الدكتور أيمن سلامة : لابد ولامناص من ترسيم الحدود السودانية الإثيوبية

تكشف الاشتباكات المسلحة المتواترة بين  إثيوبيا و السودان عن نزاعٍ فريدٍ قَلما يحدث بين البلدين الجارين الشقيقين، و لطالما ازدهى كل منهما بطبيعة العلاقات الاستثنائية التي تجمعهما، والتي طَغَت من دون شك، على حسم مسألة ترسيم الحدود السياسية الدولية بينهما.

على الرغم من سبق تعيين  الحدود بين البلدين ، لكن  العمليات العدائية العسكرية التي تندلع بين الفينة و الفينة بين  البلدين- خاصة في العام  الأخير –  تعكس أهمية قيام الدول المتجاورة بترسيم الحدود بينها بعد قيام ذات الدول بتعيين حدودها الدولية بموجب معاهدات دولية تُعد من أسمي المعاهدات الدولية التي تبرمها  الدول ، وتكاد تحوز معاهدات تعيين الحدود  الدولية ذات المكانة و  المركز القانوني  الذي تحوزه معاهدات  السلام .

فوضع العلامات  الحدودية على الأرض بواسطة اللجان المشتركة بين البلدين لم يكتمل لحد بعيد، أو أن المسافات البينية لهذه العلامات كانت في قطاعات كبيرة أبعد مما يجري العمل به وفقا للكُثر من الخبراء والمراقبين لهذا الشأن، فَمُثلث  “القشفة” السوداني يمثل قضية اقتصادية وغذائية مهمة للسكان المحليين، ، فالقشفة تعد مطمعاً للإثيوبيين بوصفها واحدة من أخصب البقع  الجغرافية في القارة الإفريقية ، حيث يلتقي شمال غرب منطقة أمهرة الإثيوبية بولاية القضارف في شرقي السودان، ولكن في ظل عدم وجود علامات حدودية واضحة، صارت المنطقة منذ فترة طويلة مسرحًا للاتجار والتهريب والاشتباكات.

بالنسبة للسودان، تعد “القشفة” جزءًا لا يتجزأ من أراضيه، وفق تعيين الحدود الذي وُضِع أثناء خضوع السودان للإدارة البريطانية المصرية في عام 1902، لكن إثيوبيا حافظت على وجود عسكري بحكم الأمر الواقع هناك لما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، سِيّما من خلال الميليشيات الإثيوبية التي سيطرت واستغلت مئات الهكتارات في العقود الأخيرة، حتى استعادت القوات السودانية زمام الأمور في الأيام الأخيرة.

بالرغم من أن مدادا كثيرا قد أسيلَ لسَبر أغوار “التوترات” التي تشتعل بين الفينة والفينة بين  الجارين ، لكن التطورات الأخيرة التي حدثت في العقد الأخير تُعد كاشفة لبَواكير ما وقع في الأسابيع الأخيرة في هذه  القضية، حيث وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط في عام 2008، والتي سبق تعيينها في عام 1902 بواسطة  الاتفاقية المبرمة بين بريطانيا الاستعمارية حينئذ وإثيوبيا، لكن السودان في الوقت ذاته سمح  للآلاف من المزارعين الإثيوبيين بمواصلة العيش في “القشفة ”  دون عائق.

كانت اتفاقية   السلام المبرمة  في  أديس ابابا عام 1972  قد أقرت بإنشاء لجنة مشتركة بين البلدين لترسيم الحدود الدولية ، أي وضع العلامات الحدودية علي خط  الحدود التي يبلغ طولها 744 ، وهي أطول حدود السودان مع جيرانها ، ولكن تغلبت  المشاعر الوجدانية علي الحقوق  القانونية بين البلدين فأهملا في وضع  العلامات  الحدودية بين  البلدين علي طول خط الحدود السابق تعيينه .

تَتشابك الحدود بين الكثير من الدول ما يجعلها مثارا للجدل والنقاش في أحيان كثيرة، وفي أحيان أخرى تتطور الشرارة التي تنطلق منها لتصبح كالنار في الهشيم وتُحيل التوتر الحدودي إلى صراع مسلح يأتي على الأخضر واليابس، والحقيقة أن هناك حدودا جغرافية رسمتها الطبيعة، وهناك حدود أخرى خطّتها أيادي الاستعمار في مناطق أخرى معظمها في القارتين الإفريقية واللاتينية، وتلجأ الكثير من الدول إلى إبرام اتفاقيات دولية لتنظيم أي تشابك في تلك المناطق، تنجح أحيانا في ضبط العلاقة على الحدود، وتفشل أحيانا أخرى، وكَلّفت النزاعات والحروب بسبب الحدود شعوب إفريقيا ومجتمعاتها تكلفة باهظة وخسارة فادحة من حيث الأرواح التي حُصدت، والجموع التي تشردت، والفرص الاقتصادية التي ضُيّعت، ناهيك عما أصاب الحياة الطبيعية والبيئية من تدهور للتربة، وحرق الأرض، والتلوث، إلى جانب ما أفرزته من تطهير عرقي، وقتل جماعي، وهضم لأبسط  حقوق الأنسان، وجعلت تلك الحروب والصراعات من إفريقيا قارة مُعقدة، ومجتمعا مجهدا، وأصبحت أخبارها في الإعلام العالمي أخبار الكوارث والقتل والفقر واللجوء والمجاعات.

تعتبر مشكلة الحدود بطابعها السياسي والجغرافي مُعضلة عالمية في السياسة الدولية. ويقيناً، تعاني معظم دول العالم مشكلات تتعلق بالحدود، سواء كان ذلك على صعيد دول أمريكا اللاتينية أو دول أسيا وإفريقيا أو الدول العربية، وقد شَهدت أروقة محكمة  العدل الدولية في العقود الثلاثة الأخيرة كثيرا من النزاعات الحدودية الدولية، مثّلت النزاعات الحدودية الإفريقية النسبة الأكبرَ منها، ولا مشاحة في أن أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت عُراه وثيقةَ الصلة بجزر “اللورنس”، أو ما يعرف بنهر الدانوب، وهذا يعني أن نزاعات الحدود باعتبارها مشكلة دولية شملت البحر واليابسة.

تظل الحدود الدولية الرقم الأهم والحاضر الدائم في حياة الدول والشعوب كافة، و تتطلب دراستها وفهمها وتحليل العوامل التي تؤثر في صلابتها أو ليونتها، الإعمال – وليس الإهمال – من جانب الدول ومؤسساتها وهيئاتها المختلفة المَعنية، إذ يؤثر كل ما سلف على أوضاع الدول وتكوينها السياسي والاقتصادي والاجتماعي،  وفي الوقت نفسه، لابد من تسليط  الأضواء على الأبعاد التاريخية التي تبين الأسس التي عينت ورسمت بموجبها تلك الحدودُ، والظروف والأوضاع الإقليمية والدولية التي ساعدت على وجودها، والقواعد التي فرضتها، ومن هذا المنطلق، فان نزاعات الحدود الدولية تعد من أهم النزاعات وأخطرها التي تهدد العلاقات بين الدول إذا لم تتم تسويتها بالوسائل السلمية.

إذا كانت الحدود تُعتبر العلامات الرسمية المحددة لسيادة الدولة منذ العهد “الويستفالي ” في عام 1648، فإن مفهوم الجوار الإقليمي يندرج ضمن إطار الجغرافيا السياسية، التي يعتبر الجغرافي الألماني “فريدريك راتزل ” مؤسسها، إذ بَنى مفهوم  الجوار الجغرافي على عاملين رئيسيين: وهما المكان المحَدد بامتداده وخصائصه الطبيعية ومناخه، والموقع الذي يُحدِد المكان على الكرة الأرضية،  وتمتد جذور مفهوم الجوار الإقليمي لدى العديد من المفكرين أمثال “روسو” و “جان بودان” و”مونتسكيو”، الذي أشار إلى الأثر النفسي لوجود حواجز طبيعية فاصلة على الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما،  ولعل النزاع الحدودي الحاصل الآن بين إثيوبيا والسودان يعكس ما أشار إليه  “مونتسكيو” منذ قرون خلت.

يكشف  النزاع الحدودي  الأخير بين الجارتين إثيوبيا والسودان عن حقيقة واقعية، وهي أن  الحدود لم تعد آمنة  أو ذات خطوط حمراء في حالات عديدة من الأقاليم خاصة في السنوات الأخيرة  الماضية، بل صار هناك العديد من الحدود السائبة، أو كما يطلق عليها في بعض الأدبيات “الحدود اللينة” أو “الخواصر الرخوة” أو “الأطراف التي تخرج عن السيطرة”، وكانت الاتجاهات التقليدية في دراسة أمن الحدود وإدارتها تعتمد مقولة الحدود “الصلبة” التي يتم تعريفها بأنها الخط الفاصل بين حدود دولتين مختلفتين اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وديمغرافيا واجتماعيا، وحيث تبدأ سيادة دولة وتنتهي سيادة دولة أخرى، ولكن برز مفهوم الحدود “المرنة” أو “الناعمة” أو “اللينة ” أو” السائبة” في عدد من الكتابات، وهو ما يتقاطع مع نظرية سادت في أطروحات العلاقات الدولية مضمونها “نهاية جغرافية الدولة”، تأسيسا على أن مؤسسات الدولة اكتمل بناؤها على جانبي الحدود بشكل يضمن تنقل الأفراد من حدود دولة إلى أخرى، سواء عن طريق  الهجرة أو السياحة أو الزراعة في داخل الدولة المجاورة، وهذا ما ينطبق تماما على الحالة الإثيوبية  بالنظر إلى المزارعين الإثيوبيين في داخل الإقليم السوداني وتحديدا في منطقة “القشفة”.

تُعد المفاوضات الثنائية بين الدول أطراف النزاع حول ترسيم الحدود أي تخطيطها على الأرض أو البحر بعد أن كانت هذه الحدود قد تم تعيينها قانونا بموجب معاهدات دولية، إحدى أهم وسائل التسوية الدبلوماسية السلمية لمثل هذا النوع من النزاعات، وتجري  المفاوضات الثنائية بين  المتنازعين بطريقة مباشرة، سواء كانت سرية أو علنية، وعلى الرغم من أن الفقه الدولي يشير إلى التسليم بوجود ثمة التزام دولي يفرض على أطراف النزاع  اللجوء إلى إحدى  الوسائل الدبلوماسية، أو اللجوء للتسوية السلمية القضائية الدولية، لتسوية النزاع القائم بينهم، غير أن ذلك لا ينفي وجود العديد من المعاهدات  الدولية التي تنص على وجوب اللجوء إلى المفاوضات، بل واعتبار ذلك شرطا ضروريا للانتقال إلى تسوية النزاع بالوسائل  السلمية ذات الطبيعة  القضائية.

أعلنت معظم الحدود الإفريقية في بداية القرن العشرين ، وهذه الحدود كانت خطًتها تقديرات وصفقات القوي الاستعمارية عن تشكيل  الدول الإفريقية   القادمة بعد جلاء  الاستعمار و نيل هذه الدول استقلالها في سياق التنافس بينها ، لكن تجاهلت القوي الاستعمارية في كثير من الحالات الحقائق الأثنية واللغوية والدينية والسياسية للشعوب الأفريقية ، و تسبب الإهمال  و الجهل الجغرافي و حقائق التقسيمات الاجتماعية السياسية التقليدية لهذه الشعوب

و المناطق  في خلق سلسلة من الصعوبات التي انعكست علي المفوضين  الاستعماريين  المكلفين بتعيين  الحدود  بين الدول الإفريقية  .

واجهت في وقت الاستقلال ، الدول الأفريقية الجديدة صراعات الخلافات الحدودية، و كان عدد النزاعات الحدودية مثيرًا للدهشة ، حيث بلغ عدد النزاعات  الحدودية 32  نزاعا ،  لذلك ، وإدراكًأ من  القادة الأفارقة   لهشاشة بلدانهم المحددة بحدود مصطنعة والخطر الذي يمثله استمرار مثل هذه الحالة ، بذل بعض القادة قصارى جهدهم للدعوة إلى التشكيك في الخط الإقليمي الاستعماري ، و يعتقد هؤلاء المؤيدون لمراجعة الحدود أن القواعد الإقليمية للدول الأفريقية ، التي ولدت من الترتيبات الاستعمارية ، لم تأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ الخصائص المحددة التي كانت ضرورية للتماسك الاجتماعي وتعزيز الوحدة داخلها ، وتنديدا  بهذا التقسيم  الذي يضر بقدرة الدول على البقاء ،  أراد القادة الأفارقة ، المؤيدين للتشكيك في الحدود ، المجتمعين داخل ”  مجموعة الدار البيضاء ” في عام 1963  إصلاح الحدود الأفريقية .

لكن في مقابل ذلك  التوجه الرافض للحدود المحددة من قبل  الإستعمار ،  أراد القادة الآخرون الحفاظ على الطريق الموروث من الاستعمار، بالنسبة لهذه المجموعة الثانية من القادة ، المسماة ”  مجموعة مونروفيا  ” ، وكان الهدف من الوضع الإقليمي الراهن هو استقرار الحدود الاستعمارية ، مما يجعل من الممكن تأمين حدود الدول الأفريقية المستقلة حديثًا، من أجل  توحيد الأمم والنجاح في نهاية المطاف في تحويلها إلى دول قومية، ولذلك يبدو من الحكمة الحفاظ على الإرث الإقليمي الاستعماري ، وهو شرط لا غنى عنه للسلام بين الدول وداخلها ولإمكانيات التنمية الحقيقية، وهذا هو جوهر حجة أنصار الإقليمي الراهن .

ختاماً ، وفي ضوء إذعان كافة الدول  الإفريقية باحترام  الحدود التي أبرمت  في الحقبة الاستعمارية، و أيا ما كانت الملابسات التي تعتري النزاع الحدودي بين  السودان و أثيوبيا  ، ومهما وجدت المبررات أو الحجج التي يدفع بها الطرفان للدفاع عن حقوقه الراسخة وسيادته ، تبقي حقيقة قانونية وواقعية في الوقت ذاته لا يستطيع أي منهما إنكاره ، وهي إهمالهما في ترسيم الحدود الدولية بينهما حفظا للسلم و الأمن و النظام

و حماية لحقوق الدول و شعوبها .

كلمات مفتاحية