جولة الخليج.. هل تسعى فرنسا لتبوء عرش المنطقة تمهيدًا لدور أكبر عالميًا؟

رابعة نورالدين وزير

على خلفية الزيارة التي اجراها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لمنطقة الخليج العربي مطلع شهر ديسمبر الجاري، ولعل التطورات التي تشهدها المنطقة العربية والشرق الأوسط سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي فرضت نفسها بقوة على أجندة الرئيس الفرنسي، ولعل تعزيز مختلف جوانب الشراكات الاستراتيجية بين الطرفين هو الهدف الأهم من وراء هذه الجولة.

ولا يمكننا الإغفال عن دور هذه الجولة في تحسين صورة فرنسا، ومنحها المزيد من النفوذ في منطقة الخليج العربي، تمهيدًا لدور أكبر في الشرق الأوسط وأفريقيا في ظل تنافس القوى (الصين- روسيا)، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة.

وعليه فنحاول في هذه الرؤية التقديرية الوقوف على أهم أولويات الاجندة الخاصة بالجولة، وأهم ما حققته واهم ما أغفلت عنه، وما هي الدوافع التي حققتها من هذه الجولة.

أجندة زيارة ماكرون للدول الخليجية

بدأت زيارة “ماكرون” لدول الخليج العربي في الثالث من ديسمبر، فقد جاء على رأس وفد مكون من خمسين فرد من مدراء المؤسسات ورجال الاعمال الفرنسيين في جولة دبلوماسية وتجارية لمدة يومين، وقد تمحورت أجندة الجولة حول مدى ارتباط أمن فرنسا بالاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أكده “ماكرون” قبل بدأ جولته، وأكد على ضرورة دعم الامن والاستقرار في المنطقة والقضاء على الإرهاب كشرط ليعم الامن والسلام في الشرق ومنه إلى فرنسا.

وقد عبر من خلال حسابه الرسمي على منصة “تويتر” عن أولويات أجندته في الخليج العربي، وهي، دعم الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب والتطرف، والترويج لجاذبية فرنسا، كما شملت الأجندة إجراء زيارات للمسؤولين في كلًا من المملكة العربية السعودية، والامارات العربية، ودولة قطر.

محطات الجولة وانعكاساتها على الدول الخليجية

كما سبق التوضيح فقد جاءت اجندة الجولة في إطار ثلاث محطات رئيسية كما يلي: –

أولًا الإمارات

استقبل ولي عهد أبو ظبي “محمد آل نهيان” الرئيس الفرنسي في الثالث من ديسمبر، ولقد استهل الرئيس الفرنسي جولته بالأمارات العربية المتحدة باعتبارها أكبر الحلفاء الاستراتيجيين لفرنسا في المنطقة، دائما ما وصفت العلاقات بين الامارات وفرنسا بالمتينة حيث دائمًا ما اتفقت وجهات نظر الدولتين حول العديد من الملفات على الساحة الإقليمية والدولية، لذا فلم يكن غريب أن تبدأ الجولة من الامارات.

وقد أسفرت الزيارة عن توقيع اتفاق تجاري لبيع طائرات مروحية طراز “رافال”، يبلغ عددها (80 طائر)، في صفقة تعتبر الأكبر بين الصفقات الخارجية، للطائرات الفرنسية منذ عام 2004، بالإضافة إلى (12 طائرة روحية) من طراز “كاراكال”، ولم تكن صفقات الطائرات هو التعاون الوحيد فقط، بل عقدت 13 صفقة تجارية بين البلدين خلال الجولة، فعلى سبيل المثال؛ وقعت اتفاقية بقيمة 4 مليار يورو بالتعاون مع بنك الاستثمار الفرنسي، وصفقة أخرى بقيمة  165 مليون يورو لإعارة أربع قطع فنية من متحف اللوفر في فرنسا إلى متحف اللوفر في أبو ظبي، كما شملت الصفقات مجالات ثقافية وعلمية أخرى، وعليه فيمكن القول بأن الاتفاقيات ومذكرات التفاهم كان الغرض منها تعزيز التعاون والشراكة الاستراتيجية بين البلدين بما يخدم مصالحهم المتبادلة.

ثانيًا: قطر

كانت قطر محطة “الرئيس الفرنس” الثانية في جولته لدول الخليج، فقد التقى مع “أمير قطر” للتباحث حول سبل تعزيز العلاقات بين البلدين في جميع المجالات، وتناقش الطرفين وتبادلا وجهات النظر حول أهم القضايا المطروحة على الساحة الإقليمية والعالمية، بخاصة المستدات على ساحة المنطقة.

كما وقّع الجانبان القطري والفرنسي على مذكرة تفاهم للتعاون في المجال الاقتصادي والمالي بين وزارتي المالية في البلدين وخطاب إعلان نوايا بين وزارتي الثقافة القطرية والفرنسية، ولا تعتبر الامارات العربية هي الحليف الاستراتيجي الوحيد في منطقة الخليج العربي، فقطر شريك مهم لفرنسا خاصة فيما يخص ملف اللاجئين الأفغان، فقد تعاونتا معًا لاستقبال اللاجئين الأفغان وتقديم المساعدات لأفغانستان حيث أشار الرئيس “ماكرون” إلى أن الدولتين تعاونتا لإمداد المنظمات الدولية العاملة في أفغانستان ب 22 طن من المعدات والإمدادات الطبية، وسبق ذلك إشادة من الجانب الفرنسي بالسياسة الخارجية القطرية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ثالثًا: المملكة العربية السعودية

لا يمكن أن تنتهي جولة ماكرون في الخليج العربي دون زيارة للملكة العربية السعودية، فقد كانت محطته الثالثة في جولته، والتي تم خلال زيارته إبرام العديد من الصفقات التجارية الضخمة على غرار الصفقات التي وقعها مع الجانب الإماراتي والقطري، على سبيل المثال؛ فقد أبرمت شركة “إيرباص” الأوروبية صفقة لبيع 26 مروحية مدنية إلى شركة سعودية فيما وقعت شركة “فيوليا” الفرنسية عقدا لإدارة خدمات مياه الشرب في الرياض و22 مدينة مجاورة. ويمثل هذا العقد الذي يمتد سبعة أعوام، عائدات بقيمة 82,6 مليون يورو، بحسب الشركة الفرنسية.

كما وقعت “فيوليا” “اتفاق شراكة استراتيجية” مع وزارة الاستثمار السعودية “لتحسين الأداء التشغيلي والتجاري وفي مجال الطاقة لقطاع المياه في أنحاء البلاد”، إضافة إلى توسيع روابطها مع مجموعة أرامكو السعودية النفطية العملاقة، فقد أصبحت المجموعة الفرنسية “الشريك الحصري” لأرامكو في معالجة نفاياتها الصناعية والعادية، أي 200 ألف طن سنويا تُضاف إلى 120 ألف طن من النفايات الخطرة التي تتكفل بها أصلا فيوليا.

 وفي المملكة العربية السعودية أعلن الرئيس الفرنسي “ماكرون” عن طرحه لمبادرة تهدف إلى حلحلة الوضع المضطرب بين المملكة العربية السعودية ولبننا، وبالفعل فقد استجابت المملكة وتم إجراء مكالمة هاتفية بين ولي عهد المملكة العربية السعودية، والرئيس الفرنسي، ورئيس وزراء لبنان “نجيب ميقاتي” تم على أثرها التعهد من الجانب السعودي والفرنسي على دعم استقرار لبنان والعمل على تنفيذ إصلاحات تمكن البلاد من الخروج من أزمتها الحالية.

هل يتم بلورة رؤى جديدة للتقلبات في المنطقة على أثر الجولة الفرنسية؟

على مستوى الملف النووي الإيراني واستمرار تهديدات طهران باستهداف أمن واستقرار المنطقة من خلال تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول العربية، وبالتالي فإذا كان “ماكرون” يريد تحسين صورة فرنسا وإظهارها كقوة توازن في الشرق الوسط فلابد وأن يبدا من الخليج العربي، ليتمكن من لعب دور في إيران مستغلًا تعثر المفاوضات.

وعلى مستوى القضايا الحاضرة عربيا، وفي مقدمتها لبنان واليمن والعراق وسوريا وسبل مواجهتها، فلم يتم الإعلان عن أية إجراءات تخص أي من هذه الدول، سوى جهوده في إعادة العلاقات بين السعودية ولبنان.

استغلال العلاقات السياسية من أجل إعادة التموضع الاقتصادي والاستراتيجي

من المؤكد أن زيارة الرئيس الفرنسي لمنطقة الخليج العربي تحمل العديد من الدلالات التي يسعى من خلالها لتحقيق الاستراتيجية الفرنسية المبنية على استغلال العلاقات السياسية من أجل خلق تموضع في الجانب الاقتصادي والاستراتيجي، وعليه فيمكننا القول بأن الأجندة الخاصة بالجولة تنطوي بالأساس على تحقيق بعض الأهداف الاستراتيجية بجانب الأهداف الاقتصادية والتجارية التي تم تحقيقها بالفعل من خلال إبرام صفقات ضخمة مع دول الخليج العربي الثلاث، ومن الممكن القول بأن هذه الأهداف الاستراتيجية تتعلق برغبته في تحسين صورة فرنسا في منطقة الشرق الأوسط، وإثبات لوجود فرنسا الدولي والإقليمي في المنطقة، والتأكيد على أن دور فرنسا قوى ومؤثر كقوة وازنة في القضايا العالمية.

بالإضافة إلى رغبتها في تحقيق الانتشار السياسي وإعادة التموضع في منطقة الشرق الأوسط، لتجنب ترك الفراغات للمنافسين كإيران، وخاصة بعد تراجع دور الولايات المتحدة الامريكية في المنطقة وبالتالي فقد أصبحت الفرصة مواتية لتحقيق هذه الأهداف، ولعل رغبتها في لعب دور أكبر في القضايا التي تشغل الساحة في المنطقة ووضعها ضمن أولويات أجندة الزيارة يؤكد ما سبق.

ولعل قيامه بتوقيع صفقات تجارية وأمنية لمساعدة الدول التي تريد تطوير قواتها العسكرية مثل المملكة العربية السعودية تأكيد على أهمية الجانب الأمني والعسكري كبعد هام في العلاقات بين فرنسا ودول المنطقة خصوصًا في ظل التنافس مع الجانب الأمريكي، كما يمكننا القول بان فرنسا تحاول الدخول للسوق الإيراني من خلال الامارات العربية المتحدة وذلك في ظل تعثر مفاوضات فيينا ورفض الجانب الإيراني الالتزام بها.

ماذا جنت فرنسا من جولة الخليج؟

على الجانب الفرنسي فقد استفادت فرنسا كثيرًا من هذه الزيارة فباعتبارها الاقتصاد الخامس عالميًا ومن أهم الاقتصادات المنافسة للجانب الأمريكي كان لابد لها من حقيق انتشار على نطاق واسع في إطار المنافسة الاقتصادية الدولية، كما انها من خلال ابرام هذه الصفقات تحقق توجهها الخارجي المتعلق بترسيخ الدبلوماسية الاقتصادي أو التجارية فبعد ان كانت الإمارات تستورد السلاح من الولايات المتحدة الامريكية بدأت في توقيع صفقات مع شركات فرنسية، كما أن الامر لم يقتصر على الجانب العسكري فقط بل والجانب التكنولوجي ومجال الاتصالات والمجال الثقافي والتعليمي.

على المستوى السياسي فإن فرنسا كما سبق واشارنا تسعى للحصول على دور أكبر من خلال السعي لحل الأزمات على المستوى العالمي بشكل منفصل عن الولايات المتحدة الامريكية، لذا فقد استهدفت دول الخليج الأكثر فاعلية في القضايا الإقليمية والدولية والتي تشاركها الرؤى فعلى سبيل المثال؛ زيارة الامارات باعتبارها حليف هام يساعد في محاربة الإسلام السياسي والحركات الإسلامية الراديكالية، كما انها محطة لإيران، والسعودية وقطر شركاء دبلوماسيين يمكن من خلالهم الوصول لتوافق في قضايا أخرى كما هو الحال في مبادرة الرئيس التي طرحت بشكل ثنائي بين المملكة العربية السعودية وفرنسا لمساعدة لبنان للخروج من ازمته الحالية.

هل يمكننا الحديث عن زعامة فرنسا للاتحاد الأوروبي والاستقلال عن الوصاية الامريكية؟

لعل الظروف العالمية والإقليمية مواتية بشدة للجانب الفرنسي للعب دور أكثر تأثيرًا على الخريطة العالمية، فعلى جانب التغيرات الدولية نجد ان الولايات المتحدة الامريكية تحاول الاتجاه نحو آسيا لمواجهة الصين وتتخذ من أجل تحقيق هذا الهدف العديد من الإجراءات الكبرى –تحالف أوكواس، والانسحاب الأمريكي من أفغانستان-، وتغيير الاستراتيجية الخاصة بالتعامل مع الصراعات التي تشهدها المنطقة العربية والافريقية، ما أدى بالضرورة لخلق فراغ كبير في المنطقة نمى معه اتجاهات عديدة من دول أخرى لتعزيز تواجدها في المنطقة (الصين- روسيا)، وبالتالي فقد رأت فرنسا أن الفرصة مواتية للعب دور أكبر في الشرق الأوسط وأفريقيا، والخروج من وصايا الولايات المتحدة الامريكية.

وعلى المستوى الأوروبي نجد انه بعد انسحاب “بريطانيا” من الاتحاد، واعتزال “ميركل” العمل السياسي أصبح الطريق أمام فرنسا ممهدًا للعب دور أكبر أو لرئاسة الاتحاد الأوروبي بصفة دورية، ويظهر هذا التطلع من خلال المقترحات الرؤى المتنوعة التي يقدمها “ماكرون” من اجل أوروبا وحماية أمنها الخاص، وإقامة نظامها الدفاع، ووضع استراتيجية لتحقيق الاكتفاء، وغيرها من الرؤى التي تؤكد طموحه بزعامة فرنسا للاتحاد الأوروبي، ولعل تأييد كثير من المسؤولين الفرنسيين لهذه الخطوة يمثل دافع كبير له، ولكن هل من الممكن ان تفلح خطته؟

بالطبع غياب ميركل سيخلق فراغًا كبيرًا في الاتحاد الأوروبي، ومن الممكن ان يشهد الاتحاد حقبة من الركود او التخبط حيث ان هناك العديد من دوله التي تعاني من أزمات داخلية، بالإضافة إلى مشاكل الهجرة وغيرها من التحديات الاقتصادية، ولكن هذا لا ينفي إمكانية تولي فرنسا زعامة الاتحاد خاصة وأنها الأكثر حضورًا والمرشحة بقوة لهذا المقعد.

وعلى المستوى العربي والإفريقي فنجد ان المنطقتين تشتعل الصراعات فيهم بشكل كبير ما يعني أن البيئة مناسبة لفرنسا للعب دور أكبر لإحداث تأثيرات على عدة مستويات تمكنها من جنى المكانة والنفوذ الذي يساعدها في تحقيق استراتيجيتها لقيادة القارة الأوروبية.

ختامًا… إن الجولة الفرنسية لدول الخليج العربي جزء من التحركات الفرنسية على المستوى الدولي تمهيدًا للعب دور أكبر في منطقة الشرق الأوسط، تمهيدًا لدور اكر في الاتحاد الأوروبي بعد غياب ميركل، كما انها خطوة هامة في ضوء رغبتها في الخروج عن الوصايا الامريكية على قراراتها أو التقيد بها، وسواء اتفقنا أم اختلافنا حول إمكانية قيادتها للاتحاد الأوروبي إلا أنها تعتبر مشرحة بقوة لهذا الدور.

 

 

 

 

 

 

كلمات مفتاحية