إعداد: مصطفى مقلد
وافق مؤخرًا المجلس التشريعى فى “هونغ كونغ” بالإجماع على مشروع قانون للأمن القومى، وهو يعد إضافة لقانون الأمن القومى فى “هونغ كونغ” الذى فرضته بكين ودخل حيز التنفيذ فى عام 2020، ويحظر التشريع الجديد الأعمال التى تعرض الأمن القومى للخطر، بما فى ذلك سرقة أسرار الدولة والتجسس والتدخل الخارجى كما يوسع تعريف “جريمة الفتنة” لتشمل التحريض على الكراهية ضد القادة الشيوعيين الصينيين، وستترتب على تلك الأفعال عقوبات تصل إلى السجن مدى الحياة، الملفت هو أن جميع أعضاء المجلس تقريبًا مؤيدون لبكين، وقد أيدوا بشكل كامل الإقرار السريع لمشروع القانون.
ويرى مراقبون أن التشريع الجديد سيسمح للحكومة بممارسة رقابة أكثر صرامة على الناس فى “هونغ كونغ”، وهو ما قد يحمل تأثيرات خطيرة على الأعمال التجارية ووسائل الإعلام وغيرها، وعبرت دول غربية عن انتقادها وقلقها العميق إزاء التشريع، باعتباره يهدد التنمية الديمقراطية والمستقرة فى “هونج كونج”، وينزع عنها -على المدى الطويل- جاذبيتها باعتبارها مركز تجارى دولى، وسيؤدى إلى تقويض الثقة فى إطار “دولة واحدة ونظامان” المتفق عليه بين الصين وبريطانيا 1997، الذى كان يمنح المدينة حريات واستقلالية قانونية وتشريعية لمدة خمسين عامًا.
كانت قد تمتعت “هونج كونج” خلال فترة الحرب الباردة بميزة الحياد الجيوسياسى بين الصين والغرب، وهو ما وفر فرصة مهمة فى تطوير اقتصادها، لكن فى سياق انتقال السيادة فى “هونج كونج” خلال الثمانينيات والتسعينيات، اعتبرت بكين أن استعادة “هونج كونج” الديمقراطية فى ظل وجود غربى واسع النطاق يمثل تهديدًا لنظامها السياسى، لذا فرضت الصين نظام الحكم غير المباشر بموجب القانون الأساسى لعام 1990، من خلال انتقاء كبار المسؤولين التنفيذيين وتأخير المزيد من الإصلاحات الديمقراطية، وفى عام 1992، وردت واشنطن بتمرير قانون السياسة بين الولايات المتحدة وهونج كونج سعيًا إلى تعزيز دورها الرقابى على تنفيذ نموذج “دولة واحدة ونظامان”، لذا اتسمت تلك الفترة بمحاولة إدارة التوترات الدستورية الأساسية، لكن ذلك لم يستمر.
يأتى التشريع الجديد فى سياق محاولة بكين تأكيد نفوذها ووجودها فى المدينة على حساب النفوذ الغربى، فى وقت ازدادت فيه التوترات بين الولايات المتحدة والصين، بسبب الحرب التجارية التى أشعلها الرئيس الأمريكى السابق “ترامب” فى 2018، ثم ازدياد التوترات خلال جائحة كورونا، والتوترات حول قضايا تايوان وأشباه الموصلات والألواح الشمسية خلال فترة إدارة بايدن، لتنزلق هونج كونج وتصبح ساحة للمنافسة الجيوسياسة، بعد تمرير مشروع قانون لتسليم المجرمين لعام 2019، والذى لاقى معارضة كبيرة تحولت لمظاهرات ساخطة، باعتبارها خطوة تقوض استقلالية المدينة، وقانون الأمن الجديد الذى فرضته بكين عام 2020.
ونتيجة لتعدد ساحات المواجهة الجيوسياسية القريبة من البر الرئيسى للصين، فإن الصين تنظر إلى “هونج كونج” باعتبارها ساحة تتوفر فيها مزيد من هامش المناورة -حاليًا على الأقل- مقارنة بساحات أخرى مثل تايوان، فى جو عام يكتنفه الشك والضبابية بين الإدارتين الأمريكية والصينية، لذا تقوم الصين بإعادة تعريف نموذج “دولة واحدة ونظامان” بشروط أكثر ملاءمة لمصالحها الخاصة، وهو ما يمثل تهديدًا للوجود الغربى فى “هونغ كونغ”.
ونتيجة لذلك، فمنذ عام 2020، تراجعت الشركات الغربية بشكل مطرد من “هونغ كونغ” على سبيل المثال، قامت أكثر من 168 شركة غير محلية بإزالة مقارها الإقليمية فى “هونغ كونغ”، كذلك تغادر شركات الإعلام العالمية بعد أن كانت مركزًا إعلاميًا دوليًا، وفى المقابل ترسل بكين رؤوس الأموال والشركات لتعويض ذلك، ويرى مصرفيون أن الأعداد المتزايدة من المستثمرين الأجانب يجدون صعوبة فى النظر إلى وضع “هونج كونج” بشكل منفصل عن وضع البر الرئيسى للصين، لكن لم تدفع الصين الأمور إلى الهاوية بعد، فلم يتم بعد تفكيك الأنظمة البريطانية المتبقية منذ عام 1997 بشكل كامل.
“هونج كونج” بمثابة وجبة دسمة أو كعكة شهية، فسوق الأسهم فيها أكبر من ستة أضعاف حجم سوق الأسهم فى سنغافورة التى حاولت اجتذاب الاستثمارات الهاربة، كما أنها تتمتع بمجمّع ثروات أكبر بكثير، وبورصة “هونغ كونغ” الديناميكية وبنيتها التحتية المالية تجعلها نقطة ساخنة للشركات للوصول إلى السيولة، ووفقًا لسلطة النقد فى “هونج كونج”، فإن ثلثى الاستثمارات المباشرة الداخلية والخارجية للصين تتم عبر “هونج كونج”، وهى ما زالت المركز الدولى الأول لإدارة الأصول فى آسيا، وتمثل ما يقرب من ثلثى إصدارات السندات الأولية فى آسيا.
وفى حين كانت “هونج كونج” تستكشف الأسواق فى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، فإن الصين ستظل الاقتصاد الذى تعتمد عليه المدينة فى التجارة والاستثمار، فالمدينة تعتمد حاليًا على البر الرئيسى لنحو 40 فى المائة من اقتصادها، لكنه يُتوقع أن ينمو ذلك إلى ما يصل إلى 50 أو 60 فى المائة خلال العقد المقبل.
سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد الأهداف الدائمة فى آسيا وتجاه الصين، لأن هذه الأهداف الأكبر سوف تؤثر على ما إذا كان من الممكن تحقيق أهداف أمريكية معينة فى “هونغ كونغ”، وكردود فعل سريعة على تقويض الصين حريات واستقلالية المدينة فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المسؤولين الصينيين الذين زعمت أنهم يقوضون الحكم الذاتى لـ “هونج كونج”، وقيدت صادرات المعدات الدفاعية إليها، وألغت الوضع التجارى الخاص بهونج كونج، وحذرت الشركات الأمريكية من “المخاطر المتزايدة” لممارسة الأعمال التجارية فى هونج كونج، كما انضمت إلى أستراليا وكندا ونيوزيلندا، التى علقت معاهدات تسليم المجرمين مع هونغ كونغ بسبب قانون الأمن القومى، كذلك قيدت الاستثمار فى صناعات رئيسية مثل رقائق الحوسبة المتقدمة والإلكترونيات الدقيقة، وتكنولوجيا الكم، والذكاء الاصطناعى فى أغسطس الماضى.
مع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة ما زالت تراهن على وجودها فى هونج كونج، حيث تعرض الرئيس الأمريكى “جو بايدن” لضغوط لمحاسبة مسؤولى هونج كونج، فلأكثر من عامين، لم يفرض عقوبات على أى مسؤول مرتبط بقمع المعارضة، والملاحظ أيضًا أن الولايات المتحدة تسير على خيط رفيع فيما يخص المدينة، فالولايات المتحدة لتوها استطاعت تحسين أجواء العلاقات -بشكل عام- مع الصين بعد “قمة أبيك” فى نوفمبر الماضى باعتبار أن عودة المحادثات وإضفاء طابع أكثر دفئًا عليها قد يخفض مستوى التوترات.
ومع ذلك فى الشهر نفسه، تم تقديم قانون عقوبات “هونغ كونغ” الذى وافق عليه الحزبان الجمهورى والديمقراطى فى مجلسى الكونجرس لإجبار البيت الأبيض على اتخاذ قرار بشأن العقوبات فى غضون 180 يومًا، وقد تناول مشروع القانون أسماء 49 مسؤولًا، وقد أثار هذا غضب سلطات “هونغ كونغ”، ويظهر بذلك أن لدى الولايات المتحدة وسائل ضغط انتقائية تنتقم من المسؤولين ولا تؤثر بشكل كبير على المركز التجارى للمدينة، لكن طبيعة تحركات الولايات المتحدة تجاه “هونج كونج” ستحددها طبيعة العلاقات مع الصين وأهداف الولايات المتحدة فى المنطقة بجانب ديناميكية التفاعلات بين الدولتين فى القضايا الجيوسياسية المتشابكة.