إعداد: مروة سماحة
المقدمة:
على هامشِ مُنْتَدَى الاقتصاد العالمي في دافوس بسويسرا، صرَّح رئيس الوزراء العراقي، محمد شيَّاع السوداني، أن هناك حاجةً إلى حوارٍ فوريٍّ بين العراق والتحالُف الدولي؛ لمحاربة تنظيم “داعش”، بقيادة الولايات المتحدة؛ للتوصُّل إلى اتفاقٍ لإنهاء مهمتهم.
وبالرغم من أن تلك الأُطروحة ليست الأُولى من نوْعها، فقد تعهَّد “السوداني”، عند تشكيل حكومته، في أكتوبر 2022، أمام البرلمان ببدْء محادثاتٍ؛ لإنهاء وجود التحالُف الدولي، إلا أن التوقيت له دلالةٌ كبيرةٌ؛ فهناك احتقانٌ عراقيٌّ كبيرٌ إزاءَ القوات الأمريكية؛ بسبب دوْرها المماطِل في الحرب على غزة، فضلًا عن تواصُل التوتُّرات في الأسابيع الأخيرة، بين القوات الأمريكية والميليشيات الشيعية، المدعومة من إيران؛ حيث تشُنُّ الميليشيات التي تعمل أيضًا تحت مِظَلَّة مجموعةٍ تُديرها الدولة، تُسمَّى قوات “الحشد الشعبي”، هجمات شِبْه يومية بطائرات بدون طيار، وصواريخ ضد القوات الأمريكية في العراق، وردَّ الجيش الأمريكي بضرباتٍ جويةٍ؛ أسفرت عن مقتل أكثر من عشرة مسلحين، وفقًا لمسؤولين حكوميين وقوات “الحشد الشعبي”، كما هاجمت الميليشيات المتحالفة مع إيران قواعد أمريكية في سوريا المجاورة، وسط تصاعُد التوتُّرات في جميع أنحاء المنطقة، وعلى أثر ذلك، ندَّدت الحكومة العراقية بهجمات الميليشيات، ووصفتها بأنها “أعمال إرهابية”، و كذلك اعتبار الضربات الأمريكية “انتهاكًا للسيادة العراقية”، فضلًا من أنها تدفع بالعراق نحو الهاوية؛ لتكون فاعلًا في حرب غزة رغمًا عنها، كذلك طالبت بانسحاب القوات الأمريكية وإنهاء مهمة التحالُف الدولي، الذي تشكَّلَ عام 2014؛ لمحاربة تنظيم “داعش”، وتقديم التدريب والاستشارات للقوات العراقية.
تَبِعَات التواجُد الأمريكي في العراق
الجدير بالذكر، أن الهدف الرئيسي للقوات الأمريكية في العراق كان تدريب وتقديم المشورة للجيش العراقي، مع توفير غطاءٍ جويٍّ للقوات العراقية والفصائل المسلحة، وبتلك الوتيرة استمر الوجود الأمريكي بحوالي 2500 جندي، حتى نهاية 2021، مُركِّزًا على تعزيز القدرات العراقية، وتحقيق الاستقرار في المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم، بينما استمرت العمليات ضد المواقع التنظيمية في غرب البلاد، وعبْر الحدود مع إقليم كردستان.
ويُمثِّلُ شهر مارس القادم، الذكرى الـ 21؛ لبدْء الغزو الأمريكي للعراق، الذي جاء في أعقاب الخطاب الشهير ، الذي ألقاه الرئيس، جورج بوش، والذي أعلن فيه إطلاق عملية “حرية العراق”، وأخبر العراقيين أن “يوم تحريركم قريب”، إلا أن التدخُّل العسكري الأمريكي، أثبت أنه بعيدٌ عن إنشاء مَعْقَلٍ للديمقراطية في الشرق الأوسط، فترك العراق في حالة يُرْثَى لها، غارقًا في الأزمات الاقتصادية، والفساد، ونقْص الطاقة، ناهيك عن تَبِعَات الطائفية والعنف.
وبعد قُرَابة مرور 21 عامًا، ولا تزال المنطقة تعاني من التوتُّر والتنافس، وأدَّت الانقسامات الطائفية خلال العقْد الماضي إلى ظهور جماعات متطرفة، مثل تنظيم القاعدة في العراق، الذي تحوَّل فيما بعد إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ويظل إقليم كردستان العراق يتمتع بالحكم الذاتي عن بغداد، في حين كانت إيران المستفيد الرئيسي من الغزو الأمريكي، التي لا تزال تهيمن على البلاد حتى الآن، حتى في حين تعمل على تعزيز الجماعات المتحالفة معها في مؤسسات الدولة العراقية، وبعيدًا عن كونه نموذجًا ديمقراطيًّا، فقد تحوَّل العراق إلى قصةٍ تحذيريةٍ من العواقب غير المتوقعة للتدخُّلات العسكرية الغربية في البلدان العربية.
دلالات وتَبِعَات تصاعُد حِدَّة الاشتباكات بين القوات الأمريكية والفصائل العراقية في الآونة الأخيرة
في بداية يناير الجاري، شنَّ الجيش الأمريكي هجومًا واعرًا ضد “حركة النجباء”، التي تعتبرها أمريكا الأكثر تشدُّدًا من بين فصائل قوات “الحشد الشعبي”، وقد آلَ ذلك الهجوم إلى مقتل أحد قادة الحركة الملقب بـ “أبو تقوى”، وكان ذلك الهجوم ردًّا على ما تعرَّضت له القواعد الأمريكية في العراق وسوريا في الآونة الأخيرة من هجمات، توازيًا مع الحرب بغزة في الهجمات الأخيرة ضد القوات؛ فقد شنَّت الميليشيات المدعومة من إيران ما لا يقل عن 120 هجومًا ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا منذ 17 أكتوبر 2023؛ حيث أدَّى أحد هذه الهجمات إلى إلْحاق جروحٍ خطيرةٍ بأحد عناصر هذه القوات، وكان “أبو تقوى” يتولَّى منصب نائب قائد عمليات حزام بغداد في “الحشد الشعبي”، وبحسب المعلومات الاستخباراتية الأمريكية، فإن “أبو تقوى” و”حركة النجباء” يقع على عاتقهم مسؤولية ثلثيْ الهجمات ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، منذ بداية عمليات الاستهداف، وأمَّا بالنسبة لاعتبارات واشنطن، فإن “أبو تقوى” كان مُتورِّطًا في توزيع الأسلحة الإيرانية المخزَّنة في بغداد، إلى جانب مسؤوليته عن عمليات “حركة النجباء” الأخيرة، ضد القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وقد أفادت التقارير إلى أن “أبو تقوى” كان قد توجَّه إلى سوريا، في زيارةٍ قبل أيامٍ بسيطةٍ من مصرعه.
وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار أن الاستهداف الأمريكي الأخير لمقر “الحشد الشعبي” في بغداد، أحدث تحوُّلًا في الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع الفصائل المسلحة في العراق، هذا التغيير تجلَّى عبْر عِدَّة مراحل، منذ بداية الهجمات في أكتوبر 2023، وارتبط بتصاعُد التوتُّر في غزة، ويمكن توضيح تلك التوتُّرات على ثلاث مراحل كما يلي:
المرحلة الأولى: شهدت توجُّهًا أمريكيًّا أوَّليًّا، يتمثل في ضرباتٍ جويةٍ محدودةٍ ضد فصائل مسلحة مرتبطة بإيران، مع التركيز على استهداف مخازن الأسلحة، تجنَّبت الولايات المتحدة إيقاع خسائر بشرية، وأعطت الأفضلية للجهود الدبلوماسية لوقْف التصعيد.
المرحلة الثانية: شهدت توسُّعًا في نطاق الاستهدافات؛ حيث تمَّت توجيهها إلى العراق للمرة الأولى، مع تغييرٍ في نوعية الأهداف إلى استهداف مقرات الفصائل المسلحة، وتكثيف العقوبات على بعض الميليشيات، بما في ذلك تصنيف جماعة “سيد الشهداء” كتنظيمٍ إرهابيٍّ عالميٍّ.
المرحلة الثالثة: تُمثِّلُ المرحلة الحالية في توسيع نطاق الاستهداف الأمريكي؛ للتأثير على هيكل القيادة الفصائلية العراقية، من خلال قتْل قادةٍ عسكريين، والتأثير على قدرتها على مهاجمة القواعد والقوات الأمريكية.
دوافع استهداف “أبو تقوى”، قيادي في “حركة النجباء”:
- تصاعد الهجمات على القوات الأمريكية منذ أكتوبر 2023، شهدت القوات الأمريكية هجمات متكررة من فصائل مرتبطة ارتباطًا ذريعًا بإيران؛ حيث تعرَّضت القوات الأمريكية لنحو 120 هجومًا في سوريا والعراق، تنوَّعت بين الصواريخ والطائرات المسيرة.
- فشل واشنطن في فرْض الرَّدْع: أظهر استمرار الهجمات فشل آلية الرَّدْع الأمريكية؛ حيث لم تحد الردود المحدودة من تكرار الهجمات، ولم تؤثر الهجمات المباشرة على مقارّ الفصائل في موقفها تجاه القوات الأمريكية، رغم الخسائر التي تكبَّدُوها؛ ما يُبْرِزُ النقائص في إدارة الأزمة.
- عجْز الحكومة العراقية عن كبْح هجمات الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، وهو ما أثار قلقًا في الولايات المتحدة؛ حيث يتزايد الضغط الداخلي على الرئيس الأمريكي؛ لاتخاذ ردٍّ حازمٍ، تتسارع التطوُّرات في ظلِّ تصاعُد التوتُّرات، ويواجه “بايدن” تحديات داخلية، تتمثل في اتهاماتٍ بالضعْف في مواجهة التحديات الأمنية، مع خوْفٍ من استخدام الموضوع في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويمكن الإشارة إلى أن تزايد الضغط السياسي على الحكومة العراقية يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولها: يكْمُنُ في الفصائل المسلحة ذات التأثير الكبير في البرلمان، التي تستخدم نفوذها السياسي؛ لفرض ضغط على الحكومة؛ لاتخاذ مواقف أشدّ تصلُّبًا تجاه القوات الأمريكية، ثانيها: هو قرار البرلمان رقم 18 لسنة 2020، الذي يُلْزِم الحكومة بإخراج القوات الأمريكية من العراق، ورغم ذلك، لم تُنفِّذْ الحكومة هذا القرار حتى الآن، وأخيرًا: الارتباط الوثيق بين بعض الفصائل المسلحة والتحالُف السياسي الرئيسي، يُعزِّزُ الضغط على الحكومة؛ لاتخاذ إجراءات أكثر حزْمًا.
أدانت الحكومة العراقية ذلك الهجوم بشدة، واعتبرته انتهاكًا لسيادة العراق وأمنها، ويُعتبر “حركة النجباء” جزءًا من “الحشد الشعبي”، وفقًا للقانون العراقي؛ ما يجعلها جزءًا من القوات المسلحة الرسمية، ويُعتبر الاستهداف الأمريكي لقائد “حركة النجباء” اعتداءً على السلطات الأمنية الرسمية في العراق؛ ما يفرض ضغوطًا على حكومة محمد شياع السوداني، ويُشكِّلُ تحدِّيًا لها.
دلالة التوقيت
يأتي الهجوم الأمريكي على قائد “حركة النجباء” بعد الاحتفال بذكرى مقتل “قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس”، في توقيتٍ حسَّاسٍ؛ ما يُثِيرُ انتقادات الفصائل؛ حيث تتشابه ظروف الهجمتيْن، ويُرى أن الضغط الأمريكي يتزايد على الحكومة العراقية؛ بسبب تكرار الاغتيالات، كذلك فإن التوقيت يُظْهِرُ استعداد الولايات المتحدة للتصعيد ضد وكلاء إيران في المنطقة، مشيرًا إلى توجيه ضربةٍ للحوثيين في البحر الأحمر قبْل الهجوم على قائد “حركة النجباء”.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية من الرغبة العراقية:
من منظور إدارة “بايدن”، تأتي دعوة “السوداني” لانسحاب القوات الأمريكية من العراق؛ نتيجة تعرُّضه لضغوطٍ كبيرةٍ من الأحزاب الشيعية القوية في العراق، بالإضافة إلى قوات “الحشد الشعبي”، وزعيم الشيعة “مقتدى الصدر”، وأخيرًا إيران، ومع ذلك، يتجه البنتاغون ووزارة الخارجية، نحو رُؤْية تلك الدعوات العلنية والخطوات الرسمية كجزءٍ من استراتيجية لاسترضاء تلك القوى؛ بمعنى آخر، يُفْهَمُ الردُّ الرسمي في بغداد بشكلٍ رئيسيٍّ كتصرُّفٍ مُوَجَّهٍ أساسًا لأغراضٍ داخليةٍ وسياسيةٍ، بدلًا من أن يُعتبر تغييرًا فعَّالًا قادرًا على إطلاق عملية قوية لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، على الرغم من دعوة “السوداني” لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، إلَّا أن المستقبل يتعقَّد؛ بسبب التحديات التي واجهت حكومته بعد 4 يناير، يعترف واشنطن بأن رحيل الولايات المتحدة ليس قريبًا، ولكن يُتوقع أن يكون هناك تقليلٌ في حرية العمل العسكري الأمريكي في المستقبل، وقد اُعتبرت القرارات التصعيدية في 4 يناير ضروريةً؛ لتحديد قبول البنتاغون لاستهداف الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق.
تشير الرسائل الواردة من بغداد إلى أن دعوة “السوداني” كانت محاولة لإرضاء القوى السياسية المحلية، وأنه لا يزال مُلْتَزِمًا بالتفاوُض حول وجود التحالُف الأمريكي في العراق، ومع ذلك، لا ترضى إدارة “بايدن” بالموقف الحالي، والتوتُّرات السياسية في البرلمان العراقي قد تؤدي إلى تحريك عملية اتخاذ قرارٍ بشأن وجود القوات الأمريكية، ويحُثُّ على تعزيز قنوات الاتصال مع حكومة “السوداني”؛ لضمان استمرار رئيس الوزراء الحالي في المنصب، وتجنُّب إطاحته من قِبَلِ الفصائل القوية في السَّاحة السياسية العراقية.
ختامًا:
أكثر ما يُرَوِّعُ العراق في الآونة الأخيرة، يكْمُنُ في اندلاع حربٍ واسعةِ النِّطَاق بين الولايات المتحدة وإيران على أراضيه؛ حيث تصبح بغداد مُجرَّد مراقبٍ ضعيفٍ، ويبدو أن “السوداني”، الذي يحظى بدعم معظم ميليشيات “الحشد الشعبي”، يسعى إلى تجنُّب جعْل بلاده ساحةً جيوسياسية، بالإضافة إلى حِرْصه على حماية سيادة العراق الوطنية في مواجهة التدخُّلات الأمريكية والإيرانية، وكان “السوداني” قد نبّه الميليشيات الشيعية بعدم مهاجمة القوات أو المصالح الأمريكية، مؤكدًا أن مِثْلَ هذه الأفعال تضرُّ بمصالح العراق وسيادته.
ومن الجانب الآخر، لاتزال واشنطن واثقةً من قُدْرتها بالحفاظ على تواجُدها العسكري في العراق؛ حيث لا تعتبر دعوة الحكومة العراقية لطرْد القوات الأمريكية تحدِّيًا جديدًا، فتجربة يناير 2020، أظهرت أن الوجود الأمريكي تحوَّلَ إلى دوْرٍ استشاريٍّ، وانتهت المهمة القتالية الرسمية للجيش الأمريكي، ويرى معظم المسؤولين في واشنطن، أن وجود قوات أمريكية في العراق يخدم مصلحة الأمن القومي العراقي، ويُعدُّ موازنة لنفوذ الميليشيات المدعومة من إيران.
كذلك تعتبر الولايات المتحدة وجودها في العراق ضروريًّا؛ لمواجهة التهديدات، سواءً من عودة تنظيم “داعش”، أو لمقاومة نفوذ إيران، ومن المتوقع أن تلجأ واشنطن إلى جهودٍ مُكثَّفةٍ للبقاء في العراق، على الرغم من التحدِّيات الحالية والضغوط الناجمة عن الأحداث في غزة، بما في ذلك تعزيز العلاقات “الأمريكية – العراقية”.
ويكْمُنُ التحدِّي الحاسم بالنسبة للولايات المتحدة، يتشكل في توسّع رُقْعة النِّزَاع في غزة، بمشاركة “حزب الله” اللبناني؛ حيث يعتبر “حسن نصر الله”، أن الضربات الأمريكية في العراق يجب أن تؤدي إلى انسحابٍ نهائيٍّ للقوات الأمريكية، كذلك تُدْرِكُ إدارة “بايدن” أن توسع الحرب إلى لبنان، قد يجعل من الصعب منْع هجمات وكلاء إيران في العراق؛ ما يُعقِّدُ جهود الإدارة للحفاظ على وجودها في المنطقة.