العَلاقاتُ الجَزائريةُ الفِرنسيةُ: هَلْ تَشْهدُ انْفِراجةً حَقِيقيةً؟

إعداد: ريهام محمد

مقدمة

بَيْنَ الشَدِّ والجَذْبِ، تَتَحركُ العَلاقاتُ الجزائريةُ-الفرنسيةُ في فَضاءِ العَلاقاتِ الدوليةِ، وفي بيانٍ على ذلكَ؛ أعْلنَ قَصْرُ الإليزيهِ  الفرنسيِ، الاثنين ١٣ مارس الجاري، عَنْ زيارةٍ مُرتقبةٍ للرئيسِ الجزائريِ “عبد المجيدِ تبون” إلى باريسَ بينَ نهايةِ شهرِ سبتمبر وبدايةِ أكتوبرِ القادمِ، وذلكَ على خلفيةِ اتصالٍ جمعهُ بنظيرهِ الفرنسي ” إيمانويل  ماكرون”، تطرقَا خلالَهُ حيالَ العلاقاتِ الثُنائيةِ وقضايا ذاتِ بُعدٍ إقليميٍ دوليٍ، وقَدْ تأجلتْ تلكَ الزيارةُ المُرتقبةُ مراراً بسببِ تبايناتِ الموقفِ بينَ الجانبينِ والتي غذّتْ تكهناتٍ بوجودِ تراجعٍ وركودٍ في العلاقاتِ الثنائيةِ بينَ الدولتينِ، الى أنْ عادتْ للواجهةِ بعدَ جدلٍ أُثيرَ حولَ علاقاتِ الدولتينِ منذُ توليَ الرئيسُ تبون الحكم، بسببِ  تأجيلِها مرتينِ.

فقدْ شَهِدتْ العلاقاتُ الجزائريةُ الفرنسيةُ  توتراتٍ متباينةً منذُ توليَ الرئيسُ عبدُ المجيد تبون الحُكمَ في ديسمبر 2019، وذلكَ في ضَوْءِ المواريثِ الاستعماريةِ والتاريخيةِ ومبادئِ السيادةِ من ناحيةٍ، والاعتباراتِ الأمنيةِ والتوازناتِ الاستراتيجيةِ منْ ناحيةٍ أُخرىَ، ومَرّتْ بالعديدِ منْ محطاتِ التصعيدِ، إلى أنْ عادَ الهدوءُ إلى العلاقاتِ الرسميةِ الجزائريةِ الفرنسيةِ في الأَشهرِ الأخيرةِ منَ العامِ الماضيِ، بعدَ مرحلةٍ من الانفعالاتِ والتوتراتِ في الأشهرِ الأولى مِنَ العامِ نفسهِ.

فهلْ تشهدُ العلاقاتُ الجزائريةُ- الفرنسيةُ انفراجةً حقيقيةً هذه المرةِ رغمَ ما شهِدتهُ منْ محطاتٍ مُزَعزعةٍ خلالَ الفتراتِ السابقةِ؟

المحورُ الأولُ: محطاتُ التصعيدِ بينَ الدولتينِ

فعلى الرغمِ منْ تبنيِ الجزائرِ نَهْجًا جديدًا في سياستِها الخارجيةِ باتَ أكثرَ انفتاحًا على العالمِ منذُ توليَ الرئيسُ “عبد المجيد تبون” السلطةَ، وتبنيِ النظامِ فاعليةً كبرىَ في القضايا الإقليميةِ بدوائرِها العربيةِ والإفريقيةِ والشرقِ أوسطيةِ، وكذا الدوليةِ بمستوياتِها الشرقيةِ والغربيةِ، وسَعْيِ إدارةِ تبون نحوَ تصفيرِ المشاكلِ التقليديةِ، كذلكَ لا يمكنُنا النظرُ إلى العلاقةِ بينَ الدولتينِ في حاضرهِما ومُستقبلهِما بمَعْزلٍ عنْ الإرثِ التاريخيِ المشتركِ، أو ما يُسمىَ منَ الطرفينِ بـ”ملفِ الذاكرةِ” – حيثُ المطالبةُ المتواصلةُ بـ “اعترافِ” فرنسَا بجرائمِها في الجزائرِ خلالَ 132 سنة منَ الاستعمارِ ثمَّ الاعتذارِ، وُصولًا إلى التعويضِ، وتلكَ المطالبةُ لا تزالُ محلَ رفضٍ منٍ أطرافٍ فرنسيةٍ فاعلةٍ، خاصةً اليمينَ المتطرفَ-  ومِنْ ثمّ يمكنُ وضعُ محطاتِ التصعيدِ بينَ كِلاَ الجانبينِ في ضَوْءِ الآتيِ:

أولًا: الموقفُ الفرنسيُ الغامِضُ حيالَ قضيةِ الصحراءِ الغربيةِ:

يمكنُ النظرُ الى الموقفِ الفرنسيِ في مَلفِ الصحراءِ مِنَ النزعةِ البراغماتيةِ التي بها تتميزُ العقليةُ الفرنسيةُ، التي تنظرُ لمُستعمراتِها السابقةِ كمنطقةِ مصالحِ، فلا يجبُ أنْ تقومَ بمحاباةِ طرفٍ على حسابِ آخرَ بشكلٍ علنيٍ، فلمْ تنتهجْ فرنسا مسارًا مُوازيًا للتحركِ الأمريكيِ والأسبانيِ حيالَ هذا الملفِ والقائمِ على الاعترافِ بالحُكمِ الذاتيِ للمنطقةِ تحتَ السيادةِ المغربيةِ، إلا أنهَا تكرسُ نَهْجَ التسويفِ في هذهِ القضيةِ، عبرَ دعمِ المبادرةِ المغربيةِ حولَ الصحراءِ في مجلسِ الأمنِ وتوطيدِ شَرَاكاتِها الاستراتيجيةِ معَ الرباطِ، الأمرُ الذي يؤكدُ على رغبةِ باريس في موازنةِ علاقاتِها معَ الجارتينِ الشقيقتين(الجزائر والمغرب)، ولعلَّ هذا الموقفَ في ظلِ الظروفِ الراهنةِ وتبدلاتِ المشهدِ دبلوماسيًا وميدانياً لصالحِ المغربِ، فإنَّ هذا النهجَ لمْ يعدْ مُجزيِ بالنسبةِ للجزائرِ.

ثانيًا: رفضُ الجزائرِ لمبدأِ التبعيةِ والحرصِ على انتهاجِ سياسةِ النديةِ:

كانتْ إدارةُ الرئيسِ عبدِ العزيز بوتفليقة تَمتازُ بتقاربِها معَ الجانبِ الفرنسيِ طوالَ فترةِ حكمهِ، إلي أنْ أصابَ الجمودُ العلاقةَ بينَ الجانبينِ في أعقابِ الحراكِ الشعبيِ وإقالةِ بوتفليقة، ومعَ توليِ الرئيسِ عبدِ المجيد تبون حكمَ البلادِ، باتَ واضحًا انَّ هناكَ توجهًا مُغايرًا قائماً على رفضِ التَبَعيةِ الفرنسيةِ وكسرِ الجمودِ التقليديِ في التفاعلِ الغربيِ، وموازنةِ التفاعلاتِ معَ الدولِ الأوروبيةِ، والسعيِ نحوَ ايجادِ قنواتِ حوارٍ بينَ الشُركاءِ الأوروبينَ حولَ بعضِ القضايا المحليةِ الإقليميةِ تتسمُ بالتوازنِ، الأمرُ الذي باتَ واحدًا مِنْ أبرزِ مُعضلاتِ الخِلافِ بينَ الجزائرِ وباريسِ وتزايدِ حدتِها في التصريحاتِ المختلفةِ ل “تبون” فيمَا يتعلقُ برفضِ خضوعِ دولتهِ للوِصايةِ الفرنسيةِ بمستوياتِها الأمنيةِ والسياسيةِ واقتصارِها على التفاعلاتِ الاقتصاديةِ والتِجاريةِ، ولعلَّ هذا الأمرَ قدْ بداَ بارزًا ابانَ توترِ العلاقاتِ الدبلوماسيةِ معَ باريسِ في اكتوبر ٢٠٢١م، في ضَوْءِ الأزَماتِ المُتتاليةِ بينَ الجانبينِ خلالَ تلكَ الفترةِ، تزامنًا مع تصريحاتِ الرئيسِ الفرنسيِ “ايمانويل ماكرون” فيما يتعلقُ “بملفِ الذاكرة” واتهامِ الجزائرِ بتكريسِ “ريع” للذاكرةِ الاستعماريةِ، الأمرُ الذي دفعَ الجزائرَ لاستدعاءِ سفيرِها منْ باريس احتجاجًا على تلكَ التصريحاتِ، بلْ زادتْ حدةُ الخلافِ إلى أنْ أعلنتْ الجزائرُ عنْ حظرِ تحليقِ الطائراتِ العسكريةِ الفرنسيةِ في منطقةِ الساحلِ والأجواءِ الجزائريةِ.

ثالثًا: قلقُ فرنسَا ايذاءَ توسعِ التفاعلِ الجزائريِ الأوروبي:

تميزتْ السياسةُ الخارجيةُ لتبون بتوسيعِ قاعدةِ التفاعلِ مع دولِ العالمِ، وتحديداً الدولِ الأوروبيةِ، الأمرُ الذي يثيرُ قلقَ باريس على مصالحِها ووزنِها في المنطقةِ، فبعيدًا عنْ اسبانيا التي تشهدُ تصدعًا غيرَ مسبوقٍ في علاقاتِها بالجزائرِ، إلا أنَّ الأخيرَةَ استطاعتْ ترسيخَ نهجٍ تفاعليٍ استراتيجيٍ مع ايطاليا على مستوىَ الطاقةِ والاقتصادِ، حيثُ نجحتْ روما في عقدِ اتفاقيةِ شراكةٍ مع الجزائرِ بمقتضاهُ يضمنُ لها زيادةَ إمداداتِ الغازِ الطبيعيِ خلالَ السنواتِ المقبلةِ، وباتتْ روما الشريكَ المفضلَ للجزائرِ، مما يؤثرُ على المصالحِ الاقتصاديةِ والتجاريةِ الفرنسيةِ معَ الجزائرِ، وكذلكَ فيمَا يتعلقُ بملفِ الطاقةِ، ولعلَّ الأمرَ لمْ يقتصرْ على النطاقِ الأوروبيِ وحدهُ بلْ تجاوزَ ليمتدَ إلى تعزيزِ التعاونِ معَ الجانبِ الروسيِ، بَرَزتْ ملامحهُ في إبرامِ الرئيسينِ الجزائريِ عبد المجيد تبون والروسيِ فلاديمير بوتين في يونيه ٢٠٢٣، سلسلةً منَ الاتفاقياتِ وإعلانِ نوايا بشأنِ “تعميقِ الشراكةِ الاستراتيجيةِ” بينَ موسكو والجزائر، نَاهِيكَ عنْ زيارةِ “تبون” لموسكو والتي شَهِدتْ تطلعاتِ الجانبينِ لتوطيدِ التعاونِ في مجالاتٍ عدةٍ على رأسهِم الطاقةُ، والتعاونُ العسكريُ الممتدُ، وسَعيِ الجزائر لتوثيقِ علاقاتِها العسكريةِ معَ روسيا، على مختلفِ مستوياتِها والتي جاءَ آخرُها في نوفمبر ٢٠٢٢، والتي جمعتْ القواتِ البريةَ الجزائريةَ والروسيةَ قُربَ الحدودِ معَ المغربِ، والتي تُعتبرُ هي الخطوةُ الأكبرُ منذُ بدايةِ التعاونِ العسكريِ خلالَ حقبةِ الاتحادِ السوفيتيِ.

وتَبِعَ هذا التباينُ آلياتِ تصعيدٍ منَ الجانبِ الجزائريِ حيالَ التفاعلاتِ الفرنسيةِ، ما بينَ استدعاءِ السفيرِ الجزائريِ منْ باريسِ، ناهيكَ عنْ اتخاذِ قرارِ وقفِ تحليقِ الطائراتِ العسكريةِ الفرنسيةِ في منطقةِ الساحلِ والأجواءِ الجزائريةِ، وذلكَ ردًا على أزمةِ التصريحاتِ المُشتعلةِ والمنسوبةِ إلى  “ماكرون” في أكتوبر ٢٠٢١، وصولاً إلى الأزمةِ الأخيرةِ المُتعلقةِ بإجلاءِ الناشطةِ الجزائريةِ “أميرة بوراوي” المحكومِ عليَها بتهمةِ إهانةِ النظامِ السياسيِ الجزائريِ وتوزيعِ منشوراتٍ تَمسُ الأمنَ العامَ والآراءَ الدينيةَ لتُمثّلَ بذلكَ نقطةَ تَصدعٍ جديدةٍ تؤثرُ على الاستقرارِ النِسبيِ في العلاقاتِ، ومقابلَ ذلكَ، فكانَ هناكَ خطواتٌ مقابلةٌ لاحتواءِ هذا التصعيدِ، تباينتٍ ما بينَ زيارةِ الرئيسِ الفرنسي “ماكرون” للجزائرِ في أغسطسِ ٢٠٢٢م، كأولِ زيارةٍ لهُ بعدَ فوزهِ بولايةٍ ثانيةٍ، وكثانيِ رئيسٍ فرنسيٍ يزورُ الجزائرَ منذُ الزيارةِ الأولى في ٢٠١٧، بجانبِ محاولاتِه للتخفيفِ منْ حِدةِ “ملفِ الذاكرةِ” الاستعماريةِ التي تمثلُ حجرَ عثرةٍ وجَدلٍ تاريخيٍ بينَ باريسِ والجزائرِ، ومعالجةِ تلكَ الأزمةِ بإنشاءِ لجنةٍ مشتركةٍ منَ المؤرخينَ لفحصِ الفترةِ الاستعماريةِ تمهيداً إلى اعترافِ فرنسَا بموجبِ تلكَ الخطوةِ بمسؤوليتِها التاريخيةِ في الكثيرِ منَ التجاوزاتِ الاستعماريةِ في حقِ الجزائرِ، الأمرُ الذي يُفهمُ منهُ الأهميةُ الإقليميةُ للجزائرِ بالنسبةِ لباريسِ، وتطلعاتِ الأخيرةِ لتنشيطِ العلاقاتِ الثَنَائيةِ بينهَما بمَا يَخِدمُ مصالحهَما المشتركةَ.

المحورُ الثاني: ضروراتٌ آنيةٌ.. وأهدافٌ مشتركةٌ

على الرغمِ منْ تكرارِ التصعيدِ والتأزمِ في العلاقاتِ الدبلوماسيةِ الجزائريةِ-الفرنسيةِ، إلا أنَّ هناك سقفًا لهذا التصعيدِ نابعًا منٍ أهميةِ التعاونِ بينَ الجانبينِ في العديدِ من القضايَا؛ وذلكَ في اطارِ ما فرضهُ الوضعُ الدوليُ المتقلبُ، وتغيرُ التحالفاتِ، وتشابكُ المصالحِ على كِلا الجانبينِ، لإعادةِ ترتيبِ علاقاتهِما ضمنَ السياقِ العالميِ بمَا فيهِ من ضروراتٍ آنيةٍ، منهَا تصاعدُ الأزمةِ الجزائريةِ الإسبانيةِ وتوقفُ عملياتِ التصديرِ والاستيرادِ بينَ البلدينِ وتمايزُ الموقفِ الفرنسيِ عن الأوروبيِ ايزاءَ تلكَ القضيةِ، الأمرُ الذي أظهرَ حِرصَ باريسِ على علاقتِها بالجزائرِ، وتطويعَ سياستِها لصالحِ ديبلوماسيةٍ تقربُها منهَا، ومساعيِ الاخيرةِ في تطويعِ سياستِها لإخراجِ العلاقةِ معَ باريسِ منَ التوترِ إلى الانتعاشِ، دونَ أنْ تتخلىَ عن مطالبِها التاريخيةِ، وفي هذا السياقِ يُفهمُ أنَّ هناكَ سقفًا للتصعيدِ لا يمكنُ لأيٍّ منهمَا تجاوزهُ في إطارٍ منَ التفاعلِ البراغماتِي، ويُعززُ ذلكَ الملفاتُ والقضايَا محلَ الاهتمامِ المُشتركِ؛ الممثلةِ في الآتي:

أولًا: العلاقاتُ الاقتصاديةُ بينَ البلدينِ:

تسيرُ التجارةُ بين فرنسَا والجزائرِ بشكلٍ جيدٍ، رغمَ المشاكلِ والتوتراتِ السياسيةِ بينَ البلدينِ، مدفوعةً بالغازُ من الجانبِ الجزائريِ والمعداتِ الصناعيةِ منَ الجانبِ الفرنسيِ، كَما تعملُ فرنسا على استعادةِ موقعِها التجاريِ في شمالِ إفريقيا وتعزيزِ علاقاتِها الاقتصاديةِ والتجاريةِ، حيثُ تُعدُ الجزائرُ الواجهةَ الأولى للصادراتِ الفرنسيةِ، وتحتلُ المرتبةَ الثانيةَ في قائمةِ البلدانِ الإفريقيةِ الشريكةِ لفرنسَا في مجالِ التجارةِ، وكدليلٍ على الترابطِ الاقتصاديِ بينَ الجانبين، فقد سبق للاقتصاد الفرنسي ان تكبد خسائرَ ماليةٌ خلالَ فتراتِ الأزمةِ المرتبطةِ بتغيرِ الأوضاعِ في الجزائرِ خلالَ الأربعةِ أعوامٍ الماضيةِ، في عدةِ قطاعاتٍ أبرزُها النقلُ والخدماتُ والنفطُ، كما تراجعتٍ فرنسَا إلى المرتبةِ الثانيةِ بعدَ الصينِ كشريكٍ اقتصاديٍ للجزائرِ، لكن بحلولِ ٢٠٢٣، ارتفعتْ المبادلاتُ التجاريةُ بينَ البلدينِ بنسبةِ 5.3% لتصلَ إلى 11.8 مليار يورو في العامِ الماضيِ، مقارنةً بـ11.2 مليار يورو في عامِ 2022، كمَا تتصدرُ فرنسا قائمةَ المستثمرينَ الأجانبِ في الجزائرِ خارجَ قطاعِ المحروقاتِ، وتوفرُ المؤسساتُ الفرنسيةُ زهاء 40 ألف وظيفةٍ مباشرةٍ و100 ألفَ وظيفةٍ غيرِ مباشرةٍ، في 500 منشأة مستقرة في الجزائر وما يقرب من ثلاثينَ منشأةً مدرجةً في قائمةِ منشآتِ مؤشرِ “كاك 40” (مؤشر البورصة الفرنسية) ناشطةٌ في السوقِ الجزائريةِ أو حاضرةٌ فيها، وفي قطاعِ الخدماتِ الماليةِ يحتلُ مصرفا سوسيتي جنرال وبي إن بي باريبا الصدارةَ في المجالِ المصرفيِ، وفي النقلِ تمثلُ شركةُ إير فرانس تحديدًا القطاعينِ الأنشطَ والأكثرَ توظيفًا، وفي المجالِ البحريِ، تحتلُ شركةُ سي إم آ-سي جي إم (CMACGM) الصدارةَ في السوقِ الجزائريةِ إذ توظّفُ 400 موظفٍ.

ثانيًا: تأمينُ إمداداتِ الطاقةِ:

يمثلُ ملفُ الطاقةِ ملفًا مهمًا في العلاقاتِ الجزائريةِ الفرنسيةِ، حيثُ الدوافعُ المتبَادلةُ منَ الجانبينِ لتداركِ الأزماتِ وخفضِ حدةِ التوترِ في ظلِ المُتَغيراتِ الدوليةِ والاقليميةِ، آخرُها الأزمةُُ الروسيةُ الأوكرانيةُ التي  ألقتْ بظلالِها على أمنِ الطاقةِ في أوروبا، وأزمةِ غازٍ عالميةٍ، الأمرُ الذي دفعَ الدولَ الأوروبيةَ للبحثِ عن بدائلَ خاصةً في المنطقةِ المغاربيةِ لقربِها الجغرافيِ من الجنوبِ الأوروبيِ، وبخاصةٍ الجزائرِ، فمنَ المعروفِ أن الأخيرةَ تحظىَ باحتياطاتٍ من الغازِ الطبيعيِ تقدرُ بنحوِ أربعةِ ملياراتِ مترِ مكعبٍ، واحتياطيٍ نفطيٍ يُقدرُ بنحوِ 1.5 مليارَ طن، فتسعى باريسُ منْ خلالِ تقاربِها معَ الجزائرِ إلى تأمينِ احتياجاتِها من الطاقةِ مستقبلًا، لضمانِ الحصولِ على الغازِ الطبيعيِ، مقتديةً في ذلكَ بإيطاليا، التي سبقَ وإنْ نجحتْ في إبرامِ اتفاقٍ مع الجزائرِ بمقتضاهُ يضمنُ لهَا زيادةَ إمداداتِ الغازِ الطبيعيِ خلالَ السنواتِ المقبلةِ.

ثالثًا: الهجرةُ غيرُ الشرعيةِ وظاهرةُ الإرهابِ:

يمثلُ ملفُ الهجرةِ النظاميةِ وغيرِ النظاميةِ احدَ أبرزِ الملفاتِ المشتركةِ بينَ الدولتينِ، سواءٌ كان المهاجرينَ منَ الجزائرِ أو منْ دولٍ إفريقيةٍ أخرى تمرُ عبرَ الجزائرِ إلى دولِ حوضِ البحرِ المتوسطِ، وعليهِ، تسعىَ باريسُ إلى تعزيزِ تعاونهِا السياسيِ والأمنيِ معَ السلطاتِ الجزائريةِ، للحدِ من تدفقاتِ المهاجرينَ غيرِ الشرعيينَ منَ الجزائرِ إلى فرنسا، في محاولةٍ من الأخيرةِ لإعادةِ تنشيطِ التنسيقِ السابقِ معَ الأولىَ والاتفاقِ حولَ ترحيلِ المهاجرينَ غيرِ الشرعيينَ منْ باريسِ، وإنْ كانَ هذا الموضوعُ لا يزالُ محلَ خلافٍ بينهُما، ويتمُ توظيفهُ سياسيًا منْ جانبِ فرنسَا، ولعلَّ أهمَّ تلكَ المساعي برزتْ في زيارةِ وزيرِ الداخليةِ الفرنسيِ “جيرالد دارمانان” في ديسمبرِ ٢٠٢٢، والتي تناولتْ سبلَ التعاونِ معَ الجانبِ الجزائريِ في التصديِ لظاهرةِ الهجرةِ غيرِ الشرعيةِ والعناصرِ الإرهابيةِ المتدفقةِ إلى العُمقِ الأوروبيِ، قادمةً منَ مناطقِ التوترِ وتحديداً منَ الساحلِ والصحراءِ، والتي تنشطُ فيهَا تنظيماتُ القاعدةِ وداعشِ الإرهابيةِ، فقدْ تزايدتْ معدلاتُ الهجرةِ غيرِ الشرعيةِ عَقبَ إصدارِ الجزائرِ قرارًا بخفضِ عددِ التأشيراتِ للجزائريينَ، الأمرُ الذي مثلَ تحديًا اقتصاديًا وتهديدًا امنيًا للدولِ الأوربيةِ كافةً.

رابعًا: ملفُ الأمنِ في منطقةِ الساحلِ والصحراءِ:  

تسعىَ فرنسَا للمحافظةِ على عَلاقاتِ التعاونِ العسكريِ والشراكةِ الاستراتيجيةِ مع الجزائرِ، وذلكَ انطلاقًا منْ محوريةِ منطقةِ الساحلِ والصحراءِ بالنسبةِ للقوى الإقليميةِ والدوليةِ، في ضوءِ التهديداتِ الأمنيةِ والإرهابيةِ وما تمثلهُ من فرصةٍ لتواجدِ تلكَ القوى عسكريًا بالمنطقةِ، ونتيجةً للحساباتِ الفرنسيةِ القائمةِ على استراتيجيةِ إعادةِ الانتشارِ الإقليميِ عبرَ بوابةِ تشادِ والنيجرِ، تزامنًا معَ موجةِ الانقلاباتِ العسكريةِ التي شَهدتْهَا بلادُ بوركينا فاسو ومالي وتشاد، وقرارُ سحبِ ٢٤٠٠ جنديٍ فِرنسيٍ منْ مالي، الأمرُ الذي فتحَ المجالَ أمامَ القوىَ الدوليةِ الأخرى  للتدخلِ، مُمَثلًا في وجودِ قواتِ “فاغنر” الروسيةِ وتكثيفِ تعاونهِا العسكريِ مع مالي، أو عبرَ التفاعلِ المشتركِ بينَ واشنطن والمغرب لصدِّ الهجماتِ الأمنيةِ التي تشهدُها المنطقةُ، أبرزُها زيارةُ “كريستوفر راي” مديرُ مكتبِ التحقيقاتِ الفيدراليِ الأمريكيِ للرباط ِفي ٢٠٢٣، كلُّ هذا الأمرِ معَ الفراغِ الفرنسيِ الذي تركتهُ باريسُ في المنطقةِ، يجعلُ من فرنسا تَفْقِدُ مناطقَ نفوذِها الإقليميِ في واحدةٍ منْ أهمِّ المناطقِ الثريةِ بالمعادنِ المختلفةِ فضلاً عنْ موقعِها الاستراتيجيِ، ما يؤكدُ على حرصِ باريسِ على إبقاءِ الشراكةِ الاستراتيجيةِ معَ الجزائرِ، فضلاً عن سعيِ البلدينِ نحوَ تطويرِ العلاقاتِ الثنائيةِ  بينهُما على المستويينِ الأمنيِ والعسكريِ، وذلكَ في إطارِ تعزيزِ القدراتِ العسكريةِ الجزائريةِ بغرضِ توظيفِها في مُكافحةِ الإرهابِ في المنطقةِ.

خامسًا: استعادةُ التعاونِ الاقليمي:

إذْ يسعىَ الجانبانِ نحوَ تعزيزِ الاتصالاتِ، والتنسيقِ المشتركِ بينهُما بغرضِ المساهمةِ في تسويةِ عددٍ منَ القضايَا ذاتِ الاهتمامِ المشتركِ والمُثَارةِ على المستوى الإقليميِ، وتحديدًا الأزمةَ المَاليةَ، والأزمةَ الليبية،َ خاصةً أنَّ كِلا الدولتينِ تتبنيانِ مواقفَ مختلفةً في الملفينِ.

الخاتمةُ:

لا شكَّ أنَّ لكلِ منَ الجزائرِ وفرنسَا حساباتُها الخاصةُ في سعيِها إلى تعميقِ العلاقاتِ وتجاوزِ الخلافاتِ، وإنهاءِ التوترِ، وذلكَ في ضَوءِ الشواغلِ المشتركةِ بينهُما الأمنيةُ والعسكريةُ، والاقتصاديةُ منها والطاقةُ، إلى جانبِ المصالحِ الجيواستراتيجيةِ بينهُما على صعيدِ قضيةِ الصحراءِ الغربيةِ بالنسبةِ للجزائرِ، والنفوذِ التقليديِ ومعادلةِ الطاقةِ بالنسبةِ لباريسِ، وبناءً على ما سبقَ ذكرهُ، فإنَّ العلاقةَ بينَ الدولتينِ يُلاحظُ انها تجمعُ بينَ ما هو مرحليٌ آنيٌ، ومَا هوَ بعيدُ المدىَ، ويحاولُ رئيسَا الدولتينِ أنْ يجعلَا منهَا علاقةً ذاتُ طابعٍ استراتيجيٍ انطلاقاً من التنظيرِ السياسيِ للمسألةِ، وما تزامنَ معهُ منْ عقدِ اتفاقياتٍ، لكنْ كلُ هذا لا يجعلُ الأمرَ مسلماً بهِ، فبغضِ النظرِ عن طبيعةِ العلاقةِ منْ جهةِ نوعيتِها ونتائجِها، إلا أنّهَا ستظلُ بينَ الشدِّ والجذٍبِ، كمَا أنَّ المُضيَ قدماً نحوَ المستقبلِ سيظل مصحوبًا دائمًا بالماضيِ المشتركِ الذي لا يظلُّ مهيمنًا على الحاضرِ، وسيُخلدُ للأجيالِ القادمةِ ما دامَ الجانبانِ لم يحسْمَا القضايَا المصيريةَ العالقةَ بينهُما، على الرغمِ من النشاطِ المؤسساتيِ للعلاقةِ بينَ باريسِ والجزائرِ يشي كلَّ مرةٌ بالوصولِ إلى حلٍّ للخلافاتِ القديمةِ العالقةِ، وعادةً ما يُرفقُ بتصريحاتٍ منَ الجانبينِ مطمئنةً للشعوبِ، ليتفاجأَ الجميعُ بعدَ مدةٍ بموقفٍ مختلفٍ.

لذلكَ تتزايدُ الشكوكُ حولَ إمكانيةِ إتمامِ تلكَ الزيارةِ المُرتقبةِ بعد تأجيلِها مرتينِ، ولا يُستبعدُ أن يتكررَ الأمرُ ذاتهُ، خصوصاً أنَ موعدَ الزيارةِ يتزامنُ معَ أجواءِ الانتخاباتِ الرئاسيةِ في الجزائرِ، والمنتظرُ إجراؤهَا نهايةَ العامِ الجاريِ، الأمرُ الذي يجعلُ توقيتَ الزيارةِ غيرَ مناسبٍ تماماً، حيثُ إنَّ باريسَ حريصةٌ على عدمِ الظهورِ في صورةِ الشريكِ المنحازِ لأيِّ طرفٍ منَ المرشحينَ للاستحقاقِ مهمَا كانتْ حظوظهُ للفوزِ بهَا، واجبارِها على الظهورِ بحدٍ أدنى منَ الحيادِ والتحفظِ وعدمِ تمكينِ “تبون” منْ تحقيقِ ايِ مكاسبَ قدْ يوظفُها لأغراضٍ انتخابيةٍ.

المراجع:

كلمات مفتاحية