البروفيسور أيمن سلامة: أستاذ القانون الدولي العام
يُعد الحياد المسلح أحد الخيارات التي قد تسمح لأوكرانيا بالبقاء واستقرار أوروبا، وقد يبدو هذا تناقضًا من حيث المصطلحات وابتداعا من حيث التاريخ أيضا، حيث غالبًا ما يربط الناس الحياد بالضعف العسكري، ونزع سلاح الدولة المحايدة، وإقرار دساتير هذه الدولة بعدم شن الحروب أو الانخراط في أي نزاع مسلح كما في حالة النمسا عام 1955.
خُبِرَت دول عديدة بما يشبه الحياد المسلح مثل: النمسا والسويد وفنلندا وأيرلندا وسويسرا، ويمكن للحياد المسلح أن يخدم مصالح البلد الذي ارتضي الحياد اختيارا أو قسرا، و تُعد كل من بلجيكا واللوكسمبرج المثالين الصارخين للحياد القسري، حيث فرضت القوى الأوروبية اتفاقيات الحياد على بلجيكا (1831) ولوكسمبورغ (1861) .
كثيرا ما تلجأ الدول لإبرام اتفاقيات الحياد التي تم التفاوض عليها بعناية للحفاظ على وحدة أراضيها، وضمان السيادة والحفاظ على السلام، و تعد النمسا المثال الصارخ في هذا الصدد بعد ابرام اتفاقية حيادها عام 1955 ثم أقر دستورها ذلك الحياد عام 1956.
جَلٌي أن ليس ثمة نظرية واحدة عن “الحياد”، لكن يكاد يجمع الشراح و الخبراء علي إنه مفهوم مرن مصمم خصيصًا لمصالح وظروف البلد المحدد، وبالرغم من ذلك هناك خصائص رئيسية يمكن الزعم أنها تكتنف المفهوم و الممارسة المتعلقة بالحياد و الدولة المحايدة، ولعل أبرزها :
أولا الحياد لا يعني نزع سلاح البلد
فسويسرا والسويد وفنلندا أعضاء من خارج الناتو ولديهم جيوش قوية، بما في ذلك أنظمة دفاع جوي قوية، و يشترون الأسلحة مَن مَن يريدون.
يُعرف السويسريون المحايدون جيدًا بجيشهم الدفاعي الإقليمي الصارم، وتدرج سويسرا كثالث أعلى معدل لامتلاك الأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة واليمن.
بعد أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014، عززت السويد وفنلندا إنفاقهما الدفاعي، وقفز الإنفاق السويدي 40٪ بين عامي 2021 و 2025، إلى 1.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي ، و تنفق فنلندا 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع ، بعد زيادة بنسبة 54٪ بين عامي 2020 و 2021 – ووقعت للتو صفقة لشراء 64 طائرة أمريكية من طراز F-35.
ثانيا الحياد لا يقوض السيادة بشكل مطلق
صحيح أن اعلان الحرب أحد مظاهر تمتع الدولة بسيادتها في الدومين الخارجي، فضلا عن ابرام اتفاقيات الحد من الأسلحة، لكن أحيانا يصون الحياد استقلال وسيادة الدولة من جانب آخر، وهذا ما حدث بالنسبة للنسا في عام 1955.
بعد تقسيم النمسا إلى مناطق احتلتها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تمامًا مثل ألمانيا، و أحرزت المفاوضات تقدمًا طفيفًا حتى عام 1955، عندما قدم المستشار النمساوي يوليوس راب اقتراحًا بالحياد إلى موسكو ، واعدًا بعدم الانضمام إلى أي تحالف عسكري أو السماح بقواعد عسكرية على الأراضي النمساوية، لذلك وافق الزعيم السوفيتي و انسحبت القوات السوفيتية ، وحذت القوات الغربية حذوها، وهكذا ظلت النمسا موحدة ومحايدة طوال الحرب الباردة بينما تم تقسيم ألمانيا المجاورة بين الشرق والغرب.
في السياق الأوكراني شدد الرئيس الأوكراني زيلينسكي علي أن قبول أوكرانيا بتبني الحياد لا يعني تنازلها عن شبر واحد من أراضيها وهذا رد مباشر وصريح علي المطالبات الروسية باعتراف أوكرانيا بالكيانات الانفصالية التي انفصلت عنها منذ عام 2014.
في ذات السياق ، وبالرغم أن سويسرا ليست عضوًا في الناتو ولا الاتحاد الأوروبي ، ومع ذلك ، فإن القرار السويسري المفاجئ بدعم عقوبات الاتحاد الأوروبي هو تحول ملحوظ لبلد حافظ على حياده الاقتصادي والعسكري منذ أن ضمنت القوى الأوروبية حيادها الدائم في مؤتمر فيينا لعام 1815.
ثالثا حجر الزاوية للحياد هو النأي عن الانضمام إلى التحالفات العسكرية
هناك ثلاثة مرتكزات أساسية لجميع أشكال الحياد الدائم: الوعد بعدم الانضمام إلى تحالفات عسكرية، وحماية أراضي الدولة ، والتعهد بعدم استضافة قوات أجنبية، وهناك أيضا شروط أخرى قابلة للتفاوض وتختلف من حالة إلي حالة أخري .
في السياق الأوكراني المعقد ، بَدهٌي أن عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو أمر ضروري بالنسبة لروسيا، فقد سبق أن صرح الرئيس بوتين أن الصراع بين الناتو وروسيا يمكن أن يتحول إلى نووي إذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو.
في السياق الأوكراني ليس من الواضح ما إذا كان التعهد الأوكراني بعدم الانضمام إلى الناتو سيكون كافياً بالنسبة للرئيس الروسي بوتين، الذي أعلن أن الأوكرانيين والروس هم ” شعب واحد “، لكن النموذج الأوكراني علي وجه التحديد يكشف أن هناك شروطًا محددة يمكن للدول أن تتفاوض بشأنها.
رابعاً كثيرا ما تنضم الدول المحايدة إلى المنظمات التجارية والاقتصادية
تشمل الدول المحايدة أو غير المنحازة في الاتحاد الأوروبي أيرلندا والنمسا والسويد وفنلندا وقبرص ومالطا، لذلك وبعيداً عن تربص الدب الروسي فقد طلبت أوكرانيا من الاتحاد الأوروبي التعجيل في طلب العضوية ، وهنا سيطرح السؤال المركزي: هل ستصبح عضوية الاتحاد الأوروبي مهمة لبوتين بذات أهمية العضوية في الناتو؟
يظل السؤال الشرعي و المشروع في آن هو : هل سيفلح الحياد القسري في الحالة الأوكرانية؟
نظرياً: لا يمكن أن تحدث أي اتفاقية حياد دون أن يسعى الأوكرانيون إليها ويقبلونها، وتدليلاً، فمنذ الحرب العالمية الثانية ، فشل الحياد المفروض من الخارج علي الدول دون ارادتها المسبقة ، كما في حالة لاوس في عام 1962 ، أثناء حرب فيتنام.
في ذات الصدد وكجزء من اتفاق تفاوضي، قد تضمن القوى الكبرى وحدة أراضي أوكرانيا وحيادها، في “اتفاقية ضمان ” وسيتعين عليهم أن يوازنوا بين المخاطر الشديدة التي قد تنجم عن الانجرار إلى أزمة مستقبلية، لكن تقديم ضمانات الحياد يمكن أن يمنح أوكرانيا الأمن والاستقلال في مواجهة روسيا. في الوقت الحالي وبعد التصريحات الأخيرة للرئيس الأوكراني من غير الواضح ما إذا كان الحياد خيارًا، أو متى يمكن أن يصبح خيارًا، وقد يستغرق الأمر مأزقًا دمويًا طويل الأمد لإقناع الرئيس بوتين بمراجعة أهدافه الحربية اللصيقة بفرض الحياد علي أوكرانيا.
ختاماً، ستقطع جهيزة ” أوكرانيا ” قول كل خطيب و تجيب علي أهم سؤال ، هل ستختار أوكرانيا الحياد المسلح خيارا للنأي عن تهديدات الدب الروسي ؟