إلا إذا كان كل رجل يعرف ذلك هو حارس وطنه”.
تشكلت وحدات المقاومة الأوكرانية بشكل عضوي وعفوي في عام 2014، وغالبًا ما تم تمويلها من قبل الأوليغارشية في القطاع الخاص، بدلاً من الدولة، و منذ ذلك الحين، نَظّمت أوكرانيا و أدرجت العديد من هؤلاء غير النظاميين في نسيج خططها الدفاعية.إن شبح حمل جميع المواطنين السلاح في لحظة فوضوية مرعب بالنسبة لأوكرانيا كما هو الحال بالنسبة لروسيا، كما يمكن لمثل هذه الفوضى أن تفيد روسيا في آن، كما فعلت في فبراير 2014 عندما انتزعت روسيا شبه جزيرة القرم في ضربة خاطفة.
ختاماً ، من المحال قصر العوامل العسكرية المحضة بوصفها العوامل الحاسمة في نجاح أو اخفاق أية مقاومة شعبية أوكرانية ضد الجيش الروسي دون اعتبار للعوامل الداخلية – الخارجية و أهمها المتغير الأهم و المتمثل في احتمالية مفاوضات مباشرة بين المتحاربين الروس و الأوكرانيين في العاصمة البولندية ، ويظل العامل فوق الوطني والعابر للحدود و المتمثل في تأثير الرأي العام العالمي المؤيد للضحية الأوكرانية التي وقعت بين كفي الرحى : الدب الروسي في الشرق و اليانكي الأمريكي في الغرب .