إعداد: رضوى الشريف
باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط
على مدار السنوات الماضية، بدت واشنطن وكأنها متحفظة في التعامل مع الملف الليبي، واكتفت فقط بالتنسيق مع بعض الدول الفاعلة في الأزمة، ولكن في ظل الأوضاع الدولية المتوترة، منذ الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، ليس غريبًا أن نرى ملفات عديدة، أهملت فيها واشنطن لفترة من الوقت، تُفتح من جديد، وتحظى بالاهتمام.
وفي هذا الإطار، أعلنت السفارة الأمريكية في ليبيا، الجمعة الماضية، عن ملامح خطة وإستراتيجية وأهداف الإدارة الأمريكية العشرية؛ لمنع الصراع، وتعزيز الاستقرار في ليبيا.
وتهدف الخطة العشرية، تعزيز انتقال ليبيا إلى نظامٍ سياسيٍّ مُوحَّدٍ ومُنتخبٍ ديمقراطيًّا ومستقر، وإلى دمْج أفضل للجنوب المُهمَّش تاريخيًّا في الهياكل الوطنية؛ ما يؤدي إلى توحيد أوسع، وتأمين الحدود الجنوبية، بحسب أهداف الخطة.
كما تهدف الخطة إلى إحراز تقدُّمٍ نحو جهازٍ عسكريٍّ وأمنيٍّ مُوحَّدٍ خاضعٍ لسيطرةٍ مدنيةٍ، وتعزيز البيئة الاقتصادية والتجارية في ليبيا والنمو الاقتصادي المُسْتَدام والعادل، والحدّ من الفساد، وإتاحة أفضل لإدارة الإيرادات، وفْق نص الأهداف.
وتحدث وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن كيفية تطبيق هذه الإستراتيجية على أرض الواقع، فقال: إن بلاده ستعمل على التنسيق مع شركاء الولايات المتحدة بالمنطقة؛ من أجل الصراع وتعزيز الاستقرار، مُسلِّطًا الضوء على المجتمع المدني، ودوره في بناء القدرة على الصمود، في كُلٍّ من ليبيا وهايتي وموزمبيق وساحل غرب أفريقيا.
في الظروف العادية، فإن خطط التنمية مسؤولية الدول والحكومات المعنيّة بمصير أمنها وشعوبها، تُطرح وتُناقش في البرلمانات مع المعارضة والمجتمع المدني، ولكن في المشهد الحالي، فإن مخططات التنمية العشرية تستورد من الخارج، وتُقدَّم كبرامج إنقاذ، وهذا ما حدث في ليبيا، فما دلالات هذه الخطوة؟ وهل هي نية أمريكية حقيقية لحل الأزمة؟ وكيف يمكن لها أن تنجح في ظِلِّ غياب الضمانات الأساسية؟
اهتمام أمريكي غير مسبوق بليبيا
الخطة التي قدَّمها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للكونغرس، وفيها كشْف إستراتيجية إدارته حِيالَ ليبيا، سبقتها زيارات عديدة الى ليبيا، جاء على رأسها زيارة مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، وليام بيرنز، في يناير الماضي – كانت هي الأولى من نوعها لمسؤول أمريكي على هذا المستوى منذ اثنيْ عشر عامًا – حيث التقى “بيرنز” بقائد “الجيش الوطني الليبي” خليفة حفتر في بنغازي، ورئيس “حكومة الوحدة الوطنية” عبد الحميد الدبيبة، في طرابلس، أثارت زيارة “بيرنز” حينها الكثير من التكهُّنات حول الغرض من الزيارة، وكانت زيارة “باربارا ليف” مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، في مارس الماضي، تُعدُّ الأخيرة في سلسلة الزيارات الأمريكية إلى هذا البلد الذي يشترك في حدوده مع ست دول.
وفيما يتعلق بهذا السياق، تتمحور سياسة الولايات المتحدة في ليبيا حول ثلاث قضايا أساسية:
أولًا: تشعر واشنطن بقلقٍ شديدٍ من نفوذ روسيا ووجودها في ليبيا، عبر مجموعة “فاغنر”، وتسعى الولايات المتحدة إلى تقليص قدرات هذه الشركة العسكرية الخاصة، خاصةً الآن بعد أن أصبحت عمليات المجموعة في كلٍّ من الدول الأفريقية وأوكرانيا موثّقة جيدًا.
ثانيًا: تُركّز الولايات المتحدة على وضع الطاقة في ليبيا؛ بسبب الصراع الجيوسياسي الحالي بين الغرب وروسيا الغنية بالطاقة، وعلى هذا النحو، تريد الولايات المتحدة، ضمان بقاء قطاع الطاقة في ليبيا مُحصَّنًا ضد أيِّ اضطرابات كبيرة قد تنْجُمُ عن الاقتتال السياسي الجاري، أو الانقسامات المؤسسية، أو عدم الاستقرار العام في ليبيا.
ثالثًا: استندت واشنطن باستمرار إلى محاربة الإرهاب كأساس لكيفية تعاملها مع المنطقة، ويزداد التخوُّف من عودة ظهور التهديدات الإرهابية في المناطق الجنوبية والغربية، فقد رُصدت مجموعات وعناصر جهادية، ووقعت اشتباكات في بعض الأحيان في خلال الأشهر الأخيرة، وشهدت مناطق غرب طرابلس ازديادًا في تواجُد الجماعات المتطرفة، لا سيما في منطقة جنزور ومدينتَي الزاوية وصبراتة، التي تقع كلها غرب طرابلس، ويزداد الوضع سوءًا؛ بسبب تركيا ووكلائها الإسلاميين في غرب ليبيا، الذين يسعون إلى إعادة تحديد المشهد الأمني، بطرقٍ يمكن أن ترسّخ الوجود العسكري التركي في ليبيا.
تركيز خاص على الجنوب الليبي
وبرغم التفاصيل الدقيقة التي قدمَّتْها إدارة “بايدن” عن خطتها العشرية في ليبيا، فان التركيز الأساسي انحصر في الجنوب الليبي كأولوية؛ لتحقيق هذه الأهداف التي تجعل أمريكا تتجه إلى سياسة القوة الناعمة، بتوخِّي توجهات جديدة تعتمد التقارب والتواصل مع مختلف مُكوِّنات المجتمع الليبي، بما في ذلك القبائل، وتسليط الاهتمام بشكلٍ خاصٍ على الجنوب الليبي، وهي المنطقة التي ظلت مُهمَّشةً على مدى أكثر من أربعة عقود من حكم “القذافي”.
والأرجح أن هذا الاهتمام ليس من فراغ، وليس من دون دراسات دقيقة ورصْدٍ لكل ما تنتجه وتقدمه الجماعات البحثية ومراكز “الثينك تانك”، التي تشتغل على المدى البعيد، وتستشرف المستقبل في علاقة بالتحوُّلات الإستراتيجية، وبتوفر الطاقة في العالم والجنوب الليبي منطقة ثرية بإمكانياتها النفطية.
بجانب ذلك، هناك مخاوف جدية، من أن يتحول الجنوب الليبي إلى قاعدة خلفية للجماعات المتشددة والمرتزقة في منطقة الساحل والصحراء، إلا أن هذا السبب لا يلغي بأي حال من الاحوال، التنافس الحاصل بين القوى الإقليمية والدولية على ليبيا، والذي اشتد بشكلٍ خاصٍ مع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، وحاليًا الأوضاع في السودان التي تشعل التنافس بين القوى الدولية التي لها موطئ قدم في الإقليم.
آفاق التطبيق وحدوده
على المدى البعيد، تحمل الإستراتيجية العشرية رؤية طموحة لمستقبل الدور الأمريكي في ليبيا، سواء على مستوى كثافة الانخراط أو على مستوى طبيعة هذا الدور، والذي يُفْسح مجالًا أوسع لمفهوم القوة الناعمة، في حماية المصالح الأمريكية؛ لكن على المدى القصير، يبدو هذا الدور مُنْصَبًّا على التعامل مع القضايا الأكثر إلحاحًا، من وجهة نظر المصالح الأمريكية، في سياق الصراع مع روسيا.
على الرغم مما يبدو من صعوبة، بشأن هدف إبعاد قوات “فاغنر” الروسية إلى خارج ليبيا، لا سيما مع ترسيخ المنظمة أقدامها هناك، فإن خبرة الصراع الليبي خلال السنوات الماضية، تشير إلى وجود نمطٍ متكررٍ، من إعادة رسم خارطة الصراع بين فترةٍ وأُخرى، سواء نتيجة حدوث تغييرات في التوازنات بين أطراف الصراع، أو نتيجة حسابات وصفقات سياسية أوسع نطاقًا؛ بحيث تكون الأوضاع في ليبيا ترجمة لتوازنات أوسع تتجاوز الساحة الليبية نفسها.
في هذا الإطار، من غير المُسْتَبعد نظريًّا، إحراز تقدُّم جزئي على صعيد تحقيق الأهداف الأمريكية على المدى القصير، غير أن ذلك سيتطلب حزمة من الحوافز والعقوبات في آنٍ معًا؛ لدفع أطراف الصراع (المحليين على وجه الخصوص)؛ لإبداء مزيدٍ من المرونة في هذا الصدد، فمن المرجح أن تتمثل الحوافز بالنسبة لقائد الجيش، اللواء خليفة حفتر، في منْحه حصَّةً أكبر في المناصب الرئيسة، في طرابلس، على غرار ما جرى سابقًا، من تغيير قيادة المؤسسة الوطنية للنفط على سبيل المثال.
من ناحيةٍ أُخرى، سيمثل اتجاه واشنطن نحو إشراك المجتمعات المحلية، عامل ضغط إضافي على النُّخَب المسيطرة والمستفيدة من إطالة أَمَدِ الأزمة؛ كما سيُعزِّزُ ذلك من القوة الناعمة للدور الأمريكي، وسيمنحه مزيدًا من المقبولية، لا سيما بالنسبة لبعض الشرائح المجتمعية كالشباب والنساء.
في المقابل، من المتوقع ظهور الكثير من العقبات أمام تطبيق تلك الإستراتيجية؛ نتيجة تباين استجابة مختلف الأطراف الليبية، في شكلٍ قد يصل إلى المعارضة الصريحة للدور الأمريكي؛ فعلى الأقل ستواجه الولايات المتحدة رفضًا متوقعًا من قِبَلِ المُكوِّنات الاجتماعية الموالية لـ”سيف الإسلام”، والمنتشرة في بعض مدن الجنوب الليبي، الذي يحتل الأولوية في التعاون الأمريكي مع المجتمعات المحلية؛ كما أن تباين المصالح بين الأطراف الليبية نفسها، سيُصعِّبُ عملية بناء التوافق حول الترتيبات التي ستسعى الولايات المتحدة لإقرارها.
على صعيدٍ آخرَ، فبينما يتزايد الحديث عن تشكيل قوات مشتركة بين القيادة العامة وقوات حكومة طرابلس؛ لحماية الحدود الجنوبية، نشرت القيادة العامة، في الأسبوع الثاني من أبريل، دوريات عسكرية، بمشاركةٍ من أربع تشكيلات تابعة لها؛ لتأمين كامل الحدود الجنوبية للبلاد؛ الأمر الذي رافقه تصريح صادر عن اللواء مبروك السحبان، آمر غرفة عمليات الجنوب والمشرف على العملية، بأنه يمكن تأمين جنوب البلاد، في حال إجراء الانتخابات، وقد تكون تلك التطورات ذات دلالة سلبية، بالنظر لما تحمله من معانٍ، بشأن قدرة قوات القيادة العامة منفردة على تحقيق الأهداف الأمنية في الجنوب الليبي، من دون الاضطرار لمشاركة القوات التابعة لسلطات طرابلس.
خلاصة القول:
يمكن القول: إن المبادئ التي حدَّدت الولايات المتحدة فيها إستراتيجيتها في ليبيا، تتلخص في الدَّفْع إلى منْع نُشُوب الصراعات، وتعزيز الديمقراطية، وتمكين الشعب الليبي من اختيار قادته، وتحقيق التكامل بين الشرق والغرب والجنوب، وهي تقريبًا أهداف يُقِرُّ أغلب الليبيين بأنها طريق الخلاص للخروج من النفق الذي طال أمدُه، ولكن كيف يمكن تجسيد ما تضمنه الورق على أرض الواقع المُلغَّم في كل خطوة منه بقنابل قابلة للانفجار في كل حين.
البعض يرى أن دخول الولايات المتحدة بثقلها لحل الأزمة الليبية أو المساهمة بشكلٍ أكثرَ فاعلية في إنهاء الصراع والانقسام بين الفرقاء؛ الهدف منه هو نشر السلام في المنطقة، خاصةً وأنها للمرة الأولى تظهر بشكل فعَّال في الملف الليبي، وتضعه ضمن أولوياتها، على الرغم من انشغالها بالعديد من الملفات، وعلى رأسها الحرب “الروسية – الأوكرانية”، ومؤخرًا ملف السودان.
أما البعض الآخر، فيرى أن تدخل الولايات المتحدة في هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم حرب سيطرة بين الدول العظمى، والمحاولات لفرض نظام عالم جديد متعدد الأقطاب، فإن ذلك سيجعل ليبيا ساحةً للحرب الباردة بين تلك القوى، وربما كان استمرار النزاع في ليبيا يصُبُّ في مصلحة تلك الدول، باعتبارها “كارت” مهمًا؛ للضغط على بعضهم البعض من خلالها.