وقف اطلاق النار المؤقت في السودان و الحق في المساعدة الإنسانية

بقلم دكتور أيمن سلامة :

بين ليلة وضحاها، تحول السودان إلى ساحة حرب أطرافها داخليون، وضحاياها حتى الآن ما يزيد عن مائة قتيل  وما لا يقل عن أربعمائة  جريح، وفق ما أعلنت نقابة أطباء السودان، صباح اليوم الإثنين، فيما تتوالى الدعوات الدولية إلى وقف القتال المتواصل لليوم الثالث بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مع سماع إطلاق نار ودوي انفجارات في العاصمة الخرطوم وأنحاء مختلفة من البلاد.

وفيما لا يرتسم في الأفق أي وقف لإطلاق النار، دق الأطباء والعاملون في المجال الإنساني ناقوس الخطر، فبعض الأحياء في الخرطوم محرومة من التيار الكهربائي والمياه منذ السبت وخرجت مستشفيات عدة عن الخدمة بسبب إطلاق النار، بينما حذّرت متاجر البقالة القليلة التي لا تزال مفتوحة من أنها لن تصمد أكثر من أيام قليلة إذا لم تدخل شاحنات المؤن إلى العاصمة.

الوقف  المؤقت لإطلاق  النار

حِين تدعو الضرورة أثناء القتال بشكل عام إلى وقفه توقيفا مؤقتا، وذلك لأغراض مختلفة من بينها إغاثة الجرحى الموجودين في الميدان، ونقل جثثهم ودفنهم، يعقد المتحاربون اتفاقا لوقف إطلاق النار، والأخير هو اتفاق عسكري مؤقت وليست له صفة سياسية، ولا ينص في ذلك الاتفاق على شروط ذات طابع سياسي، خلافا لاتفاقات الهدنة ذات الطابع السياسي العسكري.

ورغم أن الغالب أن يتم الاتفاق بين المتحاربين وبإرادتهم السياسة الحرة، إلا أنه وفي الآونة الأخيرة وفي الحالات التي من شأن استمرارها تهديد للسلم والأمن الدوليين، نجد أن مجلس الأمن يقوم بإصدار قراراته في شأن حفظ السلم والأمن الدوليين وإعادتهما لنصابهما، وتتضمن مثل هذه القرارات الأمر بوقف إطلاق النار من جانب المتحاربين.

ومن أشهر الحالات التي اضطلع فيها مجلس الأمن بإصدار قرارات تقضي بوقف اطلاق النار بين المتحاربين في هذا الشأن في حرب أكتوبر عام 1973، والحرب اللبنانية الإسرائيلية عام 2006.

يَتسم الوقف المؤقّت للأعمال العدائية العسكرية بين المتحاربين بالمزيد من عدم الرسمية، ويمكن أن يكَون خُطوة أولية تجاه الوصول إلى اتفاق أكثر رسمية، وقد تفسر عبارة ” الوقف المؤقت لإطلاق النار ” بحسبانها مرادفة لعبارة ” الوقف المؤقت للأعمال العدائية ” أو “وقف إطلاق النار “.

وتأسيساً على ذلك؛ تُفسر هذه العبارة بأنها وقف مُتفق عليه للقتال، محلياً كان أم عاماً خلال فترة زمنية من زمن النزاع المسلح، وليس بالضرورة أن ينهي هذا الاتفاق النزاع المسلح بين الأطراف المتحاربة سواء بحكم القانون أو بحكم الواقع.

ليس من اليسير الخوض فيما إذا كانت المساعدة الإنسانية حق من حقوق الإنسان وفقا للقانون الدولي أم لا، لأن هذه المسألة ترتبط بتطور حقوق الإنسان الدولية، حيث إن البحث عن حق المساعدة الإنسانية يجب أن يتحدد في إطار المحافظة على سلامة ومصداقية حقوق الإنسان على أساس أنها المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تلبيه كافة الشعوب والأمم، وبالتالي يعتبر أنصار فكرة “الحق بالتدخل” في القرارين الصادرين عن الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة (43/131) عام 1988 و(45/100) عام 1990، والمتعلقين بالمساعدة الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ المماثلة، أنهما يقرران شرعية المساعدة الإنسانية المقدمة لضحايا الكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة، ذلك كونهما يشكلان نقطة البداية نحو تقنين الحق في المساعدة الإنسانية.

المساعدات  الإنسانية

يختلف الوضع بخصوص المساعدة الإنسانية المقدمة في حالات النزاعات المسلحة المختلفة، فالإشكاليات التي ترافق المساعدات الإنسانية المقدمة في هذا المجال تزداد تعقيدا، لأن النزاع المسلح يدخل في سياق سياسي، وهو ما يؤدي إلى عرقلة عمليات الإنقاذ الوافدة من الخارج سواء كانت بطلب من الدولة نفسها، أم بمبادرة من المنظمات الدولية الحكومية أو غير الحكومية ، وهو عين ما يحدث الآن في السودان .

وتخضع عملية تقديم المساعدات الإنسانية، بوجه عام، إلى عدد من المبادئ الأساسية، أهمها: يجب أن يكون الغرض من المساعدة الإنسانية منع أو تخفيف المعاناة الإنسانية، وحماية الحياة وضمان احترام الإنسان، وينبغي توفيرها لكل من يحتاج إليها دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المولد أو أي وضع آخر، وينبغي توفير المساعدة بصورة أولية في حالات الشدة الأكثر خطورة أو إلحاحا، ولا ينبغي توفيرها لتعزيز أي وضع سياسي أو ديني، ويجب أن تحترم المساعدة ثقافة وبنية وعادات المجتمعات والدول، وتتحدد آلية المساعدات الإنسانية بإنشاء “ممرات إنسانية”، وفقا لقرار الجمعية العامة (45/100) عام 1990، من خلال التنسيق ما بين الدول المعنية والدول المجاورة، والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية التي تقدم المساعدة الإنسانية.

الممرات الإنسانية

صارت “الممرات الإنسانية” مصطلحا شائعا في معظم النزاعات المسلحة، خاصة تلك التي يسمها  القانون الدولي الإنساني “النزاعات المسلحة غير الدولية” مثل النزاع المسلح  الدائر في السودان منذ السبت الماضي ، تمييزا لها عن النزاعات المسلحة الدولية التي تنخرط فيها الجيوش النظامية للدول، كما أضحى المصطلح يختلط بمصطلحات أخري يصعب أحيانا التمييز بينها.

يدل مصطلح الممر الإنساني علي منطقة خالية من الوجود العسكري، يقوم طرف ثالث بحمايتها عادة ما تكون قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة أو الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر، ويكون هذا الطرف خارج النزاع القائم، فيمكث المدنيون بعيدا عن الأخطار التي تهدد حياتهم، كما تعني مناطق خالية من الوجود العسكري يجري الإعلان عنها أثناء الاضطرابات أو نزاع مسلح بقصد حماية المدنيين، وإيصال المساعدات والخدمات الإنسانية لهؤلاء بواسطة طرف ثالث، كما ينصرف إلى المواقع والطرق والمعابر المتفاوض عليها بين أطراف النزاع من أجل نقل المساعدات للضحايا، فهي بذلك ممرات محددة في الزمن والنطاق الجغرافي تستخدم لضرورتها في توفير المساعدات والخدمات الصحية الأساسية، لا سيما الإمدادات بالغذاء والماء لصالح الأشخاص المتضررين من الحرب.

توفر الممرات الإنسانية حلا مثاليا للمنظمات الإنسانية فيما يتعلق بعملياتها من أجل توفير الحماية والمساعدة للذين يتضررون من جراء الحرب، حيث يتطلب موافقة كافة الأطراف المحاربة وكسب ثقتهم بالنسبة إلى تسليم المساعدات الإنسانية، لكن أحيانا تفرض هذه الممرات والمناطق المحمية جبرا حين يصدر بصددها قرار من مجلس الأمن تأسيسا على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والمثال الصارخ الذي يضرب في هذا الصدد المناطق الآمنة التي أنشئت في جمهورية البوسنة والهرسك أثناء الحرب اليوغسلافية في منتصف التسعينات من القرن المنصرم 1991-1995، ويطلق على هذه الممرات عدة تسميات منها: الممرات الإنسانية الآمنة، والملاذات الآمنة أو المناطق الإنسانية الآمنة.

توفر اتفاقيتا جنيف الأولي والرابعة عام 1949 إمكانية إنشاء مناطق استشفاء وأمان، كما تعرضان مشروع اتفاق بشأن إقامة هذه المناطق، ملحقا بكل منها، وعلاوة على ذلك توفر اتفاقية جنيف الرابعة إمكانية إنشاء مناطق محايدة، والقصد من إنشاء هذين النوعين من المناطق إيواء الجرحى والمرضى والمدنيين ووقايتهم أخطار النزاع المسلح، وبينما تقام مناطق الاستشفاء والأمان بعيدا عن مسرح العمليات العسكرية، تقام المناطق المحايدة في الميادين التي تدور فيها عمليات عسكرية بين المتحاربين، وقد أدمجت الأحكام ذات الصلة بهذا الأمر من اتفاقيات جنيف في الكثير من كتيبات الدليل العسكري للدول التي تؤكد وجوب احترام هذه المناطق، وبمقتضى تشريعات عدة دول يعتبر الهجوم عليها جرما.

أمثلة صارخة للمرات و المساعدات الإنسانية

لقد جرى الاتفاق على مناطق توفر ملاذا آمنا للجرحى والمرضى والمدنيين في نزاعات مسلحة دولية وغير دولية، وعلى سبيل المثال أثناء حرب التحرير في بنغلادش والنزاعات المسلحة في كمبوديا وتشاد وقبرص ونيكاراغوا وسيريلانكا ويوغوسلافيا السابقة، وأنشئت معظم هذه المناطق بناء علي اتفاقات مكتوبة استنادا إلى المبدأ الذي يوجب عدم الهجوم علي المناطق التي تنشأ لتكون ملاذا آمنا للجرحى والمرضى والمدنيين، هذا ويتعين عدم مهاجمة المناطق التي لا تحوي إلا الجرحى والمرضى، أو أفراد الخدمات الطبية والدينية، أو أفراد الغوث الإنساني أو المدنيين، تطبيقا للقواعد المحددة التي تحمي هذه الفئات من الأشخاص، والتي تنطبق في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية.

المبادئ الأساسية لإنشاء  الممرات الإنسانية

هناك عدد من الأسس والمبادئ الإنسانية التي تحكم إنشاء وعمل الممرات الإنسانية، تستند إلى مبادئ حركة الصليب الأحمر والهلال الأحمر التي تم تطويرها تأسيسا علي مبادئ القانون الدولي الإنساني، فيتطلب مبدأ الإنسانية تخفيف المعاناة حيثما أمكن ذلك، مع إيلاء اهتمام خاص للفئات الأكثر ضعفا من السكان، ويعني مبدأ عدم التحيز أن المساعدة تقوم على الحاجة فقط، فيجب ألا تميز بين السكان على أساس العمر أو الجنس أو الدين، ويحظر مبدأ الحياد تفضيل أطراف معينة في حالات الصراع أو الانحياز إلى جانب واحد، لذلك فتصور منظمات الإغاثة على أنها محايدة أمر بالغ الأهمية لسلامة أولئك الذين يقدمون المساعدة.

ختامًا :

صفوة القول، يُعد احترام الكرامة الإنسانية المبدأ الأسمى في العمل الإنساني من أجل تخفيف المعاناة والمشقة، ويمثل احترام والحفاظ على الكرامة الإنسانية تحديا كبيرا للمجتمع الدولي، خاصة للمنظمات العاملة في المجال الإنساني ، ولن تتحقق الظروف المواتية للمساعدات  الإنسانية العاجلة في السودان دون اتفاق مؤقت لوقف اطلاق النار بين الفريقين المتناحرين في البلد المكلوم .

كلمات مفتاحية