إعادة تنظيم القوات الفرنسية في الساحل.. إلى أين تتجه خريطة توازنات القوى

رابعة نور الدين وزير

عقب تعاون استمر لأكثر من ثمان سنوات بين فرنسا ودول الساحل الإفريقي في الملف الأمني ومكافحة الإرهاب، استطاعت خلال هذه الفترة الحكومة الفرنسية تزويد المنطقة بأعداد من الجنود للمشاركة في العمليات العسكرية في ظل محدودية القدرات الدول المنطقة مقارنة بحجم التهديد الواقع عليها، وقد جنت الحكومة الفرنسية جراء هذه الخطوات الكثير من المصالح الاقتصادية والسياحية بالإضافة إلى بناء الثقة والتعاون مع دول الساحل، ولكن في الآونة الأخيرة شهدت العلاقات بين الحكومة الفرنسية ودولة مالي العديد من التوترات والتصعيدات والتي انعكست بصورة كبيرة على الاتهامات والسجالات السياسية التي دارت بين الطرفين، وكان من أشدها اتهام رئيس الحكومة المالية للحكومة الفرنسية بتدريب جماعات إرهابية في فرنسا.

وفي يوليو 2021 أعلن الرئيس الفرنسي وزير الجيوش الفرنسي اتجاه فرنسا نحو تعديل نظام التواجد العسكري في الساحل الافريقي مع التأكيد على ان تقليل التواجد العسكري لا يعني الاتجاه نحو الانسحاب بشكل كامل بل ستستمر فرنسا بالتواجد في المنطقة وستسعى لدعم شركاء دوليين أخرين للتواجد في الساحل الافريقي من أجل دعم الاستقرار والامن في المنطقة ومواجهة الجماعات المسلحة، وبالفعل بدأت الحكومة الفرنسية بإصدار قرارات سحب جزء من القوات في الساحل الإفريقي.

ما سبق يشير إلى أن حالة الزخم المتنامي التي تشهدها منطقة الساحل تثير في الذهن العديد من التساؤلات حول إلى أين تتجه مسارات خريطة توازن القوى في المنطقة؟ وهل ستؤدي الديناميكيات الحالية إلى إعطاء دور أكبر لشركات الأمن الخاصة؟ والاهم من ذلك هل تحاول فرنسا تجنب تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؟ هذا ما سنحاول تناوله خلال الرؤية التالية.

خلفية التواجد الفرنسي في الساحل الإفريقي (مجموعة الخمس)

تتكون دول الساحل الأفريقي الخمس (5G) من (بوركينا فاسو- مالي- النيجر- تشاد- موريتانيا)، وتعاني هذه الدول من وجود الجماعات المسلحة بأشكالها المختلفة؛ (حركات التمرد- المليشيات العرقية- العصابات الإجرامية- الجماعات الإرهابية المتطرفة- التجار العاملون في مجال التهريب)، وغالبًا ما تكون الخطوط الفاصلة بين هذه المكونات غالبًا غير واضحة بصورة كبيرة، وتعمل الجماعات المتطرفة العنيفة في منطقة الساحل جنبًا إلى جنب وداخل وعبر مجموعة واسعة من الشبكات الإجرامية العابرة للحدود، والتي شهدت في العقدين الماضيين عائدات وفيرة، فلطالما كانت التجارة شريان الحياة الاقتصادي لمنطقة الساحل والصحراء، مستغلين في ذلك تقاطع المنطقة مع طرق التجارة التي تربط المدن الرئيسة والتي  ظهرت على خرائط الإتجار غير المشروع اليوم -مثل: غاو، وتمبكتو، وأغاديز، وغات-، والتي كانت وما زالت مراكز رئيسية في حركة التجارة، وبجانب ذلك يواجه الإقليم عدد من التحديات من بينها ما يلي:

الساحل الإفريقي مرمى نيران الإرهاب والعنف، فقد أصدر مكتب المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابع للأمم المتحدة بيانًا في يناير 2021 يقضى بأن الإرهاب أدى إلى نزوح 2 مليون مواطن من منطقة الساحل الإفريقي، كما أوضحت المفوضية بأن هذه الاعداد تزايدت أربع أضعاف خلال عامين فقد وصل عدد النازحين في عام 2019 حوالي 470 ألف مواطن فقط، فضلًا عن تعرض المدنيين للقتل على يد الجماعات المسلحة والمليشيات، كما أدى تصاعد أعمال العنف لإغلاق 3891 مدرسة، 146 مركزًا صحيًا جراء أعمال العنف والقتل، في ظل تدني مستويات الرعاية الصحية وانخفاض فرص التعليم.

 ثالوث الأمن الغذائي والتغير المناخ وأزمة السكان، فقد أوضح برنامج الأغذية في تقرير مارس 2021، فقد وصل عدد الأشخاص الذين يعانون من أزمة حادة في الغذاء لأكثر من 5.7 مليون مواطن، بالإضافة إلى تأثير التغير المناخي على المحاصيل وتغيير فصول هطول الامطار وما يصحب ذلك من أثار سلبية على المحاصيل الزراعية، ما يؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي للسكان في هذه المناطق، وما يزيد الوضع في التفاقم هو ارتفاع نسبة السكان بصورة كبيرة، حيث تصل تتراوح معدلات نمو السكان في دول الساحل إلى 2.9 إلى 3.9 سنويًا.

الوضع الاقتصادي والتعليم والتوظيف، تعاني دول الساحل الإفريقي من تراجع ملحوظ في معدلات التنمية الاقتصادية، فوفقًا لتقرير التنمية الصادر عن الأمم المتحدة يتضح أن المؤشرات الاقتصادية لدول الساحل متدنية وخاصة (تشاد- النيجر- مالي)، كما أن المؤشرات الوطنية لا تعكس الحجم الفعلي للمشكلات التي يعاني منها مجتمع الساحل، وعلى مستوى التعليم نجد انه لا يتوفر التعليم الأساسي إلا ل 65% من إجمالي الأطفال، كما تبلغ نسبة البطالة بين الشباب 60%، وتمثل هذه التحديات الاقتصادية مجتمعة أزمة كبيرة للحكومات.

على مستوى المؤسسات داخل الدولة، نجد ان دول الساحل الإفريقي تعاني من ضعف المؤسسات الحكومية وافتقادها لمفهوم مأسسة الحوار السياسي، فالبرلمان مازالت هشة، والأجهزة القضائية في تنازع مستمر، كما انها تعاني من فشل النموذج اللامركزي، فهناك مناطق نائية يتم تهميشها سياسيًا واقتصاديًا وهو ما يؤدي إلى تصاعد عدم الثقة والاحتقان بين هذه الأوساط.

عدم فاعلية دور الدولة وانتشار الفساد، تواجه دول الساحل تحدي اخر يتعلق بدور الدولة وفاعليته فنجد ان بعض الدول (مالي- النيجر) ونتيجة لعدم فاعلية دور الدولة فإن هناك العديد من الجماعات المسلحة تقدم نفسها على أنها مقدم للخدمات المختلفة داخل الدولة، في ظل عدم القدرة على محاربة أو القضاء على هذه الجماعات التي تشكل دويلات متصارعة داخل الدولة الواحدة، كما أنها لم خلو من اختلاس الأموال العامة والمساعدات الخارجية، وتفتقر وجود منظمات عاملة في المجتمع المدني يمكن الاعتماد عليها في تنفيذ برامج  توعوية وتنموية.

إن هذه التحديات التي تعاني منها دول الساحل الإفريقي تشكل تهديدًا حقيقا لوجودها وقدرتها على منع تنامي الإرهاب والجريمة المنظمة والمخدرات وغيرها.

الوجود الفرنسي في الساحل الافريقي

مع اندلاع أولى شرارات التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي في مالي بالتهديد وتصاعد تأثير الجماعات المسلحة، والتي تمثلت في تصاعد تهديد جماعات الطوارق في شمال البلاد، ودخولها في مواجهات مع القوات المسلحة المالية والتي تكبدت خسائر كبيرة جراء تفوق أنظمة الدفاع والسلاح للطوارق، وعلى أثر ذلك شهدت البلاد موه من الاحتجاجات بدأ في مارس 2012، وعلى أثر ذلك تمكنت فرنسا في ديسمبر 2012 من استصدار القرار رقم (2085) من مجلس الامن الدولي، للسماح لقواتها العسكرية التدخل في المنطقة من أجل دعم دول الساحل وتقليل حجم التهديدات التي يتعرضون لها، وذلك في ضوء ضمان الاستقرار على المستوى الإقليمي وإعادة سلطة الدولة على أراضيها، بالإضافة إلى حماية الاستثمارات الاقتصادية والسياحية للحكومة الفرنسية والتي قدرت ب 900 مليون دولار، وعليه فقد بدأت فرنسا بأولى عملياتها العسكرية والتي عرفت باسم “سيرفال” في يناير 2013، وكان ذلك في إطار مطالبة الرئيس المالي بالدعم لمواجهة الطوارق في المنطقة الشمالية من البلاد، وبالفعل نجحت القوات الفرنسية في الحيلولة دون انتشار الجماعات المسلحة في الجنوب ولكن ذلك لم يمنعها من الزحف في مناطق أخرى.

وفي إطار اتجاه الجانب الفرنسي نحو تعزيز القوات العسكرية في الساحل اتخذ اجراء في أغسطس 2014 تم على أثرة تنفيذ ما يعرف باسم العملية العسكرية “برخان” والي استهدفت نشر 3 ألاف جندي في دول الساحل الخمس لتحل محل عملية “سيرفال”، وقد جهزت هذه القوات بالمعدات العسكرية اللازمة كما منحت حق العمل عبر الحدود لملاحقة الإرهابيين، وتعمل قوات “برخان” بالتعاون مع دول شريط الساحل والصحراء لدعم جهودها في القضاء على الإرهاب والجريمة ودعم أمن واستقرار المنطقة. وفي عام 2017 أعلنت حكومات الدول الخمس اتجاهها نحو تشكيل قوة عابرة للحدود وتم إقرار هذه الخطوة بقرار مجلس الأمن رقم (2359) الصادر في يونيو 2017، والتي ضمت ما يقرب من خمسة ألاف جندي مكونين من سبع كتائب موزعة على ثلاث أقاليم الشرق والغرب والوسط، ونجحت هذه القوات بالفعل في أكثر من 17 عملية عسكرية.

ما أنجزته القوات العسكرية الفرنسية في الساحل، نجحت القوات الفرنسية طوال تواجدها في الساحل الإفريقي في نشر 5.100 جندي، ونجحت في تدريب 7.000 جندي إفريقي، ومولت 12 مشروعًا تنمويًا في دول الساحل، ونفذت ما يقرب من 750 نشاطًا قتاليًا وتدريبيًا، وذلك وفقًا لإحصائيات صادرة عن وزارة أوروبا والشؤون الخارجة الفرنسية في تقرير 2019.

مقدمات خطة إعادة تنظيم الوجود الفرنسي في الساحل الإفريقي بين الغضب الإفريقي – والاتهامات الأوروبية

هناك مجموعة من العوامل التي أدت إلى جنوح الحكومة الفرنسية لتعديل خطتها في منطقة الساحل الافريقي، وكانت لهذه الخطوة مقدمات يمكن ذكرها كما يلي: –

فشل العملية “برخان“، مؤخرًا شهدت (مالي- بوركينا فاسو) العديد من الهجمات من الجماعات المسلحة والتي وقع على أثرها عشرات الضحايا من المدنيين والقوات النظامية في البلدين، وهو ما دفع إلى التساؤل حول جدوى الوجود الفرنسي في الساحل الإفريقي، وهو ما استغلته النخب والشباب في هذه الدول لجعل التساؤل موضوعًا للرأي العام، حيث استخدم في العديد من الخطابات للتدليل على عدم فاعلية الاستراتيجية العسكرية لفرنسا في الساحل والصحراء، فقد لقى ما يزيد عن 500 شخص بين مدني وعسكري حتفهم في منطقة الساحل خلال عام 2021 فقط.

تدعيمها لمشروعات التوريث، فقد دعمت الحكومة الفرنسية الرئيس التشادي “ديبي” لثلاث عقود على الرغم من فشل سياسته وانتهاء امره بالقتل إلا أنها استمرت في تدعيم أبنه بدلًا من محاولة دعم الدولة في إرساء الديمقراطية، على الرغم من ان هذا الأمر مخالف للدستور التشادي، ما نتد عن ذلك تقدم مسيرات للمحتجين في التشاد رفع فيها شعارات تندد بالوجود الفرنسي في البلاد.

التواجد العسكري الفرنسي الوجه الأخر للاستعمار، مع بداية دخول الدخول العسكري لفرنسا في منطقة الساحل كان ينظر لقواتها على أنها جاءت لتخليصهم من الجماعات المسلحة، ولكن بالظر إلى سلوك هذه القوات تجاه المدنيين والجيوش النظامية للدول، كما أن الجنود الفرنسيين في العديد من المرات كانوا يقومون بنهب ثروات بعض مناطق دول الساحل، وهو ما أعاد البلاد إلى ذاكرة المستعمرات وتصاعدت مطالب العديد من جهات المجتمع المدني للمطالبة برحيل القوات الفرنسية، وضرورة عمل موازنه في الشراكات الخارجية للحكومات من خلال شركاء أخرين مثل (روسيا- والصين)، بدلًا من الاقتصار على الشركات الفرنسية.

تراجع الثقة وتبادل الاتهامات، كما سبقت الإشارة في المقدمة فإن التواجد الفرنسي في الساحل كان مفاده دعم الاستقرار مقابل التطرف والإرهاب ولكن نتيجة لسلوك القوات الفرنسية تصاعدت التشكيكات وتراجعت الثقة بين حكومات الدول والحكومة الفرنسية حتى وصلت للاتهام بتجنيد جماعات إرهابية على الأراضي الفرنسية.

ساهمت كل هذه العوامل في تنامي التظاهرات، وتصاعد مطالب الرحيل، منذ عام 2010 فظهرت حركات وتجمعات تحمل دعاوى تطالب بالرحيل الفرنسي الفوري عن دول الساحل والصحراء، وكان من بينها؛ (حركة يونامار في السنغال 2012)، و (حركة فرنسا ارحلي في بوركينا فاسو 2017)، و (حركة فليمبي في الكونغو 2014)، و (لينا في تشاد)، وغيرهم من الحركات المطالبة بنفس المبدأ، وكانت تعلل مطالبها بأن التواجد الفرنسي في المنطقة يزيد الوضع تفاقمًا بدليل انتشار القواعد العسكرية الفرنسية في عدة مناطق في الساحل.

وقوع باريس في دائرة الانتقادات الأوروبية، حيث أدى دعم الحكومة الفرنسية لسلطة الأشخاص مقابل المؤسسات في بعض الدول في المنطقة –ما حدث في تشاد مثالًا-، إلى موجه من الانتقادات للسياسة الفرنسية في إفريقيا واتهامها بالازدواجية ومخالفة القيم والمبادئ الخاصة بالمجتمع الغربي، وهو ما أدى إلى إحراج الحكومة الفرنسية عل المستوى الأوروبي.

محاولة كسب التأييد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لعل أحد الدوافع التي قادت “ماكرون” إلى إعادة تنظيم التواجد الفرنسي في إفريقيا هو تصاعد المطالب على المستوى الداخلي الفرنسي التي تندد وترفض الوجود الفرنسي في إفريقيا، والنظر إليه على أنها خطوة غير مجدية وتم اخاذها بدون دراية ودراسة، ولعل ذلك كان سببًا لانسحاب فرنسا من بعض قواعدها في مالي بعد ان قدرت الخسائر الي تكبدتها بواقع 80%، وعليه فيحاول الرئيس الحالي كسب الزيد من الأصوات التي تمكنه من الفوز في الانتخابات المقبلة.

هل يتشابه السيناريو الفرنسي مع السيناريو الأمريكي في الانسحاب من أفغانستان؟

ما سبق يمثل بنسبة ما الدوافع التي أدت إلى اتخاذ الحكومة الفرنسية الخطوة بالإعلان عن إعادة تنظيم التواجد العسكري لها في منطقة الساحل الإفريقي في 10 يونيو 2021، ويأتي ذلك في إطار تخوفها من تفاقم الأوضاع في الساحل بما يؤثر على مصالحها بشكل كبير، وعليه فقد أصدرت وزارة الجيوش الفرنسية قرارًا يقضي بالاتجاه نحو تقليل عدد الجنود الفرنسيين في منطقة الساحل الإفريقي بحيث يصل إلى عدد (2000 إلى 3000 جندي بحلول عام 2023)، مع التأكيد على أن هذا الاجراء لا يعني الانسحاب الفرنسي بشكل كامل من الساحل الإفريقي، وتشتمل الخطة على ثلاث مراحل أساسية أولها، إغلاق بعض القواعد الفرنسية، المرحلة الثانية بحلول صيف 2022 سيتم خفض القوات الفرنسية بنسبة 30%، أما المرحلة الأخيرة والتي تبدا مع بداية 2023، والت ستشهد انخفاضًا إلى النصف من 5000 إلى 2500-3000 جندي في عملية “برخان”، ونقل مزيد من الأصول الفرنسية إلى قاعدة “نيامي” بالنيجر.

هذه الخطوات تدفعنا بالضرورة للتساؤل حول هل ينتهي الوجود العسكري الفرنسي فعليًا بانتهاء العملية “برخان”؟، من الممكن القول بأن فرنسا ليست مستعدة للانسحاب الكامل من إفريقيا (المستعمرة التقليدية)، ولعل الدليل على ذلك هو محاولة إعادة صياغة التواجد العسكري في إفريقيا من خلال مظلة أوروبية تتمثل في تحالف “تاكويا” الذي تأسس في يوليو 2020 وتتكون قوته الأساسية من 600 جندي يبلغ عدد المشاركين من فرنسا 300 جندي، أي نصف قوة “تاكويا”، وهي قوات مشاكرة بالتعاون بين (فرنسا- إستونيا- التشيك- إيطاليا- السويد)، والي تسعى من خلال هذا التحالف إلى دعم خطط الدول في القضاء على الإرهاب، دعم الجيوش الوطنية للدول في ظل محدودية الإمكانيات وارتفاع التهديد والخطر.

ولعل هذا السيناريو يتشابه إلى حد ما مع سيناريو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وخاصة أن القوت الفرنسية شهدت خسارة كبيرة خلال عام 2021، وبالتالي فتصاعد الخوف من إمكانية تكرار السيناريو الأمريكي في أفغانستان، كما أن المقاربة الفرنسية من الممكن أن تؤدي إلى تحالف بعض الجماعات المسلحة فيما يعني عودة ميزان القوى للجهاديين، وهو ما يتشابه مع السيناريو في أفغانستان، كما أن الإجراءات الفرنسية ولدت نفس المخاوف لدى المجتمع الأوروبي من تكرار تجربة أفغانستان وما أعقبها من قلق من هجرة الحركات المتطرفة إلى أوروبا.

هل تؤدي المقاربة الفرنسية إلى استمرار التصعيد مع الجزائر؟

يعتبر الإقليم المغاربي –شمال إفريقيا-، أحد اهم الأقاليم المجاورة لمنطقة الساحل والتي تتصل معه في الحدود على سبيل المثال فأن الحدود بين مالي والجزائر تمتد لأكثر من 700 كيلومتر، ما يعني أن هذه المنطقة تتأثر بما يحدث في الإقليم، وعليه فإن الانسحاب الفرنسي بالضرورة سيؤدي إلى تداعيات على المستوى الأمني ومستوى العلاقات بين دول الشمال الإفريقي تحديدًا الجزائر وبين فرنسا.

الجزائر أهم المتأثرين بالانسحاب الفرنسي من الساحل، فلطالما سعت الجزائر طوال سنوات للعب دور فعال في الأزمة في مالي وعملت على بذل المساعي لتهدئة الأوضاع واكن أخرها توقيع اتفاق تهدئة في عام 2015 بين حكومة “باموكو” وبين “الطوارق”، وعليه فإن الانسحاب الجزائري من الساحل الإفريقي الذي يعتبر امتداد لدول الشمال فإنه من المؤكد سيؤثر على أمن واستقرار المنطقة بشكل عام وأمن المنطقة الجنوبية من الجزائر بشكل خاص، وهو ما قد يدفعها إلى اتخاذ إجراءات لحماية أمنها واستقرارها، مثل السعي للانخراط في مفاوضات بين الأطراف المختلفة، التأييد على اتفاق الجزائر للسلام، وتعزيز التواجد الأمني لها على الحدود الجنوبية مع مالي، ولكن من المستبعد أن تتدخل عسكريًا في ظل السياسة الجزائرية الحذرة والرشيدة.

استعداد الجزائر للعب دور أكبر في الساحل، وعلى مستوى تأثير تبني فرنسا لخطة إعادة تنظيم القوات فإن هذا الاجراء من شأنه أن يؤثر على اتجاه العلاقات بين الطرفين نحو التصعيد، حيث أن الدولتين ما زالتا تعاني من تصاعد الازمة فيما بينهم، وبالتالي فإن الانسحاب الفرنسي سيشكل ضغط كبير على الحكومة الجزائرية، خاصة وأنها الدولة المرشحة بقوة لسد الفراغ الأمني بحكم الجوار وترابط الحدود جغرافيًا، ولعلها بالفعل تتخذ الإجراءات نحو تعزيز دورها في هذه المنطقة من خلال تعديل الدستور بما يقضي بصلاحية الرئيس في ارسال القوات العسكرية إلى الحدود خارج البلاد إذا دعت الضرورة، كما أنها تقوم بعمليات دورية جوية في شمال مالي، ومن الممكن ان تتجه لعقد اتفاقيات مع دول أخرى للمشاركة في دعم أمن الحدود على سبيل المثال الولايات المتحدة الامريكية.

وبشكل عام يمكن للدول العربية المجاورة للساحل الإفريقي أن تعمل على إحياء مشروعات التكامل الإقليمي مثل تجمع الساحل والصحراء 1998 وميثاق امن دول (س ص) لحفظ الامن والاستقرار لسد الفجوة ومحاولة التكامل في مواجهة الأخطار العابرة للحدود.

هل يشكل خفيض التواجد الفرنسي في تحولات خريطة توازنات القوى في الساحل ويفتح الطريق أمام شركات الامن الخاصة؟

لعل خوف القيادات في “باماكو” بدولة مالي من تكرار السيناريو الأفغانستاني فقدت عمدت حكومة المدينة إلى عقد اتفاق أمنى مع المجموعة الروسية “فاجنر” Wagner Group الشركة الأمنية الخاصة شبه العسكرية الروسية)، بشأن إرسال مرتزقة لتدريب القوات المالية، ولكي تعوض الفراغ الذي سينتج عن انسحاب الحليف الاستراتيجي “فرنسا”، وعليه فقد اعترضت الحكومة الفرنسية بشدة، حيث أجرت وزيرة الجيوش الفرنسية “فلورنس بارلي” زيارة لدول الساحل في التاسع عشر من سبتمبر 2021 لمدة يومين بهدف التباحث مع سلطات دول الساحل بشأن الانتشار العسكري في المنطقة، كما سعت فرنسا لحشد السخط الأوروبي على هذه الخطوة وأصدرت أربع تحذيرات لوقف أي إجراءات في هذه الصفقة، وكان أولها؛ ما جاء على لسان وزير خارجية بأن أي اتفاق مع “فاجنر” سيقوض من الجهود الفرنسية لمكافحة الإرهاب في الساحل، وثانيها؛ استدعاء باريس لتجارب مجموعة “فاجنر” في أفريقيا الوسطى وسوريا وما ارتكبته من تجاوزات وانتهاكات حقوقية لمنع مالي من التوقيع على الصفقة. وثالثها؛ التحذير من أن توقيع الاتفاق سيترتب عليه الانتقاص من سيادة مالي والسماح لموسكو بالتدخل في شئون باماكو الداخلية وتوجيه سياستها. ورابعها؛ التهديد بمواجهة مالي “عزلة دولية” ذات أبعاد اقتصادية وأمنية في ضوء الاستياء والرفض الأوروبي لتلك الخطوة، وما سيترتب عليه من انعكاسات سلبية على مشاركة “تاكويا” في الساحل.

وبالتالي فيمكننا القول بأن استراتيجية فرنسا في خفض القوات في الساحل من الممكن أن يكون البوابة التي تنطلق منها إجراءات وصفقات لشركات الأمن الخاصة، وخاصة أنها تتهافت للحصول على الفرص في مناطق الصراع حول العالم، كما أنها كانت الخيار الأول أمام حكومة “باماكو” لتعويض فراغ الوجود الفرنسي في ظل تصاعد التهديدات التي تواجهها دول الساحل وعجز قواتها النظامية في مواجهة الجماعات المسلحة والإرهابيين.

هل تتغير خريطة القوى في الساحل لصالح الصين وروسيا؟

سيؤثر تقليل الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا في ظل تصاعد التوترات في دول الساحل والبحث عن شركاء استراتيجيين لتعويض الفراغ الأمني في تلك الدول فبالتالي سيعاد تشكيل خريطة القوى لصالح الصين وروسيا باعتبارهم أكثر القوى المهتمة بإفريقيا في الوقت الحالي في ظل توجه الإدارة الامريكية نحو آسيا في ظل تصاعد التنافس مع الصين.

أولًا: النفوذ الروسي في الساحل الإفريقي.

اعتمدت روسيا في محاولتها للتواجد في إفريقيا ولعب دور أكبر على عدم وجود ذاكرة استعمارية بين البلدين، وعليه فقد بدأت موسكو في تعزيز تواجدها من خلال توقيع الاتفاقيات العسكرية مثل؛ الاتفاقية العسكرية الوقعة في 24 يونيو 2021 مع الحكومة الموريتانية بهدف تطوير القدرات العسكرية للجيش الموريتاني، ودعم الامن في المنطقة، بالإضافة إلى تطوير لجنة مشتركة بين البلدين لمتابعة الاتفاق السابق، ولعل اهتمام روسيا بموريتانيا تحديدًا يأتي في إطار أنها دولة مستقرة في محيط مضطرب، كما انها بوابة للتعاون التنموي والعسكري مع دول الساحل وبالتالي فهي قوة لا يمكن لأي طرف ان يغض الطرف عنها إذا أراد لعب دورًا أكبر في إفريقيا والساحل، وقد سبقها التعاون الروسي مع مالي 2014 والنيجر 2017.

كما ان لجوء حكومة “باماكو” إلى شركة “فاجنر” الروسية من الممكن أن يؤدي إلى تعزيز الوجود الروسي في منطقة الساحل، لمواجهة الفراغ الأمني الذي سيتركه سحب بعض القوات الفرنسية، كما أن هناك العديد من القوى الداخلية في مالي لا تعارض الوجود الروسي في البلاد، وبالطبع لن يقتصر الوجود الروسي في الساحل على الجانب العسكري فقط، فمن الممكن أن تسعى روسيا إلى استغلال تراجع أداء الاتحاد الأوروبي في إدارة ملف الهجرة غير الشرعية بالسيطرة على طريق الهجرة الذي يعبر منطقة شمال إفريقيا والساحل إذا يتسبب تدفق المهاجرين في خلق أزمة جديدة تؤدي إلى تفاقم التوترات السياسية بين دول الاتحاد، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها والتي ستحاول تعميق تواجدها على المستوى العسكري والأمني ومن الممكن الاقتصادي لتغلب على الأوضاع الاقتصادية المتردية فيها.

ولكن في الوقت نفسه مازال الجانب الروسي يواجه تحديات تتعلق بوجوده وتوسيع نفوذه في منطقة الساحل الإفريقي، على سبيل المثال؛ التنافس الدولي على منطقة الساحل الإفريقي، بالإضافة إلى الانتقادات الموجهة لشركة “فاجنر” والتي ممن الممكن أن تؤدي إلى تحجيم النفوذ الروسي في إفريقيا، بالإضافة إلى إمكانية استمرار الضغط الفرنسي على حكومات الساحل لمنع التغلغل الروسي.

ثانيًا: فرص الوجود الصيني في الساحل الإفريقي

 بالطبع فإن الصين تمتلك المقومات اللازمة لها لتعزيز علاقاتها مع دول الساحل الإفريقي في ظل وجود علاقات تاريخية وثيقة بين القارة الإفريقية، كما أن السياسة الخارجية الصينية متنوعة وتعتمد على أكثر من أداة ما يعني أن الفرصة مواتية لها للعب دور أكبر في الساحل الإفريقي على أثر اتجاه التواجد الفرنسي نحو التقلص.

وعلى أثر الترحيب الإفريقي بالتعاون مع الجانب الصيني فقد طالبت حكومة السنغال من الجانب الصيني ضرورة التدخل لدعم الامن والاستقرار في منطقة الساحل والصحراء وذلك خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي الذي افتتح في داكار خلال نوفمبر 2021، كما ان الصين تعتبر أكبر شريك اقتصادي للقارة الإفريقية بحجم تجارة يتعدى 200 مليار دولار وفقًا لبيان صادر عن السفارة الصينية في داكار عام 2019.

وفي إطار تبني الصين لنموذج تعاون خارجي يعتمد على توسيع دائر وأليات التعاون المشترك بحيث لا تقتصر على المشروعات التنموية فقط أو الاقتصادية بل والعسكرية والأمنية وبناءً على تاريخية العلاقات بين الطرفين فيتوقع أن يكون للنفوذ الصيني في منطقة الساحل الإفريقي دور كبير خصوصًا وأن الإدارة الأمريكية لم تصبح المنطقة غيرت من أولوياتها في الوقت الحالي وبالتالي فلن يكن هناك ما يعيق الصين من التواجد في الساحل.

في الختام يمكن القول بأن؛ منطقة الساحل منطقة استراتيجية تشهد مستوى غير مسبوق من العنف والإرهاب، والتنافس الدولي والإقليمي على الثروات وغيرها، وبالحديث عن إيجاد حلول للأزمات المتجذرة فيها فالأمر يصعب تحقيقه في المدى القصير والمتوسط، بل إن المنطقة من الممكن ان تواجه تحديات أمنية كبيرة على خلفية تناقص التواجد الفرنسي فيها وبدء دخول اطراف أخرى للعب دور في الصراع، وبالتالي فمن الضروري تطوير استراتيجية جديدة لمواجهة الانتشار المتزايد للجماعات الإرهابية، وجماعات الجريمة المنظمة وكافة أشكال التنظيمات الإرهابية والمسلحة.

إن جهود دول الساحل الإفريقي لاحتواء الوضع داخليًا لن تتم فقط بالاعتماد على الجهود الداخلية وتوحيد الصف، بل تعتمد أيضًا على الدعم الإقليمي والدولي من المجتمعات المجاورة من أجل تخفيض مستوى العنف والخطر، لذا فلابد أن يتم تنشيط التعاون والتكتلات بين دول الساحل والدول المجاورة كما سبقت الإشارة، من أجل كسب ثقة المجتمع الدولي ودعمه، وفقًا لما تفرضه البيئة الأمنية والعسكرية من تحديات.

 

كلمات مفتاحية