بقلم السفير محمد العرابي: وزير خارجية مصر الأسبق
مقدمة
تمتلك منطقة الخليج العربي أهميةً إستراتيجية وجيوسياسية، وتعتبر من الناحية الجغرافية مِفْصلًا إستراتيجيًّا في تفاعلات الصراع بين الشرق والغرب حيث تقع على محور طرق المواصلات البحرية والجوية بين أوروبا والشرق الأوسط وغرب أسيا وجنوب شرق أسيا، إضافةً إلى أهميتها الجغرافية والإستراتيجية، فإنها تحظى بأهمية اقتصادية بالغة وثروات نفطية وغازية، وتُعدُّ مصدرًا رئيسيًّا للطاقة في العالم، ولعل ظهور النفط كمتغير مستقل أساسي في العلاقات الخارجية لدول الخليج مع القوى الدولية والإقليمية، زاد من حيوية المنطقة للاقتصاد العالمي، وتنافس القوى الإقليمية والدولية؛ من أجل توسيع النفوذ.
ارتبطت المنطقة بالتأثيرات والمتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية، كما أصبحت الدول المطلة عليها متأثرة بتغيرات الأوضاع الدولية أكثر من غيرها، ومن تلك الناحية، تشمل منطقة الخليج كلًا من (العراق والكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات وعمان والبحرين وقطر).
وتتمتع المملكة العربية السعودية – بشكل خاص – بوضع سياسي واقتصادي مستقر في العموم، واقتصادها نفطي؛ إذ إنها تمتلك ثاني أكبر احتياطي للبترول، وسادس احتياطي غاز، وأكبر مصدر نفط خام في العالم، والذي يشكل قرابة 90% من الصادرات، وتحتل المملكة المرتبة التاسعة عشر من بين أكبر اقتصادات العالم، وتُعتبر السعودية من القوى المؤثرة سياسيًّا واقتصاديًّا في العالم؛ لمكانتها الإسلامية، وثروتها الاقتصادية، وتحكمها بأسعار النفط وإمداداته العالمية.
إلا أنه مع وجود إيران ذات الدور الحيوي والإستراتيجي بالقرب من منطقة الخليج، والتي أظهرت جرأةً متزايدةً في تصرفاتها، تظل المملكة هي مفتاح الدول العربية الخليجية؛ لكونها من الدول الرئيسية في المنطقة، ويرتبط أمنها القومي بأمن منطقة الخليج؛ وذلك لما تحظى به من مكانة بالغة الأهمية، فهي واجهة العالم الإسلامي، ومركز لأهم المناطق الإسلامية المقدسة.
واشتدت التهديدات التي تواجهها المملكة في السنوات الأخيرة، وأصبحت في ازدياد، خاصةً عقب الانسحاب الأمريكي المتعثر من أفغانستان والمنطقة بشكل عام؛ حيث كانت تمثل الولايات المتحدة لسنوات عديدة الشريك الإستراتيجي الأهم على الإطلاق- وإن لم يكن الوحيد- للدول الخليجية، كما كانت هي الفاعل الأساسي والمسؤول عن ضمانات الحماية للدول الخليجية على مدى عقود طويلة، منذ حرب الخليج الثانية، وهكذا استمر تبادل المصالح بين دول الخليج والولايات المتحدة متوافقًا طوال الفترة الماضية، ولاسيما فيما يتعلق بالاستقرار في دول الخليج، وحركة النفط للولايات المتحدة، والانتشار العسكري الأمريكي في منطقة الخليج؛ لمواجهة التهديدات المشتركة.
إلا أن السياسة الجديدة التي تتبعها إدارة (بايدن) الحالية بالتصدي للنفوذ الصيني في الشرق، والاتجاه نحو الشرق؛ لحماية المصالح الأمريكية هناك، أضعف تواجدها في منطقة الشرق الأوسط، وإن كان هذا التواجد قد قلَّ تدريجيًّا منذ إدارة (أوباما)، ولكن قرار واشنطن في التخلي عن المنطقة تمامًا بشكل غير مدروس وعشوائي، أوصل رسالةً مهمةً لدول المنطقة ككل، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، والتي هي محل دراسة الورقة بعدم الاعتماد على الولايات المتحدة كضامن وحيد للأمن.
وتركز الورقة على إبراز أهم التهديدات التي تواجهها المملكة العربية السعودية، والاستراتيجية التي تتبعها المملكة لمواجهة تلك التهديدات.
التحديات و التهديدات الأمنية …”المملكة محاصرة”
جغرافيًّا، تمتلك المملكة عددًا كبيرًا من الجبهات وحدودًا طويلةً وسهلة الاختراق، وتُعدُّ أكبر دول الشرق الأوسط مساحةً، فهي تغطي مساحة 830،000 ميل مربع، ويحدها كل من (الأردن، والعراق، والكويت، وقطر، والإمارات، وعمان، واليمن)، ويبلغ طول تلك الحدود البرية 4415 كيلومترًا، إضافةً إلى خطها الساحلي البالغ 2640 كيلومترًا، وعلى هذا النحو، يجب على قوات الأمن في المملكة التعامل في وقت واحد مع عدد كبير من مناطق التهديد.
كما تمثل المملكة الدولة الوحيدة التي تضم سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر، وبالنظر إلى أن الخليج العربي ممر شحن إستراتيجي لصادرات المملكة النفطية في طريقها إلى أسيا، وموطن لخزانات النفط والغاز، فإن الخليج نفسه حساس على الأقل، إن لم يكن أكثر من أي نقطة على طول الحدود البرية، وحتى على حدود المملكة مع دول الخليج الشقيقة؛ حيث يوجد قلق دائم من السيناريوهات التي يمكن أن تأتي بنظام شيعي مؤيد لإيران إلى السلطة دون سابق إنذار.
ومن أبرز التهديدات الأمنية التي تواجهها المملكة الآتي:
– التهديد الإيراني
تُعدُّ إيران هي التهديد الرئيسي للمملكة، ولسنوات عديدة انخرطت البلدان في مناوشات مختلفة في عدة ميادين، ولعل أبرزها اليمن، فالمملكة تقود قوات التحالف العربي؛ لمواجهة الحوثيين في اليمن، الذين يتلقون مساعدات إيرانية كبيرة.
القدرات العسكرية
وفقًا لآخر إحصائيات أوردها موقع “غلوبال فاير باور”، المختص بالشأن العسكري للدول لعام 2022، الذي يعرض تحليلًا فريدًا للبيانات المتعلقة بـ140 قوة عسكرية حول العالم، ويُقيِّمُ القدرة المحتملة لكل دولة على شن الحرب عبر البر والبحر والجو؛ استنادًا لوسائل القوة التقليدية، بدايةً من القوة البشرية إلى المعدات والتمويل، حلت المملكة في المرتبة الـ20 عالميًّا، والخامسة بمنطقة الشرق الأوسط، متراجعة ٣ مراكز عن تصنيف العام الماضي، بينما حلَّت إيران في المرتبة الـ14 عالميًّا، والثالثة بمنطقة الشرق الأوسط، وهو نفس ترتيبها في تصنيفات 2019 و2020 و2021.
تجدر الإشارة الى أن القدرات العسكرية للدول لا يحكمها العدد فقط، بل يعتبر عنصر الكفاءة والحداثة أمران مهمان أيضًا؛ فيمثل التهديد الأكثر جوهرية الذي تواجهه المملكة حاليًا هي (التهديدات العابرة للحدود)، متمثلةً في الهجمات الإلكترونية والهجوم الصاروخي الدقيق وطائرات بدون طيار واسع النطاق، الذي من شأنه أن يلحق الضرر بالمنشآت النفطية والبنية التحتية الأساسية.
وتعد التهديدات المحتملة وثيقة الصلة بعدة جوانب: هجوم متزامن على عدة جبهات، عبر الأراضي السعودية، لاسيما ضد المنشآت الإستراتيجية الثابتة للمواقع المعروفة، والاستخبارات والاختراق العملياتي، وتمتلك إيران أكبر ترسانة في الشرق الأوسط من صواريخ كروز وصواريخ (أرض – أرض) وطائرات بدون طيار، بما في ذلك المنشآت الإستراتيجية على ساحل البحر الأحمر، وتشكل الدقة والمدى لتلك الصواريخ، وزيادة القوة الفتاكة، وقدرة إيران على الإطلاق من عدة ساحات (إيران والعراق واليمن)، صعوبةً وتحديًا كبيرًا لقدرات الدفاع الجوي السعودية.
وبحريًّا، تستخدم إيران من جانبها على نطاق واسع عشرات من السفن الصغيرة والسريعة التي تهاجم فجأة، والصواريخ المضادة للسفن، بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الحوثيون الألغام البحرية على نطاق واسع وهجمات متكاملة من قِبَلِ المركبات غير المأهولة (الطائرات بدون طيار والمركبات السطحية غير المأهولة) في ساحة البحر الأحمر، ويتجلى التعاون بين إيران والحوثيين في البعد البحري أيضًا، في وجود سفن تجسس إيرانية في جنوب البحر الأحمر (سابقًا سافيز حتى تم ضربها، والآن بهشاد).
ومن الناحية العملية، تعرضت المملكة في السنوات الأخيرة للهجوم على الجبهات الثلاث (جويًّا-بحريًّا-سيبرانيًّا)، وظهرت قدرات الدقة الإيرانية في الضربات على منشآت أرامكو في بقيق (سبتمبر 2019) وميناء رأس التنور (مارس 2021)؛ فمن أجل الوصول إلى هذا المستوى من الدقة، احتاجت إيران إلى قائمة مستهدفة ومعلومات استخباراتية عالية الجودة.
وعلى الرغم من ضخامة الأموال المستثمرة في أنظمة الدفاع السعودية، ولاسيما منظومات الدفاع الجوي الأكثر تقدمًا “باتريوت” و”ثاد”، اللذان بمقدورهما اعتراض الصواريخ الباليستية والطائرات النفاثة، إلا أن الرياض قد تواجه صعوبةً في التعامل في حالات الهجوم المكثف والمتزامن.
– التهديد من اليمن
خلال سبع سنوات من الحرب الأهلية في اليمن، نجح الحوثيون بدعم إيران الكبير في تنفيذ عدد كبير من عمليات اختراق الحدود في الأراضي السعودية، واستهداف المدنيين، إلا أنه في الوقت نفسه، نجحت المملكة في الحفاظ على حدودها الطويلة، ومنع العمليات البرية واسعة النطاق في عمق أراضيها.
ويمكن القول: إن التهديد الرئيسي من اليمن هو تهديد جوي، ينعكس في إطلاق نيران عالية المسار باتجاه المدن في المنطقة الحدودية، ونحو أهداف في المنطقة تشمل المطارات والمنشآت النفطية، ومن وقت لآخر، يتم إطلاق هجمات على أهداف عسكرية واقتصادية ومدنية في عمق المملكة، بينما في الحدود البحرية بالقرب من اليمن، أثبت الحوثيون قدرتهم أيضًا على ضرب ناقلات النفط في منطقة البحر الأحمر، وحتى مهاجمة السفن بالقرب من مينائي جدة وينبع.
– التهديد من العراق
العراق يشكل تهديدًا مزدوجًا للملكة؛ فأولًا: يوجد في العراق العديد من الميليشيات الموالية لإيران، التي يمكن أن تمثل تهديدًا للمملكة إذا انقلبت على الحكومة الحالية، وقامت بفرض سيطرتها، أما ثانيًا: يمكن للعناصر السنية المتطرفة من فلول (داعش)، التسلل عبر الحدود البرية الطويلة، وتنفيذ هجمات ضد أهداف داخل الأراضي السعودية، كما تشكل الحدود الأردنية أيضًا تحديًا مشابهًا فيما يتعلق بتسلل العناصر المعادية والأسلحة إلى المملكة.
يزيد الوجود الإيراني ووكلاؤه في العراق واليمن من إحساس السعودية بأنه للمرة الأولى، أصبحت المملكة في الواقع “محاصرة” من جميع الجهات من قبل إيران، فبالإضافة إلى أن البرنامج النووي الإيراني وانعكاساته هو مصدر قلق، فلقد أثبتت إيران بالفعل استعدادها للعمل ضد المصالح السعودية والخليجية في المنطقة بجرأة متزايدة.
الإستراتيجية السعودية لمواجهة التهديدات الأمنية
أظهرت القيادة الرشيدة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها، التزامها الراسخ بتعزيز علاقاتها الدولية مع دول العالم والمنظمات الإقليمية والدولية؛ إذ تتمتع بعلاقات ثنائية مميزة وشراكات إستراتيجية في المجالات كافة، وعلى جميع الأصعدة.
ولكن بسبب حالة عدم اليقين والضبابية التي تحيط حاليًا بمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة، والتهديدات المتزايدة التي تحيط بالمملكة، أصبحت تهتم الرياض بتنويع وتعديد حقائبها الأمنية؛ حتى لا ينتهي بها الأمر في وضع الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، فتعمل المملكة على تطوير علاقتها إقليميًّا ودوليًّا.
– الأمن الجماعي لدول الخليج العربي
لا يكتمل الحديث عن مضمون الأمن الإستراتيجي السعودي إلا بالحديث عن إدراك صناع القرار في المملكة حول ضرورة وجود نوع من التوازن بين دول الخليج العربي كوحدة إقليمية ورؤية واضحة لمواجهة التهديدات، على افتراض أن الوصول إلى هذا الهدف سوف يحقق الاستقرار في المنطقة.
فتسعى المملكة بالتأكيد على مفهوم الأمن الجماعي كأداة للاستقرار في الإقليم، الذي لا يجد طريقةً إلى التجسيد مالم تتمتع كل وحدة على حدة بمستوى مقبول من الاستقرار الداخلي، إذن يتطلب ذلك الهدف، بأن تقوم كل دولة من دول الإقليم بأن تستعين بالأخرى؛ لمساندتها من أجل مواجهة التهديدات.
وتعد إستراتيجية الأمن الجماعة منبثقة من التهديدات المشتركة، ألا وهي: النزعة الإيرانية الشيعية المتنامية والآخذة في الانتشار، والتهديدات العابرة للحدود، وسباق التسلح في المنطقة.
ومن متطلبات الأمن الجماعي لدول الخليج العربي عدة ركائز:
أولًا: ضرورة توفر مستوى عالٍ من التعاون والتنسيق الأمني بين قواتها المسلحة، والتبادل المعلوماتي بين الأطراف، بشكل يصبح له ثقل إستراتيجي يساعد في بناء قدرات دفاعية مشتركة؛ فيربط بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية اتفاق دفاع مشترك، يجعل من أي عدوان على إحدى دوله عدوانًا على البقية، يستدعي حشدًا عسكريًّا، وهو ما جعل دولًا مثل؛ إيران المجاورة ترى من المجلس أول ما نشأ قوة تنظر إليها بعين الريبة، بوصفه يؤمن جانبًا من توازن القوة معها.
شاركت قوات المجلس بعضها أو كلها في نزاعات هددت حدود دولها، مثل؛ حرب تحرير الكويت 1990، والأزمة البحرينية 2011، وإن اتسمت مشاركة بعض الدول أحيانًا بالرمزية، لكن القادة في التكتل الخليجي يطمحون إلى رفع سقف التعاون والتنسيق العسكري بين دول المجموعة إلى آفاق أبعد، خصوصًا بعد التهديدات المتزايدة لأمن الإقليم الحيوي واستقراره.
أصبحت تحمل القوة العسكرية الخليجية المعلنة رسالة واضحة، بأن هناك تكتُّلًا قويًّا في الخليج قد يتوسع مستقبلًا، ويقوم بدور حيوي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، بشكل عام، خصوصًا في ظل الحديث عن الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وهكذا نجد أن هناك نواةً مهمةً على المستوى الإقليمي، واتجاهًا نحو بناء تحالفات جديدة في المنطقة.
فاستهلت دول الخليج عام 2022، بإجراء التمرين التعبوي المشترك “أمن الخليج العربي 3” بالسعودية، في رسالة تؤكد تعزيز التعاون الأمني بين الدول الأعضاء، والتكامل بين الأجهزة الأمنية لترسيخ دعائم الأمن، وردعًا لكل من يحاول المساس بأمن واستقرار دول المجلس لإكمال مسيرته
ثانيًا: توحيد الموقف تجاه اليمن في المنظومة الإقليمية؛ فاليمن أصبح له عمق إستراتيجي وضروري في احتواء التهديدات الإرهابية، على اعتبار أن استقرار اليمن هو مصلحة حيوية للمنطقة.
وانتقالًا من الخليج إلى شمال شرق أفريقيا، تعد مصر والمملكة شريكين إستراتيجيين في الشرق الأوسط، مدعومين بالمصالح المشتركة وتصورات معينة للتهديدات؛ حيث تقدر المملكة القوة العسكرية الكبيرة لمصر، والتي تساعد على حماية جزء من المياه الإستراتيجية ذات الاهتمام المشترك في منطقة البحر الأحمر.
– التشبيك الاقتصادي والعسكري مع القوى الدولية
أصبحت تتوجه الرؤية السعودية نحو تنويع العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، وعدم الاعتماد على علاقتها مع الولايات المتحدة فقط؛ نظرًا إلى المتغيرات العالمية التي لم تعد فيها واشنطن اللاعب الأوحد والأقوى في الساحة الدولية، فبدا لافتًا اهتمام المملكة بتعزيز علاقتها مع الصين مؤخرًا.
وتطمح المملكة إلى أن يكون لها دور فاعل ورئيسي في إحياء طريق الحرير الصيني؛ فعلى المستوى الاقتصادي، تعتبر المملكة الشريك الأول للصين في المنطقة، بحجم تبادل تجاري بينهما يصل إلى 70 مليار دولار، ومن المتوقّع أن يصل إلى 100 مليار دولار.
وانطلاقًا من أهمية منطقة البحر الأحمر كأحد أهم الممرات الإستراتيجية للمشروع الصيني، قامت المملكة بتدشين 3 مشاريع اقتصادية ضخمة، وعلى رأسها مدينة نيوم ومدينة البحر الأحمر، ناهيك بإنشاء مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، والذي يضم كلًا من (المملكة ومصر والأردن واليمن والصومال وأرتيريا وجيبوتي)، التي أُنشِئَت على أراضيها قاعدة عسكرية سعودية، في خطوة يمكن قراءتها في إطار محاولة المملكة محاكاة الطموح الصيني في تلك المنطقة؛ لتأمين ممرات التجارية الدولية وحماية البضائع الصينية.
التشبيك الاقتصادي والجيوسياسي يجعل المملكة في مواجهة تحدّي التوازنات، فبينما يرى الغرب أنّ مبادرة “الحزام والطريق” هي مشروع لإسقاط الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط بالقوّة الناعمة، تسعى الرياض للتحوّل إلى بوابة ضمن 56 دولة يمرّ عبرها طريق الحرير.
وعسكريًّا، كشف تقرير تابع للـ CNN الصادر في ديسمبر 2021، أن الصين تساعد المملكة في تطوير نظام صاروخ باليستي محلي، فتتطلع كل من السعودية والإمارات أيضًا إلى بناء قدراتهما في هذا القطاع الذي تبلغ تكلفته عدة مليارات من الدولارات؛ لخلْق فرص عمل، وتقليل اعتمادهما على واردات الأسلحة الأجنبية كأجزاء رئيسية من برامج التنويع الاقتصادي في رؤية 2030.
ويشير تقرير أصدرته الصحيفة الأمريكية “فورين بوليسي” في الأول من فبراير 2022، إلى المساعدة العسكرية الصينية الأخيرة، التي حصلت عليها المملكة، وشملت في مجملها تطوير برنامج صواريخها البالستية؛ ما يعكس وفقًا لتقديرات “فورين بوليسي” نقطة تحول جوهرية، ليس فقط بمنظور دعم الصين عسكريًّا للسعودية، وإنما بمنظور سباق التسلُّح بين دول الشرق الأوسط.
وبجانب الصين، أبرمت المملكة أيضًا في شهر أغسطس الماضي، مع روسيا اتفاقيةً تهدف لتطوير التعاون العسكري بين البلدين، وقعها عن الجانب السعودي، الأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع، وعن الجانب الروسي، نظيره، ألكسندر فومينو.
تدرك إيران فعليًّا حجم التطور الهائل، الذي طرأ على أداء وكفاءة المؤسسة العسكرية السعودية؛ كما تفطن أيضًا إلى انعكاساته الخطيرة على أداءات منظوماتها الدفاعية؛ ما يرجِّح حتمية سعي حكومة طهران خلال الفترة المقبلة للرد على تطور القوات المسلحة السعودية، بمحاولة تعزيز كفاءة نظيرتها الإيرانية.
– ترسيخ القدرة الإستراتيجية المستقلة
إن فهم السعودية للثغرات العسكرية الكبيرة وعمق التهديدات التي يجب أن تتعامل معها، إلى جانب الدعم الأمريكي الضعيف والوقت القصير للانفجار النووي الإيراني، يمكن أن يسرع من تفكير القيادة السعودية في تطوير القدرات النووية العسكرية المستقلة كوسيلة ردع جديدة في الترسانة ضد النشاط الإيراني.
ويعد اهتمام المملكة بالمجال النووي ليس جديدًا، ولا القلق من أنه في ظل ظروف وشروط معينة، يمكن للرياض اتباع مسار نووي عسكري؛ حيث أشار كبار القادة في المملكة إلى هذه القضية في أكثر من مناسبة ففي عام 2018، أعلن ولي العهد محمد بن سلمان، أن المملكة ستمتلك القدرة النووية إذا فعلت إيران ذلك، بينما أعلن شقيقه، الأمير عبد العزيز بن سلمان، الذي يشغل منصب وزير الطاقة، عام 2019، أن السعودية تسعى للسيطرة على جميع مكونات دورة الوقود النووي.
الخاتمة
يبدو أنه مع بداية الاضطرابات الإقليمية والدولية، التي ميزت عام 2021، والتي يمتد صداها إلى الآن، متمثلةً في الحدث الأبرز على الساحة الدولية حاليًا؛ أي “الغزو الروسي لأوكرانيا وتبعاته”، تسعى المملكة الآن إلى إدارة النزاعات وتخفيف التوترات، قدْر الإمكان، إلى جانب استمرار الحشد العسكري والجهود المبذولة؛ للحفاظ على توازن العلاقات مع القوى الدولية.
وكان التغيير في نهْج البيت الأبيض تجاه حلفائها في المنطقة، وتجاه خصمها (إيران)، قد سرّع من تعديلات الرياض لسياستها الخارجية -على الأقل-خارجيًّا؛ فتضمنت التعديلات في السياسة السعودية؛ استعدادًا للتوصل إلى اتفاق مصالحة مع قطر (يناير 2021)، بينما قامت بإعلان عرض سخي للحوثيين لتوقيع اتفاق وقف إطلاق نار (مارس 2021)، بالرغم من عدم تنفيذه في النهاية، ومؤخرًا، إجراء جولات حوار مع إيران، والذي لم يسفر عن نهاية واضحة؛ بسبب تعقد الملفات الإقليمية بين البلدين.
وتمثل التهديدات العابرة للحدود، كما سبق ذكره، من أكبر التهديدات والتحديات التي تواجهها المملكة في الفترة الأخيرة، إلا أن المملكة أصبحت تستثمر جهدًا كبيرًا وأموالًا في تطوير أدوات ومبادئ؛ للتعامل مع التهديد المتزايد في البعد السيبراني؛ حيث تدرك المملكة الفرص الكامنة في هذا البعد، وتعمل على تطوير إستراتيجية إلكترونية؛ حيث حققت السعودية خلال العامين الماضيين طفرات كبيرة في مجال الأمن السيبراني، فقامت بإنشاء مركز وطني للأمن السيبراني، وكذلك تبني مجموعة من السياسات كبيرة جدًا، مثل: تصنيف البيانات، الحوسبة السحابية، وحماية البيانات، بالإضافة إلى القوانين التي يتم تطبيقه، كما تمتلك السعودية مجموعة برامج ومبادرات؛ للتدريب على موضوعات مختلفة في الأمن السيبراني بأعداد كبيرة جدًا من الموظفين والعاملين في هذا المجال.
في نهاية القول: إن الجغرافيا السياسية المحيطة بالمملكة العربية السعودية معقدة بالفعل، ومن المتوقع أن يزيد التنافس بين الولايات المتحدة والصين وبين الولايات المتحدة والدول الأوربية في جانب، وروسيا في جانب آخر، من ذلك التعقيد، فمن المرجح أن تتم مراقبة علاقة المملكة مع تلك الدول المنافسة (روسيا -الصين) عن كثب، ليس فقط من قِبَلِ الولايات المتحدة، ولكن أيضًا دول مثل؛ إيران التي لديها علاقات قوية خاصة مع الصين، ولكن الأمر الأكيد بأن المملكة ستسعى في المحافظة على التوزان في علاقتها الخارجية مع تلك القوى الدولية.
أما بالنسبة لإيران، يوجد أهمية كبيرة في الحفاظ على الوسائل الدبلوماسية والعسكرية الإقليمية ضد إيران، فالمحافظة على علاقات آمنة ومستقرة مع إيران يدعم الأمن الإقليمي، بالرغم من الصعوبات التي تواجهها العلاقات الإيرانية الخليجية.