وساطة صينية بين«السعودية وإيران»..  هل تصبح «بكين» الحليف الإستراتيجي للشرق الأوسط؟

إعداد : شيماء عبد الحميد 

بقدْر ما كان الإعلان عن استعادة العلاقات الدبلوماسية بين «السعودية، وإيران» تطوُّرًا مهمًا، بقدْر ما كانت رعاية الصين لهذا الاتفاق لافتة إستراتيجية، لا تقل أهميةً عن الاتفاق نفسه؛ حيث إنها خطوةٌ قد تُمثِّل نقطة تحوُّل رئيسية في الشرق الأوسط؛ لأنها تُعبِّر عن تغيير إستراتيجي في السياسة الخارجية الصينية تجاه المنطقة؛ إذ لطالما تجنَّبت «بكين» التدخُّل في الجوانب «السياسية، والأمنية» للشرق الأوسط؛ مكتفيةً بتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الدول العربية، ولكن يبدو أن تحرُّكها للوساطة بين «طهران، والرياض»، هو نقطة الانطلاق للتواجُد «سياسيًّا، ودبلوماسيًّا» في الشرق الأوسط، الذي لطالما كان منطقة نفوذٍ للولايات المتحدة.

ضربة صينية للنفوذ الأمريكي

تتزامن الوساطة الصينية بين «السعودية، وإيران»، مع تراجع جيوسياسي أمريكي، بدأت تتشكل ملامحه في آواخر عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وبداية عهد الرئيس الحالي، جو بايدن؛ حيث اتخذت الولايات المتحدة عدة خطوات، تدل على تراجُع أولوية المنطقة بالنسبة لها؛ مثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتقليص وجود «واشنطن» العسكري في المنطقة، الذي ظهر في بعض القرارات، والتي منها سحْب بطاريات من منظومات «باتريوت» الصاروخية للدفاع الجوي، من قاعدة الأمير «سلطان» الجوية بالسعودية، وقد أكدت وثيقة الأمن القومي الأمريكي على هذا التوجُّه، موضحةً أن الشرق الأوسط ليس ضمن المراكز الـ3 الأولى بالنسبة لأولويات «بايدن»، والتي تمثَّلت في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ثم أوروبا، ثم نصف الكرة الغربي؛ للتصدي إلى نفوذ الصين المتنامي، والذي وصفته الوثيقة، بأنه التحدي الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة في القرن الـ21.

وبناءً على هذا السياق؛ تُعدُّ الرعاية الصينية لعودة العلاقات الدبلوماسية بين «الرياض، وطهران»، ضربةً قويةً للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط؛ نظرًا لعدة أسباب منها:

أولًا؛ حالة الانقسام السياسي في «واشنطن» التي أدَّت تناقضاتها وتذبذباتها إلى انعكاسات سلبية على الشراكة مع الدول الخليجية؛ ما يخلق حالةً من عدم اليقين بين تلك الدول و«واشنطن»، في وقتٍ تنشغل فيه إدارة «بايدن» بالحرب «الروسية – الأوكرانية» وتداعياتها.

وثانيًا؛ نجحت الصين من خلال سياسة النَّفَس الطويل في تحقيق أهدافها، وأحرزت تقدُّمًا إستراتيجيًّا على أرض الواقع؛ حيث بدأت تستنزف نفوذ الولايات المتحدة، باعتبارها الحليف التقليدي لدول المنطقة، من خلال تدخُّلها في المجالات «السياسية، والدبلوماسية»، التي كان يُعتقد أنها لن تنخرط فيها.

أما ثالثًا؛ تُعدُّ الوساطة الصينية في هذا الملف دليلًا على أن الصين هي القوة الصاعدة في المنطقة، وأن لديها القدرة على أن تكون بديلًا حيويًّا – على الأقل –  في بعض القضايا التي فشلت الولايات المتحدة في تسويتها.

ورابعًا؛ ترسل الوساطة الصينية رسالة ضغطٍ سعوديةٍ واضحةٍ على «واشنطن»، تُظهر أن المملكة جادة في تنويع تحالفاتها، وهي رسالة في توقيت حاسم، قدَّمت «الرياض» فيه مطالب محددة من «واشنطن»، تتمثل في الحصول على ضمانات أمنيّة يقرُّها «الكونجرس»، والمساعدة في تطوير برنامج نووي سلمي، والحد من القيود على مبيعات الأسلحة الأمريكية، أو سيكون البديل هو اعتماد «الرياض» على حلفاء دوليين آخرين، بما فيهم الصين؛ لتلبية هذه المتطلبات الحيوية.

أما خامسًا؛ تزامن الإعلان عن الاتفاق مع إعادة انتخاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بالإجماع لولاية ثالثة؛ مدتها 5 سنوات، رئيسًا لجمهورية الصين الشعبية، ورئيسًا للجنة العسكرية المركزية؛ ما يجعل الاتفاق كأنه إعلان عن الدور الجديد، التي ستلعبه الصين كفاعلٍ رئيسيٍّ، في رسْم شكل النظام العالمي الجديد، خاصةً وأن التحرُّك الصيني يأتي على خلفية مبادرة الأمن العالمي، التي طرحها «شي جين بينغ»، في أبريل 2022، التي تدعو إلى إيجاد طريقٍ جديدٍ للأمن، يُكرِّسُ الحوار والشراكة والكسب المشترك، بدلًا من المواجهة واللعبة الصفرية، وتقوم المبادرة الصينية على 6 مبادئ لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط؛ وهي: ضرورة التمسُّك برؤيةٍ للأمن، على أساس أنه مشترك وشامل ومستدام، احترام سيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، الالتزام باحترام مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، أخذ المصالح الأمنية المشروعة لجميع الدول على محمل الجد، التمسُّك بالحلول السلمية للخلافات والنزاعات بين الدول، من خلال الحوار، وضمان الأمن في كل من المجالات التقليدية وغير التقليدية منها، كـ«النزاعات الإقليمية، والقضايا العالمية»، مثل «الإرهاب، وتغير المناخ، والأمن السيبراني، والأمن البيولوجي».

وسادسًا؛ كسرت «بكين» وحدانية التعويل في المنطقة على الولايات المتحدة، وأزاحت «واشنطن» عن مكانتها، باعتبارها القوة الإستراتيجية الوحيدة في الخليج، وذلك من خلال تسجيل أول دخول دبلوماسي إلى ساحة النزاعات الدولية، وخاصةً الشرق أوسطية، وبناء هذا الدور على مقاربة للعلاقات الدولية، تقوم على المصالح أكثر منها على الحسابات والضمانات الأمنية، وهي بذلك أعطت المنطقة فرصة التنويع في العلاقات، بدلًا من الاعتماد على قوةٍ واحدةٍ، وبما يترك مساحةً لحرية القرار المحلي وتغليب مصالحه.

وفي ضوء هذه المعطيات؛ فربما يُمثِّل الاتفاق «السعودي – الإيراني» لحظةً فارقةً، تُتوَّج من خلالها الصين، باعتبارها الفاعل الدولي الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط، مستفيدةً من الانسحاب الجيوسياسي الأمريكي من المنطقة، ومن الصورة التي رسمتها الصين لنفسها، بأنها لا تسعى للهيمنة أو التوسُّع، وأنها تسعى لبناء مستقبلٍ مشتركٍ للبشرية مبنيٍّ بالأساس على التفاهُم، وبناء مؤسسات مشتركة.

نفوذ صيني متنامٍ في الشرق الأوسط

تأتي الوساطة الصينية بين «السعودية، وإيران»، على خلفية نفوذٍ صينيٍّ واسعٍ ومتنامٍ في المنطقة؛ حيث حرصت «بكين» في السنوات الأخيرة، على تعزيز تواجُدها في منطقة الشرق الأوسط، لكنها لم تتبع النَّهْج الأمريكي نفسه، والذي يلاقي امتعاضًا من بعض الدول العربية؛ إذ اعتمدت الصين على العامل الاقتصادي؛ للتغلغُل في الدول العربية، على عكس الولايات المتحدة، التي اعتمدت على العامل «الأمني، والعسكري»، ولكن رغم ترويج الصين، بأنها لا ترغب في مَلْء الفراغ الأمريكي، وأن كل ما يهمها، هو الاستثمار والتنمية، إلا أن هذه الوساطة، تكشف أن أهداف الصين تتخطَّى الدوافع الاقتصادية، بل بدأت تتشكل ملامح وجود «سياسي، وأمني» في الشرق الأوسط؛ وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:

أولًا: على المستوى الاقتصادي؛ بدأت العلاقات «الصينية – العربية»، وخاصةً الخليجية، منذ عدة عقود لتأمين احتياجات «بكين» المتنامية من الطاقة، إلَّا أن العلاقة تعمَّقت بقوة، خلال السنوات الأخيرة؛ لتمتد إلى مشاريع البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا، وقد بدأت التحرُّكات الصينية تجاه العرب، منذ عام 2004، عندما دشنت المنتدى «الصيني – العربي»، ومعه اتفاقية التعاون الاقتصادي «الصيني – الخليجي»، في العام نفسه، وما تبعها من اتفاقيات ثنائية، إلى أن جاءت الاتفاقية «الصينية – العربية»، في عام 2010، ثم تلاحقت المشروعات الإستراتيجية الصينية، في عددٍ من الدول العربية، وتحديدًا في البنية التحتية، ومنها على سبيل المثال؛ ميناء الوسط في الجزائر، ومحطة الكهرباء في ولاية صحار في سلطنة عُمان، وكذلك الاستثمارات اللوجستية في ميناء خليفة بالإمارات، إلى جانب إطلاق مبادرة الحزام والطريق في 2013.

وقد عكست زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية، في ديسمبر 2022، وعقد 3 قِمَمٍ؛ وهي القمة «الصينية – السعودية»، والقمة «الصينية – الخليجية»، والقمة «الصينية – العربية»، والتي شارك فيها نحو 30 من قادة وزعماء الشرق الأوسط ، فضلًا عن توقيع شراكة إستراتيجية بين «بكين، والرياض»، ومع دولٍ عربيةٍ أُخرى، والتوقيع على اتفاقات وشراكات تجارية بمليارات الدولارات؛ حيث تمَّ توقيع 34 اتفاقية استثمار مع «الرياض»، تتجاوز قيمتها الـ30 مليار دولار، رسالة مفادها؛ بأن نفوذ الصين في المنطقة يتمدد بسرعة، وأن هناك تقاربًا أوسع بين حلفاء الولايات المتحدة القدامى مع «بكين».

وفيما يخص التجارة؛ فقد نمت تجارة الصين مع جميع الدول العربية إلى 330 مليار دولار العام 2021، بمعدل نمو سنوي بلغ 37%، فيما بلغ حجم التجارة بين الجانبيْن، خلال الـ9 أشهر الأولى، من عام 2022، حوالي 319 مليار دولار، وخاصةً مع السعودية، التي أصبحت «بكين» شريكها التجاري الأول؛ إذ تجاوزت معدلات التجارة بين الدولتيْن، في عام 2020، لأكثر من 65 مليار دولار، بمعدل زيادة سنوي يفوق 15%؛ وهو ما يماثل أكثر من ضعفيْ التجارة السعودية مع الولايات المتحدة، التي بلغت نحو 20 مليار دولار في العام نفسه، ويشير تقرير تعقب الاستثمار الصيني العالمي، الذي يصدره معهد “أمريكان إنتربرايز” في «واشنطن»، إلى اهتمام صيني مستمر بالاستثمار في الاقتصادات العربية؛ حيث بلغ إجمالي قيمة الاستثمارات التراكمية الصينية ومشاريع البناء، في 2019، 43.47 مليار دولار في السعودية، و36.16 مليار في الإمارات، و30.05 مليار في العراق، و11.75 مليار في الكويت، و7.8 مليار في قطر، و6.62 مليار في عُمان، و1.42 مليار دولار في البحرين، وقد بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في جميع الدول العربية، خلال العام 2021، 23 مليار دولار، فضلًا عن أنه تمَّ تنفيذ أكثر من 200 مشروع من مشاريع الحزام والطريق في المنطقة العربية.

أما فيما يخص ملف الطاقة؛ تعتمد الصين على نفط الشرق الأوسط؛ لتأمين احتياجاتها، وفي 2019، اسـتوردت الصيـن حوالـي 8.4 مليـون برميـل مـن النفـط فـي اليـوم؛ منهـا 3.9 مليـون برميـل مـن مجلـس التعـاون الخليجـي، وفــي عــام 2018، بلــغ حجــم صــادرات النفــط العربــي إلــى الصيــن حوالــي 107.7 مليــار دولار، وتأتــي 3 دول عربيــة ضمــن الــدول الـ5 الأولـى، التـي اسـتوردت الصيـن منهـا احتياجاتهـا مـن النفـط فــي العــام ذاتــه؛ وهــي: الســعودية فــي المركــز الـ2 بقيمــة 29.7 مليـار دولار، والعـراق فـي المركـز الـ4 بقيمـة 22.4 مليـار دولار، وســلطنة عُمــان فــي المركــز الـ5 بقيمــة 17.3 مليــار دولار، وتدعم الصين الآن جهود الدول العربية في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والبحث عن مصادر أكثر استدامة للطاقة، وذلك من خلال الدخول في شراكات لبناء محطات لتوليد الطاقة، باستخدام الألواح الشمسية، وتكثيف التعاون البحثي لابتكار مزيدٍ من البدائل التكنولوجية للطاقة المتجددة، فضلًا عن التعاون للاستفادة من الخبرات الصينية، في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، والتي وقّعت السعودية بشأنها مذكرة تفاهُم مع «بكين» خلال فعاليات قمة «الرياض».

وبخـلاف التجـارة والاسـتثمار؛ فقـد بـدأت الصيـن بتقديـم المسـاعدات الإنســانية والإنمائيــة إلــى دول الشــرق الأوســط وشــمال أفريقيــا؛ حيث قدمت الصيـن 100 مليـون دولار لبعثـة الأمـم المتحـدة لحفـظ السـلام فـي الصومـال، منـذ عـام 2015، وفـي عـام 2018 تعهَّـد الرئيـس الصينـي، تشي جيــن بينــغ، بتقديـم نحـو 106 مليـون دولار، كمسـاعدات لـدول الشـرق الأوسـط؛ منهـا 91 مليون دولار كمساعدات إنسانية وإنشائية لكل من «الأردن، ولبنان، وسوريا، واليمن»، بالإضافة إلى 15 مليون دولار كمساعدات لفلسطين؛ بهـدف التنميـة.

وفي 16 فبراير 2023، قام الاجتماع الوزاري لدول مجلس التعاون الخليجي، بمناقشة ودفْع مسألة التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، وفي 2 مارس الجاري، وقَّعت شركة أرامكو السعودية خطاب نوايا للاستثمار في مشروعٍ مشتركٍ، لشركتي «جيلي، ورينو» للسيارات، وفي اليوم نفسه، استضافت إدارة الأعمال التجارية لمنطقة «قوانغشي» ذاتية الحكم لقومية «تشوانغ» وغرفة التجارة في «دبي» مؤتمر التعاون الاقتصادي والتجاري بين «قوانغشي، ودبي»، لعام 2023.

ثانيًا: على المستوى السياسي؛ شــهد عــام 2016 سلســلةً مــن التحــرُّكات السياســية للصيــن، أهمهــا؛ الرحلــة الأولــى للرئيــس الصينــي، شي جين بينغ، إلـى دول الشرق الأوسـط؛ «الســعودية، وإيران، ومصــر»، ومــن ثــمَّ إلــى الإمــارات، والتي شــكلّت قــدْرًا كبيــرًا مــن الأهميــة؛ حيــث أتت بعــد تنامٍ كبيــرٍ للانخــراط الاقتصــادي الصينـي فـي المنطقـة، وأرسلت رسـالة واضحـة إلــى دول المنطقــة، تُعبِّر فيهــا عــن أهميــتها بالنســبة للصيــن.

بالإضافــة إلــى إصــدار «بكيــن» لأول ورقــة سياســة عربيــة، فــي 13 ينايــر 2016، بعنــوان وثيقــة سياســة الصيــن تجــاه الـدول العربيـة؛ والتـي تلخّـص رؤيـة الصيـن للمنطقـة، ومـن الأمـور الأساسـية التـي تضمنتهـا الورقـة، هـي التــزام الصيــن بتطويـر علاقاتهـا مـع الـدول العربيـة، علـى أسـاس المبـادئ الـ5، المتمثلــة فــي «الاحتــرام المتبــادل للســيادة ووحــدة الأراضــي، وعــدم الاعتـداء؛ وعـدم التدخـل فـي الشـؤون الداخليـة؛ والمسـاواة والمنفعـة المتبادلــة؛ والتعايــش الســلمي».

ويمكن تتبع النفوذ السياسي الصيني في الشرق الأوسط، من خلال إبرامها خــلال الأعــوام الماضيــة، اتفاقيــات شــراكة إســتراتيجيةٍ شــاملةٍ مــع كُلٍّ مــن «الجزائــر، ومصــر، والســعودية، وإيــران، والإمــارات»، وإقامة علاقات إسـتراتيجية مع كُلٍّ من «قطر، والأردن، والعراق، والمغرب، وعُمــان، والكويــت، وجيبوتــي، والســودان».

وتكشف الوساطة الصينية بين «السعودية، وإيران» هدف «بكين»؛ في أن تصبح لاعبةً إقليميةً، ويُعزِّز الاتفاق الأخير شرعيتها كوسيطة دبلوماسية ثقيلة الوزن، قادرة على حلِّ المنافسة الجيوستراتيجية الأكثر تنافسية في المنطقة؛ ما قد يفتح الباب أمامها لتقدم نفسها كصانعة سلام ذات صدقية على نطاق أوسع، يشمل الصراعات في «سوريا، وليبيا، واليمن»، وبالتالي، تعزيز صورتها كقوة دولية مسؤولة؛ ما يخدم الهدف الذي وضعه الرئيس الصيني، شي جين بينج، بتحويل بلاده إلى قوةٍ عالميةٍ، بحلول عام 2049، من خلال ظهورها كلاعبٍ بنّاء على الساحة الدولية، لا ينكفئ على مصالحه الداخلية فقط.

ثالثًا: على المستوى «الأمني، والعسكري»؛ على الرغم من أن العديد من المشاريع العسكرية العالمية الطموحة للصين مرتبطة بقيادة الرئيس، شي جين بينغ، إلَّا أن بروز هذه التطلُّعات بشكلٍ فعليٍّ يعود إلى عهد الرئيس، هو جينتاو، في عام 2008، عندما أطلقت «بكين» أول مهمة بحرية حديثة لها في الخارج، وقد شهد نشر قوات البحار البعيدة، إبحار 3 سفن حربية، تابعة لبحرية جيش التحرير الشعبي إلى خليج «عدن» كفرقة عملٍ مستقلةٍ لمكافحة القرصنة، ومنذ ذلك التاريخ، أطلقت بحرية جيش التحرير الشعبي، 42 فرقة عمل مرافقة بحرية، وقد رافقت هذه الفرق أكثر من 7000 سفينة «صينية، وأجنبية»، وأنشأت آليات غير رسمية لتبادل المعلومات مع القوات البحرية الأجنبية.

وبحلول عام 2010، أجرت فرقة عمل المرافقة البحرية أول زيارة ميناء للبحرية إلى دولة في الشرق الأوسط، فوصلت إلى ميناء «زايد» في «أبوظبي»، في مارس 2010، كما أرسلت بحرية جيش التحرير الشعبي سفنًا إلى «إيران، والكويت، وعمان، وقطر، والسعودية».

وكذلك أنشأ جيش التحرير الشعبي الصيني أول قاعدة خارجية له، في جيبوتي عام 2017، التي تحوَّلت إلى منشأة دعْمٍ عسكريٍّ، ونقطة قوة إستراتيجية، وقد تمَّ توسيعها لاستيعاب حاملات الطائرات والسفن الهجومية البرمائية، التابعة لبحرية جيش التحرير الشعبي، وهي قدرات غير ضرورية لمكافحة القرصنة، وتمَّت إضافتها بعد فترة طويلة من انحسار هذا التهديد؛ ما يشير إلى رغبةٍ صينيةٍ في الحصول على موطئ قدم للقيام بعمليات في مناطق «المحيط الهندي، والخليج العربي»، ومن ثمَّ من المرجح، ألا تكون هذه القاعدة الصينية الأخيرة، بل من المرجح أيضًا، أن تقرر «بكين» التواجُد بصورةٍ دائمةٍ بدلًا بشكلٍ تناوبيٍّ.

ولا يقتصر انتشار الصين خارج أراضيها على مهمات الأمن البحري؛ فالصين تشارك في مهمات في «جنوب السودان، والجنوب اللبناني»، فيما أفادت تقارير نُشرت في يوليو 2022، بأن هناك زيارات مُكثَّفة لخبراء صينيين لمواقع عسكرية سورية، تزامنًا مع توريد الصين معدات اتصال متقدمة لسوريا، يمكن أن تكون مزدوجة الاستخدام، أيْ تستخدم لغايات «مدنية، وعسكرية»، كما لوَّحت هذه التقارير باحتمالية بيْع «بكين» أنظمةً دفاعيةً للنظام السوري.

هذا إلى جانب ارتفاع مبيعات الأسلحة والتقنيات الدفاعية الصينية، بما في ذلك الطائرات المُسيَّرة؛ حيث تُعدُّ الصين أكبر مُصدِّر للسلاح إلى الجزائر، وثاني أكبر مصدّر إلى السودان، كما أنها خلال الأعوام القليلة المنصرمة، باعت أسلحة لـ«البحرين، ومصر، وإيران، والعراق، وقطر، والسعودية، والإمارات»، علاوةً على ذلك، ارتفع عدد المتعاقدين الأمنيين الصينيين، الذين يقدمون الحماية للبُنَى التحتية الممولة صينيًّا.

ثم توسَّعت الصين لاحقًا نحو مستوى أعلى من الانخراط العسكري؛ حيث تسعى إلى تشكيل تحالُفٍ عسكريٍّ مع إيران، من خلال بناء قواعد عسكرية على ميناء «تشابهار» الإيراني، الذي يقع جنوب شرق إيران، في محافظة «سيستان، وبلوشستان»، وسيسهل الميناء الوصول إلى المحيط الهندي، وكذلك بحر عمان والخليج العربي؛ من أجل تعزيز موقفها التنافسي مع إعلان الولايات المتحدة إستراتيجيتها تجاه منطقة المحيطيْن «الهادئ، والهندي».

وفي أحدث تحرُّكات الصين العسكرية في المنطقة، أعلنت وزارة الدفاع الصينية، عن تنفيذ مناورات بحرية مشتركة في خليج «عمان»، تحت عنوان “حزام الأمن البحري”، بالمشاركة مع «روسيا، وإيران» وعدد من الدول الأخرى، في الفترة من 15 وحتى 19 مارس الجاري.

هل تصبح الصين الحليف الإستراتيجي الجديد للشرق الأوسط؟

بناءً على النفوذ الصيني المتنامي، والذي بدأ يتخطَّى حدود العلاقات الاقتصادية؛ ليتحول إلى نفوذٍ «سياسيٍّ، ودبلوماسيٍّ»، تتشكل ملامحه انطلاقًا من الوساطة في الاتفاق «السعودي – الإيراني»، يبْرُزُ تساؤلٌ رئيسيٌّ، من شأنه أن يرتب تحوُّلات جيوسياسية مهمة في منطقة الشرق الأوسط؛ وهو هل بإمكان الصين أن تتحول إلى حليفٍ إستراتيجيٍّ بديلًا للولايات المتحدة، التي بدأت تبتعد أولوياتها عن المنطقة، بالنسبة لدول الشرق الأوسط، وخاصةً الدول الخليجية؟ وردًّا على هذا التساؤل؛ تنقسم الآراء إلى وجهتيْ نظرٍ على النحو التالي:

الرأي الأول؛ يرى أن الصين مُجهَّزةٌ للعمل كشريكٍ طويل الأمد مع دول الشرق الأوسط؛ ويأتي هذا الرأي مبررًا بعدة عوامل، تدفع نحو تعزيز العلاقات «الصينية – العربية»، منها: أولًا؛ بدأ القادة الإقليميون في النظر إلى «بكين» كشريكٍ أكثر موثوقية؛ بسبب إحباطهم من السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، التي كسرت عامل الثقة بينهم وبين «واشنطن».

ثانيًا؛ العلاقة مع الصين بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي إستراتيجية؛ حيث تتناسب قدرة «بكين» على توفير البنية التحتية والتكنولوجيا مع الرُّؤَى التي يسعى إليها قادة دول الخليج.

ثالثًا؛ سياسة عـدم التدخـُّل، وهـي أحـد المبـادئ الشـاملة لسياسـة الصين الخارجيــة؛ حيــث تحــرص الصيــن علــى ألا يُنظــر إليهــا، وكأنهــا تتدخـل فـي الشـؤون المحليـة لـدول الشـرق الأوسـط، ودائمًا ما أكَّدت أنها تحترم تمامًا دول المنطقة بصفتها سادة شؤونها، وليس لديها نية لمَلْء ما يُسمَّى بالفراغ الأمريكي.

رابعًا؛ تدعــم الصيــن اســتقرار البنيــة السياســية لــدول الشــرق الأوسـط؛ فلا تهتــم بطبيعــة الأنظمــة السياســية الحاكمــة فــي المنطقــة، وبترويــج أيديولوجيتهــا فــي الخــارج، وتتفــق مــع العديـد مـن دول المنطقـة فـي نظرتهـا إلـى الدعـوات الليبراليـة والديمقراطيــة، مــن حيــث اعتبارهــا أدوات تخُــصُّ الــدول الغربيــة.

خامسًا؛ اختلاف نهْجها عن النَّهْج التاريخي للقوى الدولية الكبرى ذات التاريخ الاستعماري؛ فتاريخ الصين تعاوني مع دول المنطقة.

وسادسًا؛ تقارُب وجهات نظر الصين والدول العربية في عدة قضايا مركزية، مثل؛ القضية الفلسطينية؛ حيث دعمت «بكين» المقاومة الفلسطينية «سياسيًا، وماديًا»، وحتى بالأسلحة والتدريب، كما أن موقفها السياسي ما زال – إلى اليوم – مساندًا للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وعلى رأسها؛ «الأمم المتحدة، ومجلس الأمن».

وسابعًا؛ ترى دول المنطقة في الصين حليفًا جذَّابًا؛ لأنه يبتعد عن اللعب بورقة حقوق الإنسان والحرية السياسية، كما أن «بكين» لا تتبنى مبدأ المشروطية السياسية، الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة في تعاملها مع دول المنطقة.

ومن ثمَّ؛ فإن القوة الاقتصادية المتنامية، في ظلِّ انحسار النفوذ الأمريكي إقليميًّا، ستفتح أبوابًا جديدةً أمام التأثير الصيني، سواء «سياسيًّا، أو أمنيًّا»؛ ما يعني أنّ مزاحمة الصين للولايات المتحدة على المنطقة ومحاولة الهيمنة عليها، هي مسألة وقتٍ لا أكثر.

الرأي الثاني؛ يرى أن الصين سيكون لها حضور ملحوظ في الشرق الأوسط، ولكنها لن تتحول إلى القوة الرئيسية في المنطقة، وينطلق هذا الرأي من عدة أسباب، منها: أولًا؛ تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي لا يزال يعاني من تبعات إجراءات الإغلاق، التي جاءت في أعقاب تفشِّي «وباء كوفيد – 19»، وضعف الطلب المحلي، وتضخم الديون، في ظل سوق العقارات الصيني المُضطرب، وثانيًا؛ احتمالية استمرار التوترات الجيوسياسية بين «الصين، والغرب»؛ ما قد يؤدي إلى كبْح فرص تطوير العلاقات «العربية – الصينية» إلى المستوى المرغوب من كلا الجانبيْن.

ثالثًا؛ رفْض دول المنطقة – خاصةً الدول الخليجية – الاعتماد على مبدأ الشريك الإستراتيجي الأوْحد؛ لأن هذا الخيار أثبت فشله لعقود؛ بسبب الرهان على الولايات المتحدة دون سواها.

أما رابعًا؛ عدم قدرة الصين على الإحلال بدلًا من القوى التقليدية، خاصةً على المستوى العسكري؛ لأنها ليست مستعدة بعْدُ لتحمُّل تكلفة الوجود العسكري في منطقةٍ نزاعيةٍ كمنطقة الشرق الأوسط، ولأن تركيزها الأساسي حاليًا يدور حول «منطقة بحر الصين الجنوبي، وتايوان» ومحيطها الإقليمي بشكلٍ عامٍ.

وخامسًا؛ اتساع التواجُد العسكري والاتفاقيات والقواعد العسكرية للولايات المتحدة في كامل الشرق الأوسط، فضلًا عن العلاقات «الاقتصادية، والمالية» المرتبطة «بالبترو – دولار» وارتباط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي، وفوائض الخليج المالية في الغرب.

أما سادسًا؛ رفْض الصين تولِّي مسؤوليات الضامن الأمني، التي تُمثِّل الهدف المعلن لتواجُد القواعد الأمريكية في الخليج، وبالتالي، مسألة وجود الصين كضامنٍ أمنيٍّ للمنطقة، بديلًا عن الولايات المتحدة، أمرٌ لا يزال بعيد المنال.

وبناءً عليه؛ لا يوجد احتمالٌ كبيرٌ، بأن تحلَّ «بكين» محل «واشنطن»، باعتبارها القوة الخارجية الرئيسية في المنطقة، حتى وإن لعبت الصين دورًا دبلوماسيًّا نَشِطًا في الشرق الأوسط، فهذا لا يعني أنها ستزاحم النفوذ الإستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط، كما أنه في حال وقوع انسحابٍ أمريكيٍّ إستراتيجيٍّ من المنطقة، فإن الصين ستضطر أن تتولَّى ضبْط التوازنات، ومسؤولية الحفاظ على مصالحها، ونظرًا لتجربة الصين المحدودة في إدارة الأزمات الدولية؛ فإنها ستعاني «سياسيًّا، وأمنيًّا» بما يُقوِّضُ حضورها الاقتصادي ويشتّت.

إجمالًا:

سواء أصبحت الصين الحليف الإستراتيجي الأوَّل للشرق الأوسط أم لا، فهذا لن يُغيِّرَ من حقيقة أن الصين أصبحت لاعبًا حيويًّا في المنطقة؛ إذ تشير التحرُّكات الصينية الأخيرة، أن «بكين» تحاول رسْم نظامٍ عالميٍّ جديدٍ بقوةٍ ناعمةٍ، تعتمد على الوجهة الاقتصادية؛ لتصبح لاعبًا ذا وزْنٍ في الشرق الأوسط على كافة المستويات «الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية»؛ فالعلاقة بين مبادرة الحزام والطريق والشراكات الإستراتيجية التي توجدها في المنطقة؛ تسمح للصين بالسيطرة تدريجيًّا على المنطقة، دون خلْق توتُّرات مع الولايات المتحدة أو الغرب، وبعبارةٍ أُخرى، ترغب الصين في نقْل الهيْمنة من «الغرب، والولايات المتحدة» إلى الصين دون حربٍ أو صراعٍ.

 

 

كلمات مفتاحية