إعداد: رضوى الشريف
إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، لن تعود مثلما كانت قبله، والمِثْل بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية؛ فحدثٌ تاريخيٌّ مهمٌّ بالمفهوم العسكريّ، والسياسيّ والاستراتيجي، لعملية «طوفان الأقصى» ستستمر تباعاته ونتائجه، حتى بعد انتهاء الحرب الدائرة حاليًا، والتي تدخل في أسبوعها الثاني، بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
وتثير المعارك بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل تقديرات متزايدة ومتفاوتة، بل متعاكسة، حول مآلات المشهد الإقليمي، وبالرغم من أن إكراهات السياسة في الإقليم والعالم، قد لا تسمح بتغييرٍ كبيرٍ في خرائط القوة والسيطرة، إلا أنها فتحت باب الإمكان، وأظهرت قابلية نشطة للتغيير، مُعزّزة بالهمة والإرادة والإصرار، ومُوَقّعة – مرةً أُخرى –بالدماء وسفك الأرواح.
وثمَّةَ ملاحظات هامة تم استنتاجها من خلال تقييم ومتابعة المشهد الحالي؛ أيْ العدوان الإسرائيلي على غزة، وما يتبعه من مواقف وردود فعل إقليمية ودولية متباينة، ومدى جدواها وتأثيرها على مستقبل الصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي».
الملاحظة الأولى: تزايد القلق الوجودي لإسرائيل
يمتلك العالم العديد من الصور لإسرائيل، ولكن إسرائيل لديها صورة واحدة فقط لنفسها، وهي صورة “شعب في طريقه إلى الزوال”، ويشير مصطلح “قلق الوجود لإسرائيل” في الأبحاث الأنثروبولوجية إلى حالة الخوف الشديدة من زوال إسرائيل بسيناريوهات كثيرة متخلية لديهم، فهل يظن الإسرائيليون – فعلًا- أن دولتهم ستزول؟
في دراسة أجراها الباحث الإسرائيلي “غاد يائير”، حول أسباب القلق الوجودي لأبناء شعبه، وجد أن التاريخ الديني وطريقة تناقله، أحد أسباب الشعور بخطر زوال إسرائيل؛ إذ يرى غالبية الإسرائيليين، أن العالم كله عدوٌ لهم.
فمن العوامل المهمة التي ستزيد من قلق إسرائيل من زوال دولتهم، هو حالة الرعب والتخبُّط التي ستتركها عملية «طوفان الأقصى» داخل المجتمع الإسرائيلي؛ حيث أهم ما أظهرته عملية «طوفان الأقصى» هو أن القدرات العسكريّة والتحديث في الأسلحة ومليارات الدولارات الّتي تقدّمها أمريكا، ومختلف الدول الغربيّة لإسرائيل، والصناعات العسكريّة الدقيقة وغيرها، ليست ضمانة لا للتفوّق الميدانيّ، ولا هي ضمانة للعيش بسلام مع بقيّة شعوب المنطقة.
فنرصد أن اهتزاز ثقة الإسرائيليين بالحكومة والجيش؛ جعلت من الضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ، وقد تعزَّزت هذه الفكرة بعد اتضاح حجم الخسائر الكبيرة، التي وقعت في صفوف الإسرائيليين، وتنامي الرغبة في رأْب الصَّدْع، وتقليص الخلافات التي عصفت بالمجتمع الإسرائيلي، في الأشهر الأخيرة الماضية، والحاجة إلى ضمِّ ذوي الخبرة من القادة إلى دائرة صنع القرار.
وبالرغم من “الوحدة” التي يرونها ضرورية للتغلب على المقاومة الفلسطينية، فإن إسرائيل تواجه قرارات صعبة؛ في مقدمتها تحديد هدف هذه الحرب بدقة، فثمَّةَ شبه إجماع، بأنه ينبغي ألا تكون مثل الحروب السابقة، التي شنَّتها إسرائيل ضد غزة، وينبغي تغيير الاستراتيجية تجاه غزة و«حماس» تغييرًا جذريًّا؛ بهدف القضاء عليها تمامًا، بيْدَ أن تحقيق هذا الهدف يستدعي (احتلال قطاع غزة أو أجزاء منه)؛ لأن إسرائيل لن تستطيع حسْم الحرب من الجوِّ، مهما دمرت من منشآت ومبانٍ، ومهما ارتكبت من مجازر.
وإذا قررت إسرائيل أن تجتاح القطاع برًّا، فإن ذلك سيترتب عليه تكبُّد خسائر كبيرة في حروب المدن، التي تعرف حركة «حماس» كيفية خوضها بشكلٍ جيِّدٍ، بالإضافة إلى ذلك، فإن قوات المشاة في الجيش الإسرائيلي غير جاهزة ومستعدة بما يكفي لخوض حرب برية، وهذا طبقًا لآراء بعض الخبراء العسكريين الإسرائيليين، الذين لديهم تحفُّظات على تلك الخطوة؛ فثمَّةَ فرْقٌ كبيرٌ بين ما تفعله في الضفة الغربية؛ حيث تقوم بدور الشرطة وتواجه مجموعات غير مدربة عسكريًّا، وتستعمل أسلحة قديمة، وبين ما يمكن أن تواجهه في غزة؛ حيث الوحدات العسكرية التابعة لـ«حماس» والفصائل الأخرى متمرسة في قتال المدن.
ولكن تتكرر الدعوات في الأيام الأخيرة، من أبرز القادة العسكريين في إسرائيل، إلى استعمال سلاح الجو الإسرائيلي، أطول فترة ممكنة، في ضرب البنية التحتية في غزة، وتدمير الأحياء التي توجد فيها الحركة، واستهداف قادتها وأفرادها من دون استثناء، وتمهيد الطريق بأقصى درجة ممكنة، أمام الهجوم البري الذي تشارك فيه تشكيلات القوات البرية المختلفة، والذي قد لا يهدف إلى احتلال كل القطاع بالضرورة، ولكن أجزاء منه.
من المهم هنا الأخذ بعيْن الاعتبار، وضوح جدّيّة تهديد «حزب اللّه» بأنّه لن يبقى متفرِّجًا، وخصوصًا أنّه حصل على الضوء الأخضر من إيران للتدخّل في حالة الدخول البرّيّ، وهذا واضحٌ من التسخين اليوميّ المتصاعد على الجبهة الشماليّة، والتدخّل من قبل «حزب اللّه» سوف يلقى ترحيبًا عربيًّا شعبيًّا وإسلاميًّا، وسيُعيد مكانة «حزب اللّه» إلى الواجهة، كما كان الأمر بعد حرب تمّوز عام 2006، وهذا مالا ترغب به أمريكا، خاصَّةً أن مصالحها هي الأخرى قد تتهدد بانخراط أطراف دولية أخرى في الحرب.
الملاحظة الثانية: تباين نسبي في المواقف العربية
لعل أبرز ما تمَّ رصْدُه خلال الأيام السابقة، هو تباين نسبي ومتفاوت وغير مُوحَّد في خطابات الدول العربية المرتبطة بموقفها وتندديها تجاه العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة؛ فهناك دولٌ عربيةٌ حمَّلت إسرائيل المسؤولية الأولى منذ إعلانها للحرب وتشديد الحصار على قطاع غزة، ومحاولة تهجيرهم بشكلٍ قسريٍّ إلى المدن الجنوبية للقطاع، وكانت من أُولى الدول الداعمة للفلسطينيين هي الدولة المصرية، التي لم تتوانَ فقط في إدانة إسرائيل، بل تُكثِّفُ من تحركاتها، مُرْتكزةً على أولوية إدخال المساعدات الإنسانية، ورفْض مساعي التهجير إلى سيناء، وترى أن القضية الفلسطينية “أمام منعطف هو الأخطر في تاريخها”.
وتشدد مصر دائمًا على أهمية الحلول السياسية للقضية الفلسطينية، وفقًا لقرارات مجلس الأمن الدولي، وعدم الاستخفاف بنتائج حصار غزة؛ لأنه يمكن أن يقود إلى انفجارٍ، سيكون أوَّلَ ضحاياه إسرائيل نفسها، التي أفرطت قواتها في ممارسة العنف بالأراضي المحتلة، وفتحت الباب على مصراعيْه لمتطرفين ومستوطنين؛ للعبث بالمقدسات.
ومن المهم هنا التنويه لمن ينساق خلف الخطة الإعلامية الغربية، التي تُروِّجُها إسرائيل والغرب، والتي هدفها الضغط على مصر لفتح حدودها الشرقية؛ لكي يمر النازحين، مبررةً ذلك، بأنه سيكون موقفًا إنسانيًّا لمصر لحماية المدنيين، ولكنه في الواقع، خطة خبيثة وغير أخلاقية، تسعى لتصفية القضية الفلسطينية، ونسْف حقوق الفلسطينيين، من أيِّ شبْرٍ في أراضيهم المحتلة.
وكانت من أوائل الدول العربية الأخرى، التي أدانت بكل وضوح إسرائيل، هي «المملكة العربية السعودية، والأردن، وقطر، والكويت، والجزائر، وتونس، وسلطنة عمان»، الذين حمَّلوا المسؤولية الكاملة على حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وأدانوا جرائمها بأشد العبارات.
بينما كانت “الإمارات” في الأيام الأولى، تأخذ موقفًا حَذِرًا وحياديًّا تجاه ما يحدث، فتارةً تُعزِّي الضحايا المدنيين من كلا الجانبينْ، وتعلن ضرورة “ضبط الأنفس”، وتارةً أخرى، تعلن عن دعمها للمدنيين الفلسطينيين في غزة، عن طريق تخصيص 20 مليون دولار؛ لدعم الفلسطينيين، ناهيك عن المزاعم التي روَّجها الإعلام الغربي، حول وصول سرْبٍ من الطائرات العسكرية الأمريكية إلى قاعدة “الظفرة” الجوية؛ لتقديم الدعم إلى إسرائيل، والتي نفتها وزارة الدفاع الإماراتية بكل حزْمٍ.
لعل موقف «الإمارات، والبحرين» خصوصًا، اتَّسما بشكلٍ من الضبابية؛ ارتباطًا بأن هناك اتفاقات تطبيع بينهما وبين إسرائيل، والتي يبدو أنها تمنعهما من أن يأخذا موقفًا شديدًا وحازمًا عن باقي الدول العربية الأخرى.
تنقلنا تلك النقطة المهمة إلى أن عملية «طوفان الأقصى» تثبت بوضوح، أن تركيز المجتمع الدولي على الاتفاقات الإبراهيمية، بما في ذلك، المفاوضات «السعودية – الأمريكية» لدخول المملكة هذه الاتفاقات، مع استمرار تجاهل جوهر الصراع «العربي – الإسرائيلي»، وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتحقيق الشعب الفلسطيني لتطلعاته الوطنية، هي سياسة قاصرة لن يُكتب لها النجاح، لقد جاءت عملية «طوفان الأقصى»؛ لتُسقط الحجة الإسرائيلية، التي ينادي بها “نتنياهو”، أن السلام مع الشعب الفلسطيني ليس ضروريًّا، ما دامت إسرائيل تستطيع التطبيع مع الدول العربية، من دون التوصُّل إلى حلٍّ مع الجانب الفلسطيني.
الملاحظة الثالثة: ازدياد الزَّخَم الشعبي حول المقاومة الفلسطينية
في كل مرةٍ ينتفض فيها الفلسطينيون، يستحضر الغرب -الذي لا يتوانى عن تمجيد مقاومة الأوكرانيين – كلمة “الإرهاب”، هكذا أدان الغرب “بشدة الهجمات الإرهابية الجارية ضد إسرائيل”، دون الإشارة الى استمرار الاحتلال والحصار لقطاع غزة هو مصدر هذا العنف.
ولكن لايزال صمود الفلسطينيين عنيدًا، ولا يمكن كبحه، وهذا الصمود ي يُذْهِل الإسرائيليين والغرب، كما حدث خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 والانتفاضة الثانية عام 2000، وقد شهدنا هذا الصمود أيضًا خلال عمليات المقاومة في الضفة الغربية وجهود التعبئة من أجل القدس، كما ظهر هذا الصمود أثناء المواجهات المستمرة في محيط غزة؛ حيث يعيش السكان تحت الحصار منذ عام 2007، وتعرضوا لحروب متكررة على مدى 17 عامًا، هذه الحروب أسفرت عن خسائر ضخمة بين السكان المدنيين الفلسطينيين.
لهذا السبب، يمكننا أن نرى أن كل ما حدث وما يحدث حتى الآن، يتوافق تمامًا مع قوانين الفيزياء التي نعرفها جميعًا، والتي تشير إلى أن زيادة الضغط تؤدي إلى الانفجار، بعد عقود من الاحتلال والحصار واغتيال القادة والقتل اليومي وانتهاكات حرمات الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته؛ يصبح من المستحيل عدم توقُّع ردّ فعْلٍ من جانب الشعب الفلسطيني، والمفاجأة الحقيقية هي قدرتهم على التحمُّل؛ حتى وصلوا إلى نقطة الانفجار.
ويُضفي التأييد العربي والإقليمي والعالمي، الذي حظي به «طوفان الأقصى»، قدْرًا من “الشرعية” لحالة المقاومة التي تضاهي تلك التي يمنحها المجتمع الدولي، سواء عبر القوى الكبرى أو ذراعها الأممي، وهو ما يقدم بُعْدًا جديدًا للزَّخَم الدولي الذي تحظى به القضية الفلسطينية، بعد محاولات دولية حثيثة لتهميشها، عبْر تأجيج الفوضى في المنطقة بأسرها، في العقْد الماضي؛ لتتوارى خلف مخاوف أمنية جرَّاء الحروب والإرهاب والتهديدات التي أحاطت بدول المنطقة.
وبالتركيز عن حالة “المقاومة” والشرعية التي اكتسبتها في الفترة الأخيرة، يتضمن كافة الفصائل الفلسطينية فيها، ولا تمنح أيَّ فصيل أفضلية على الآخر، بالإضافة إلى ذلك، تمتد هذه الشرعية أيضًا إلى كل الإجراءات الداعمة التي اتخذتها الدول المؤيدة للقضية الفلسطينية، خصوصًا الدولة المصرية، التي قامت بتبنِّي خطوات جادة نحو تحقيق المصالحة الفلسطينية؛ حيث شاركت دول أخرى مثل «المملكة العربية السعودية، والجزائر »في جهودها، وأيضًا في الساحة الدبلوماسية، من خلال سعيها للحصول على عضوية في الأمم المتحدة، وتقديم قضية الاحتلال إلى محكمة العدل الدولية؛ لتحديد وضعها القانوني، بالإضافة إلى ذلك، تُجسِّد هذه الشرعية جانبًا تنمويًّا واقتصاديًّا، من خلال مؤتمر «دعم القدس»، الذي أُقيم تحت عنوان “صمود وتنمية” في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، في فبراير الماضي، شهد هذا المؤتمر مشاركة قادة من «القاهرة، عمان، وفلسطين»، وقد تم تقديم أكثر من 82 مشروعًا تنمويًّا، يلبي احتياجات مدينة القدس في مختلف القطاعات، وقد تمَّ أيضًا تشكيل فريق قانوني لدعم صمود أهل القدس، خاصَّةً في ظل الحرب المستمرة التي يشنُّها الاحتلال على كل ما يمُتُّ لفلسطين بصلة، وبالتالي، يمكن اعتبار الزَّخَم الحالي الذي تشهده القضية الفلسطينية على المستوييْن «الإقليمي، والدولي» هو نوعٌ من التتويج لهذه الحالة الشاملة.
وبالرغم أننا أيضًا لا نستطيع أن ننفي وجود خطط عسكرية متقدمة وقدرات تدميرية قوية لدى إسرائيل؛ لكي تقضي على «حماس»، إلا أنها لا تملك هي ومن وراءها أمريكا، القدرة على التحكُّم في مصير الآخرين، ويبدو أنهما لا يتعلمان من تجاربهما السابقة، وغير قادرين على طرْح الأسئلة الهامة، حول ما سيحدث في المستقبل؛ لأن فكرة سحْق المقاومة تظل مستحيلة، حتى إذا حققت إسرائيل “انتصارها” في القطاع، من خلال كارثة إنسانية لا مثيل لها.
هل تعتقد إسرائيل أن محاولة فرْض سلطتها بدلًا من فصائل المقاومة الفلسطينية على السكان في غزة، سواءً عبر القوة العسكرية الغاشمة أو بدعم أمريكي، ستكون كافية لمنع المقاومة؟ المقاومة ليست مجرد تشكيلات فصائلية أو تنظيمات، بل هي قضية أساسية وضرورية للفلسطينيين؛ للبقاء على أرضهم، وإنهاء الظلم والاضطهاد التاريخي واليومي الذي يعانون منه.
ما تغفل عنه إسرائيل والغرب، هو أن المقاومة الفلسطينية ليست فردًا أو جماعة تنظيمية مسلحة يحاولون ” دعشنتها”، بل هي فكرة ومسألة وجوديّة بالنسبة للفلسطينيّ؛ للبقاء على أرضه، ومحاربة تلك الفكرة لا تعني محاربة الفلسطينيين فقط، بل باقي شعوب البلدان الإقليمية وشرائح كبيرة من المنددين لإسرائيل دوليًّا.
الملاحظة الرابعة: إحداث شرْخ في المنظومة الإعلامية الغربية وتشويه صورة إسرائيل في الخارج
في بداية الحرب الحالية، استغلّت إسرائيل بعض المشاهد الّتي أثارت انتقاداتٍ حول عمليتها العسكرية الغاشمة في غزة، وشوّشت على ما تعتقده ظاهريًّا، أنه “نصر”، فبثّت أكاذيب لم تقُمْ بها المقاومة، وتمَّ الترويج لها في أمريكا والغرب، مثل «بقْر بطون حوامل، واغتصاب نساء، وقطع رؤوس أطفال»؛ في محاولةٍ “لدعشنة” «حماس»، وتشبيه ما حصل بأحداث 11 سبتمبر 2001، وقد صدَّق الرواية حتّى بعض العرب الّذين أعادوا الكذبة، وصدّقها الشعب في إسرائيل الّذي صدم من هوْل ما حدث، فاستغلت هذا الغطاء الدولي لتنفيذ مجازر مُروِّعة ضد المدنيين العُزَّل، تفوقت في فظاعتها مجازر نكبة عام 1948؛ حيث قتلت أكثر من ألف طفل فلسطيني، خلال الأيام الأخيرة، وأُصيب مئات النساء وآلاف المدنيين بجروح، وقامت بإلقاء قنابل أكثر ممّا ألقته أمريكا على أفغانستان خلال عام، وقامت بتدمير عشرات آلاف المنازل، ومنْع الماء والكهرباء والوقود، وكلّها جرائم حرب.
بجانب الجريمة الشنيعة والمروعة، التي قامت بها إسرائيل بقصفها لمستشفى المعمداني، الثلاثاء 17 أكتوبر، مُسْفرةً عن مقتل ما يقارب من 500 فلسطيني، منهم عددٌ كبيرٌ من الأطفال والمسعفين والأطباء.
ولكي تفلت إسرائيل من جُرْمها، أسقطت المسؤولية على حركة «حماس»، ووجهت قنواتها الإعلامية، متمثلةً في محطة “بيي بي سي” بتسليط التهمة عليهم؛ حيث نشرت تقريرًا بعنوان “هل تبني حماس الأنفاق أسفل المستشفيات والمدارس؟”، بينما حثَّ الغرب الداعم لإسرائيل، بضرورة تشكيل لجنة تحقق في ذلك “الحادث الأليم”.
الالتفاف الإعلامي الغير الأخلاقي واللامهني الذي تُروِّجُه المنصات الإخبارية والإعلامية الممولة إسرائيليًّا وأمريكيًّا عن الجرائم والمجازر التي ترتكبها إسرائيل بكل وضوح وغير قابلة للتأويل، أصبحت تهدد مصداقية وشفافية تلك المنصات نفسها، وانقلب السحر على الساحر؛ حيث بدأت الحقائق تتكشّف، أوّلًا لدى الشعوب العربيّة الّتي بدأت تتململ وتتظاهر ضدّ الحرب على غزّة، وتدعو لمساعدة ومساندة الفلسطينيين وإدانة إسرائيل، ثمّ في أوروبا وأمريكا؛ حيث أصبحت الأكاذيب الإعلامية غير منطقية لدى شرائح كبيرة من الخارج بعد حادثة مستشفى المعمداني، حتى من كان يقف مساندًا لإسرائيل سيعجز وسيستحي عن مساندتها.
الملاحظة الخامسة: التاريخ يعيد نفسه
والملاحظة الأخيرة هنا، هو أن التاريخ – سواء شئنا أم أبينا- يعيد نفسه، وكل من «الولايات المتحدة، وإسرائيل» لم تستفد من دروسها السابقة في الحروب التي خاضوها، بدْءًا من فيتنام وصولاً إلى «لبنان، وأفغانستان، والعراق»، لم يتعلموا الدروس المتعلقة بالافتراء والكذب كوسيلة لتبرير الحروب، أو محاولة فرْض سيطرتهم السياسية على الشعوب، كما حدث في حالة «أفغانستان، والعراق»، وكما حاولت إسرائيل فعل ذلك في لبنان.
في لبنان، حاولت إسرائيل بالاجتياح، تنصيب نظام سياسي متحالف معها، وتدمير المقاومة «الفلسطينية، واللبنانية»، ولكن من يسيطر على المشهد السياسي في لبنان اليوم؟ «حزب الله» هو من يمتلك تأثيرًا كبيرًا.
في أفغانستان، سعت الولايات المتحدة للقضاء على «تنظيم القاعدة، وطالبان»، واليوم، «طالبان» هي من تدير المشهد في أفغانستان، بعد الخروج الأمريكي المتعثر منها.
في العراق، قامت الولايات المتحدة بإطاحة نظام «صدام حسين»، وحلَّت الجيش العراقي، ولكن اليوم، إيران هي من تمتلك تأثيرًا كبيرًا على المشهد السياسي في البلاد.
وحتى فيما يتعلق بحجم الاتهامات الموجهة لـ«حماس»، سواء من قِبَلِ الجانب «الإسرائيلي، والأمريكي»، يظهر أنهما يسعيان إلى تكرار نهْج العراق، فالولايات المتحدة ليست مجرد مساندة لإسرائيل في هذا الصراع، بل هي شريكٌ فعليٌّ في اتخاذ قرار الحرب، وتشجيع إسرائيل ودعمها في سحْق حركة «حماس»، وتزويدها بالأسلحة والتجهيزات اللازمة لتدمير «حماس».
هذه الأمثلة، تُظهر كيف أن استراتيجيات القوى الكبرى لم تُحقق أهدافها المرجُوَّة، وأدت في النهاية إلى تعقيدات سياسية وأمنية جديدة، تؤثر على المنطقة وتحُدُّ من قدرتها على التحكُّم في الأحداث.
لذا ينبغي إثارة سؤالٍ أساسي: ما هي الأهداف التي تسعى إسرائيل والولايات المتحدة لتحقيقها من خلال هذا الدمار؟ هل تهدف إلى إنهاء سيطرة «حماس» على قطاع غزة والقضاء على المقاومة؛ ما يعني تغيير الواقع لصالح إسرائيل، ومحاولة منْع أيِّ مظهر للمقاومة؟ ولكن تاريخ الخبرات السابقة للولايات المتحدة، يشير إلى أن هذا يُعْتَبَر أمرًا غير قابلٍ للتحقيق.
وباسترجاع التاريخ مرةً أُخرى، نجد أن إسرائيل تسيطر على الضفة الغربية والقدس منذ عام 1967، سواء برًّا أو جوًّا، وخلال الانتفاضة الثانية، شنَّت حملةً عسكريةً ضد المقاومة المسلحة، وأعادت احتلال المدن الفلسطينية، ومع ذلك، لم تتوقف المقاومة في الضفة الغربية، هل لاحظنا أن الجيش الإسرائيلي، والذي يُعتَبَر “أقوى جيش في المنطقة”، تعثّر مؤخرًا في مواجهة مجموعة صغيرة من المقاومين المسلحين أثناء اجتياحه لمخيم جنين؟
وكما علّمنا الماضي أيضًا، أن أزمات الصراع «العربي – الإسرائيلي» أدَّت إلى عمليات سياسية، فحرب أكتوبر 1973، أفضت إلى اتفاقية السلام «المصرية – الإسرائيلية»، وأدَّت الانتفاضة الأولى إلى مؤتمر مدريد للسلام ثم أوسلو، لكن الظروف مختلفة في الوقت الراهن؛ فالحكومة الإسرائيلية – اليوم- في ذروة تطرُّفها وعنصريتها، وليست راغبةً في أيِّ مفاوضات جدية، يُضاف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة منشغلة بالانتخابات الرئاسية، وليس من مصلحتها تصعيد إسرائيل الذي سيفتح عليها جبهات أخرى، سواء من ناحية حدودها الشمالية مع لبنان، أو حتى استهداف القواعد الأمريكية في العراق.
وبالرغم من وجود دعم أمريكي غير مسبوق لإسرائيل، إلا أن هذا لا ينفي وجود أهداف مختلفة لديهم، والتي ظهرت بشكلٍ واضحٍ، بدايةً من صعود اليمين المتطرف في إسرائيل إلى سُدَّة الحكم، مرورًا بتوجُّهات اليمين، برفضها إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
ومع استمرار التصعيد الإسرائيلي وممارساته الشنيعة؛ من أجل تهجير الفلسطينيين قسريًّا إلى سيناء، قد لا يصب في مصالح أمريكا، خاصة مع اقتراب انتخاباتها الرئاسية؛ فواشنطن متخوفة جدًّا من أن تدخل إيران في المشهد الحالي بشكلٍ مباشرٍ، إذا قامت إسرائيل بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وبطبيعة الحال ستكون روسيا وراء إيران، في هذه الحالة، ستنخرط أمريكا عسكريًّا لحماية مصالحها في المنطقة وليس فقط لمساندة إسرائيل، وهذا مالا ترغب فيه الإدارة الأمريكية الحالية.
لذا فإن الحرب الحالية لن تنتهي بالقضاء على المقاومة؛ لأن المقاومة ليست جماعةً أو تنظيمًا مسلحًا، بل هي فكرة تتخطَّى حدود إسرائيل، بل من المحتمل أن تنتهي الحرب باحتلال إسرائيل لقطاع غزة أو لأجزاء منه، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل في واقع الأمر ؛ حتى لو تكبَّدت خسائر فادحة لتحقيق ذلك، إلا أن هذا المكسب سيكون أيضًا خسارة لإسرائيل؛ فإن ما ستحققه إسرائيل “ظاهريًّا” من مكاسب، ماهي إلا خسائر على المدى البعيد، وستظل إسرائيل في حالةٍ من الخوف من انقضاض المقاومة عليها مرةً أُخرى، ولكن في تلك الحالة لن تنسى القيادات العربية ما فعتله إسرائيل هذه المرة، والدول التي قامت بالتطبيع معها، قد تُجمِّد علاقاتها معها، أو تدعمها على استحياء، مع نسْف أيِّ محاولات لانفتاح إسرائيل على دول الإقليم في الفترة القادمة.