هل يتمكن جنوب السودان من التمسك بالسلام الهشِّ؟

حسين عمرو المبيض

منذ استقلالها، في عام 2011، عانت جنوب السودان من عدم استقرارٍ مزمنٍ، وقضت ما يقرُب من نصف حياتها، كدولةٍ حديثةٍ في حالة حربٍ؛ حيث انغمست البلاد، في عام 2013، في حربٍ أهليةٍ، استمرت خمس سنوات، بين القوات الموالية للرئيس (سلفا كير)، وزعيم المعارضة (ريك مشار)، وفي عام 2018، وبمشاركة المساعي الإقليمية والدولية، تمكنت القوات المتضاربة، بتوقيع اتفاق السلام، الذي أنهى الصراع، وترتب عليه، تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، والتي من شأنها، الإشراف على المرحلة الانتقالية، وتمهيد الطريق لإقامة انتخاباتٍ رئاسيةٍ، في فبراير 2023.

لكن منذ ذلك الحين، تنقلت جنوب السودان من أزمة إلى أُخرى، وسط معاناة الشعب، وتفاقم الوضع المعيشي، والنزوح الداخلي، والمجاعات، فضلًا عن أعمال العنف بين المجتمعات (العرقية، والقبلية)، والمشاحنات السياسية بين طرفيْ الصراع، في نزاعٍ على السلطة؛ ما أدى إلى فشل وعود اتفاق السلام، وترتب على ذلك، انتقادات مستمرة من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لقادة جنوب السودان؛ لدورهم في تأجيج العنف، وقمع الحريات السياسية، ونهب الخزائن العامة.

متى يدوم السلام والاستقرار السياسي؟

بعد سنواتٍ من الصراع المتصاعد بين الجانبين، اتفق رئيس جنوب السودان (سلفا كير)، ونائبه (ريك مشار)، على العودة إلى اتفاقيات السلام، واستئناف المحادثات، ومن ذلك المنطلق، في 2 أبريل، توصل الجانبان إلى اتفاقٍ، بشأن دمْج القوات المتنافسة، في قيادةٍ موحدةٍ، والعمل على توحيد هياكل القيادة الأمنية، بعد وساطةٍ من دولة السودان.

وتلك الصفقة، تُعدُّ علامةً فارقةً في عملية السلام؛ حيث تسمح بدمْج قوات وقيادات المعارضة المسلحة من “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، وتحالفات المعارضة، في قوة “الدفاع الشعبية لجنوب السودان”، تحت هيكلٍ قياديٍ واحدٍ، يرأسه (الرئيس سلفا كير)، كقائدٍ عامٍ، وينوبه) رياك مشار (، وبحسب الاتفاق، سيتم ذلك الدمْج، وتخريج ونشر قوات موحدة، خلال مدةٍ، لا تتجاوز شهرين بعد الاتفاق.

و لكن بعد أقل من أسبوع من إبرام الاتفاق، اندلعت الاشتباكات في ولاية الوحدة، شمال البلاد، بين قوات الزعيمين، في تحركٍ، وضع الكثير من علامات الاستفهام، حول جدوى المفاوضات، وعلى الرغم من تصاعُد التوتُّر بين الجانبين، بشكلٍ مقلقٍ، إلَّا أن الرئاسة، أعلنت في بيان، أن (سلفا كير، ومشار) عقدا لقاءً جديدًا مُقْتَضَبًا؛ حيث اتفقا على المُضيّ قُدُمًا، في تشكيل قيادةٍ مُوحدةٍ للقوات المسلحة، وإدانة الاشتباكات الأخيرة، التي دارت في محيط ولاية الوحدة، وفي منطقة شمال النيل، وأضاف البيان، أن الرئيس (سلفا كير)، أشار إلى أن المواجهات يجب أن تتوقف، وتعيد الالتزام باتفاق السلام، وبوقف إطلاق النار، وأن السكان في المناطق المتأثرة، يجب أن تعيش بسلامٍ، وأن تتعايش بتناغُم.

وفي نفس التوقيت، أُقيم منتدى مشترك بين  بعثة الأمم المتحدة، في جنوب السودان (يونميس)، والحكومة المحلية، في ولاية ملكال، في منطقة شمال النيل، يسعى إلى وضْع خطة عملٍ؛ للتعايش السلمي في مقاطعات المنطقة، التي شهدت تصعيدًا مُؤخرًا، وسعى الاجتماع إلى تعزيز حوارٍ شاملٍ، بين قادة هذه المجتمعات المتصارعة، وتناولت الجلسات التفاعلية مجموعةً من الموضوعات، مثل (اتفاقية السلام، ومنظور الحكومة بشأن التنسيق بين المقاطعات، وآليات الإنذار المبكر، ودور السلطات التقليدية، في منع النزاعات والمصالحة، والمساهمات الحيوية للمرأة والشباب)؛ بهدف تعزيز السلام، والوصول إلى حلٍّ نهائيٍ؛ يهدف بتحويل العداء إلى التزام مشترك، بمستقبلٍ مزدهرٍ وسلميٍ.

إجراءات الانتخابات

تبقى خطوة التمهيد العملي للانتخابات الرئاسية، بعيدة المدى، في ظلِّ تعثُّر تنفيذ الإصلاحات الخاصة، باتفاقية السلام؛ ما يلوح بإمكانية تعطيل أو تأجيل الانتخابات، فعلى الرغم من الإعلان الرسمي لوقف إطلاق النار بين الجهات المتحاربة، منذ توقيع اتفاقية السلام، في 2018، إلَّا أن الصراع المحلي لا يزال عند مستوى مقلق، وهو الأمر الذي من شأنه، جعْل الدوائر الانتخابية غير آمنة للمشاركة في الانتخابات، وفي هذا الصدد، يُعدُّ وقف هذا العنف أمرًا أساسيًّا؛ لإجراء انتخاباتٍ ذاتِ مصداقيةٍ.

حتى الآن، سيتطلب نهْج الانتخابات في جنوب السودان، نتائج التعداد السكاني؛ لتحديد الدوائر الانتخابية، في جميع أنحاء البلاد، والمساعدة في تشكيل التمثيل السياسي، على الصعيديْن (المحلي، والوطني)، وقد تمَّ إجراء آخر تعداد سكاني، في جنوب السودان، في عام 2008، فمن الواضح، ألَّا يمكن الاعتماد على النتائج القديمة، ولاسيما أن النزاع المستمر، قد أسفر عنه، النزوح الداخلي لأعدادٍ كبيرةٍ،

كما أن البرلمان الانتقالي لم ينظر بعْدُ في مشاريع إصلاح قانون الأحزاب السياسية، وإنشاء عملية صياغة الدستور، المطلوب عملها، قبل إجراء الانتخابات، فبعد وصول وفْد الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، ومنظمة “إيجاد”؛ لبحث الأوضاع في جنوب السودان، وإمكانية إجراء الانتخابات، لم يحصل الوفد على المواعيد النهائية؛ لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة؛ ما ترتب عليه، إعلان جهات في الأمم المتحدة، أن جنوب السودان “ليس جاهزًا لانتخابات حرة ونزيهة؛ نظرًا للفشل في تنفيذ اتفاقية السلام”، فإن الأجزاء الحاسمة من الاتفاقية، مثل (توحيد الجيش، وإعادة كتابة الدستور والقوانين الانتخابية، وإقرار العدالة الانتقالية)، لم يتم تنفيذها بعْدُ، في حين أن موعد الانتخابات المحدد في أقل من سنة.

المعضلة السياسية تُلْقِي بظلالها على الأزمة الإنسانية

 في بيان، أكدت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، في جنوب السودان، (سارة بيسولونيانتي)، بأن البلاد تواجه أسوأ أزمة إنسانية منذ الاستقلال، وأضافت، أن الدولة في حاجة  إلى 1.7 مليار دولار هذا العام، للاحتياجات الإنسانية، كما تحتاج أيضًا إلى تمويلٍ للتنمية، وبناء السلام، وضمان التماسك الاجتماعي، والقدرة على الصمود، ففي هذه الأثناء؛ حيث التعثُّر السياسي، وعدم الالتزام بوقف إطلاق النار، و اندلاع العنف المحلي، ساء الوضع الإنساني في جنوب السودان، وتفاقم الوضع؛ بسبب جائحة “كورونا”، و”الأزمة الأوكرانية”، فضلًا عن الفيضانات القياسية، وفترات الجفاف، التي مرت بها البلاد.

فوفقًا لمصادر الأمم المتحدة، فإن أكثر من 7.7 مليون مواطن، أيْ نحو 63% من سكان جنوب السودان، سيواجهون أزمةً غذائيةً، بحلول شهر يوليو القادم، ومن جانبها، قالت مديرة برنامج الأغذية العالمي، (أدينكا باجو): “حتى يتمَّ حلّ النزاع، سنستمر في رؤية هذه الأعداد؛ لأنها تعني، أن ليس لدى المواطنين وصولٌ آمنٌ إلى أراضيهم لزراعتها”، كما دعت أيضًا جميع قادة البلاد إلى المُضيّ نحو السلام.

السيناريوهات المحتملة

1- من المرجح (الأكثر احتمالية)، أن تؤدي الانتخابات إلى عودة (سلفا كير)، أو (مشار)، أو كليهما إلى السلطة، وهو الأمر الذي من شأنه، استكمال حاله التنافس السياسي، وتفاقُم الوضع؛ نظرًا إلى سجلاتهم، وطريقة الإدارة الحالية، فإن كثيرًا من مواطني جنوب السودان يائسون للتغيير، وهو شعور مشترك على نطاق واسع، في المجتمع الدولي، ولكن من المرجح، أن يظل كلاهما في السلطة، بشكل أو بآخر، مع بقاءِ مؤيديهما متحدين ضد بعضهم البعض، وذلك من شأنه، تقييد أو منْع ظهور الشخصيات البديلة على الساحة السياسية.

 2- خلْق طرق؛ للحد من الآثار الضارة للسياسات الإقصائية، من خلال بناء نظامٍ، يمكن فيه تقاسُم السلطة، بشكل أكثر إنصافًا، في ضوْء هشاشته الشديدة، يمكن لجنوب السودان أن يتبنَّى سياسة تناوب، مثل نموذج الرئاسة الدورية، وبينما قد لا يحل كل مشاكل جنوب السودان، لكن من شأنه، أن يشجع التحالفات متعددة الأعراق، أو يعني أن الخاسرين في الانتخابات، يشعرون أن لديهم فرصةَ في الرئاسة، في المرة القادمة، يمكن أيضًا تمكين المرشحين للانتخابات، في شَغْل مناصب بارزة، في الحكومة الوطنية، ومن شأن هذا الترتيب، أن يخفف من طبيعة الانتخابات، التي يكتسب الفائز فيها كل شيء، وبالتالي، يقلل من مخاطر الصراع، في الفترة التي تسبق التصويت، ويقلل من مخاطر المفاوضة بعد الانتخابات، من خلال ضمان مواقع النفوذ للقوى الخاسرة، دون الحاجة إلى حمل السلاح، أو التهديد بالقيام بذلك.

3- يمكن أن تشمل الإجراءات الأخرى، إنشاء لجان قوية مشتركة، بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة؛ للإشراف على الوظائف الحكومية، ذات الأهمية الإستراتيجية، مثل (الشؤون المالية، والعسكرية)؛ حيث إن مناصب اللجان لن تمنح السياسيين المعارضين تأثيرًا، ما لم يتبع نظراؤهم في الحزب الحاكم المثل، واتبعوا القواعد، فإن مثل هذه الضمانات، ستوفر بعض الحماية، وتقطع شوطًا ما؛ لتقليل مخاطر الانتخابات، التي ينشر فيها الخاسرون العنف، أو التهديد به؛ للتفاوض على طريقهم إلى السلطة بعد ذلك.

4- العودة إلى الفيدرالية، في محاولةٍ لتقليل حصص صراعات السلطة المركزية، في جنوب السودان، ودفْع المزيد من السلطة والموارد من جوبا إلى الإدارات (الإقليمية، والولائية، والمحلية)، فإن الفيدرالية هي مبدأ أساسي في اتفاق السلام، لعام 2018، على الأقل، على الورق؛ حيث ينص دستور جنوب السودان، على (لامركزية الحكم)، بالرغم من حدوث القليل من الناحية العملية؛ لذلك من المرجح، أن ينعم جنوب السودان بالاستقرار السياسي، الذي يتضمن المزيد من تقاسُم السلطة، والمزيد من (اللامركزية).

5- يمكن لقادة جنوب السودان، عقْد مؤتمر وطني، يستقطب مندوبين من مختلف الأطياف السياسية، وكذلك من القيادة المجتمعية والمدنية، بما في ذلك (النساء، والشيوخ، والشباب)، في كل جزءٍ من البلاد؛ حيث يمكن لمندوبي المؤتمر، رسم مسار أوضح؛ للخروج من نزاعات جنوب السودان، والاتفاق على خطوات فورية إلى الأمام، وحوار أوسع، يؤدي إلى مزيد من تقاسُم السلطة في المركز، وعلى المستوى المحلي، وكذلك (اللامركزية).

في نهاية القول: لقد احتُجز شعب جنوب السودان كرهائن، دون التمتُّع بفوائد السلام لفترة طويلة؛ لذلك يجب على أطراف الاتفاقية، والهيئة الحكومية، والمجتمع المدني، والاتحاد الإفريقي، والمجتمع الدولي، اتخاذ خطوات جادة؛ لضمان التنفيذ الفعَّال لاتفاق السلام، ومنْع مخاطر تجدد القتال بين الأطراف، والمقاومة المسلحة، ومن المهم لحكومة الوحدة والبرلمان الوطني، الإسراع بالموافقة على مشاريع القوانين الدائمة، وتعديل قوانين الأمن، والانتخابات، وأعمال الأحزاب السياسية، وإعادة تشكيل اللجان المتخصصة، بما في ذلك مفوضية الخدمة القضائية، بما يتماشى مع الاتفاقية التي تمَّ تنشيطها، بشأن حلِّ النزاع في جمهورية جنوب السودان؛ لتمهيد الطريق؛ لإجراء انتخابات (حرة، ونزيهة، وذات مصداقية).

كلمات مفتاحية