رابعة نورالدين وزير
في خِضِّمِ ارتفاع أسعار الطاقة، وحاجة دول الاتحاد الأوروبي إلى الغاز، وفي ظلِّ التخبُّط على الجانب اللبناني، وغياب القرار الرسمي الموحَّد في شأن الخط الذي يحدد الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبعد المماطلة في تعديل المرسوم الذي يحفظ حق لبنان في مساحة، تتضمن «حقل كاريش»، وفقًا للخط رقم 29، وإرساله إلى الأمم المتحدة مع الوثائق التي وضعها «الجيش اللبناني»، بدأت إسرائيل المسار المتبع لاستخراج الغاز من حقل «كاريش».
ما أعاد الجدل حول ملكية هذا الحقل، وأين تبدأ الحدود المائية الإقليمية بين إسرائيل ولبنان، وأين تنتهي، ومن هي الجهة التي يحقُّ لها أن تحفر، وأن تستخرج الغاز الذي تم اكتشافه في هذا الحقل؟ أخذًا بالاعتبار الأجواء االمشتدة فيما يخص العلاقات بين الطرفيْن، واحتمالات التصعيد بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية، التي يمثلها «حزب الله»، والتهديدات الإسرائيلية الدائمة، بأنها سوف تستهدف البُنى التحتية للبنان في أي مواجهة مقبلة، ما سبق هو ما سنحاول الإجابة عنه خلال السطور التالية.
خلفية التصعيد
وصلت، الأحد 5 يونيو 2022، سفينة إنتاج الغاز الطبيعي المُسال «إنيرجيان باور» إلى المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، وقطعت الخط «29»، وأصبحت على بُعْد 25 كيلو مترًا من الخط الفاصل رقم «23»، وبدأ العمل على تثبيت موقع السفينة في «كاريش»، وأعلن عن العمل على إرساء سفينتيْن، الأولى خاصة بإطفاء الحرائق، والثانية خاصة بنقل الطواقم والعاملين، ويأتي دخول الباخرة اليونانية إلى المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، وهي التي بُنيت خِصِّيصًا لحقل «كاريش»، بعد توقف المفاوضات «اللبنانية – الإسرائيلية» حول ترسيم الحدود البحرية، إثر رفض الجانب الإسرائيلي الأخذ بالخط «29» كنقطة انطلاق للمفاوضات، والإصرار على اعتماد الخط «23»، ودخلت المفاوضات في جمودٍ، كان سببه توقُّف تحركات الوسيط الأمريكي، أموس هوكشتاين، بعد زيارةٍ أجراها إلى لبنان، قدَّم خلالها إلى المسؤولين اللبنانيين اقتراحًا خطيًّا، تضمَّن منْح لبنان الخط «23»، مع قضْم جزءٍ من حقل «قانا»، قبل أن ينحني أمامه بشكلٍ مائلٍ باتجاه خط «هوف»، ويقضم قِسْمًا من بلوك التنقيب رقم «8».
وبقي الرد اللبناني غامضًا حول الموقف من اقتراح الوسيط الأمريكي، واكتفى رئيس الجمهورية بالإعلان عن حرص لبنان، العودة إلى المفاوضات، وعدم التخلِّي عن حقوقه، من دون أي ذكر للخط «29».
لمحة عن أصل النزاع بين الدولتيْن
يعود أصل النزاع بين لبنان وإسرائيل، حول حقل «كاريش» إلى نزاع أعم، يشمل منطقة بحرية، تقدر مساحتها بنحو 860 كيلومترًا مربعًا؛ إثر خلاف بين البلديْن حول ترسيم الحدود البحرية، والخطوط المعتمدة بوصفها أساسًا لترسيم الحدود، ويمكن إجمال أسباب الخلاف الحالي في العوامل التالية:
1- اختلاف خطوط الترسيم: اعتمدت إسرائيل الخط «23» بوصفه أساسًا للتفاوض مع لبنان، حول المنطقة المتنازع عليها، وهو ما يحصر هذه المنطقة في مساحة 860 كيلومترًا، وهو الخط الذي اعتمده لبنان في الاتفاق الأوَّلي على ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، وصدر به مرسوم الحكومة اللبنانية رقم 6433، عام 2011؛ الأمر الذي استغلته إسرائيل، ودفعت بمقتضاه سفن التنقيب إلى بعض المناطق المتنازع عليها طيلة السنوات الماضية، وصولًا إلى الواقعة الأخيرة، في حقل «كاريش»، الذي يقع خارج هذا الخط، غير أن لبنان سرعان ما تراجعت عن المطالبة بهذا الخط.
ففي 2012، رفض لبنان مقترح الوسيط الأمريكي، فريدريك هوف، بتقسيم المنطقة بالتساوي بين لبنان وإسرائيل، وفي مايو 2020، عادت المفاوضات بوساطة المبعوث الأمريكي، أموس هوكشتاين، وتوقفت بعد أربع جولات، في فبراير 2022؛ إثر دفع المفاوضين اللبنانيين بالخط «29»، بدلًا من الخط «23»؛ ليكون أساسًا للتفاوض؛ ما يعني زيادة المساحة التي يطالب لبنان إلى 2290 كيلومترًا مربعًا، بدلًا من 2290 كيلو مترًا مربعًا.
2- التباينات الداخلية اللبنانية: كان الخلاف بين القوى اللبنانية ذاتها، أحد المسببات الرئيسة للخلاف الراهن بين لبنان وإسرائيل؛ إذ لم تنجح جولات وزيارات الوسيط الأمريكي في إقناع القوى اللبنانية، أو على أقل تقدير الرئاسات الثلاث «الجمهورية – الحكومة – البرلمان» في تبنِّي موقفٍ مُوحَّد من المقترحات الأمريكية.
وزاد الأمر تعقيدًا رغبة المفاوضين اللبنانيين في تغيير الأساس التفاوضي مع إسرائيل؛ لينتقل من الخط «23» كأساسٍ للترسيم إلى الخط «29»؛ ما أسهم في جمود المفاوضات، وأدَّت الخلافات الداخلية اللبنانية إلى عدم صدور مطلب مُوحَّد بالخط «29»؛ إذ أصدرت حكومة تصريف الأعمال، برئاسة حسان دياب، في أبريل 2021، مرسومًا لتعديل المرسوم رقم 6433، وينص على أن الخط الأوَّلي للحدود البحرية اللبنانية هو الخط «29»، وليس الخط «23»، بما يسمح للبنان بالاستفادة من حقل «قانا» الغني بالنفط، فضلاً عن جزءٍ من حقل «كاريش»، إلا أن هذا المرسوم لم يَجْرِ توقيعه من قِبَلِ الرئيس اللبناني، ميشال عون.
3- تنفيذ العقود الإسرائيلية: يمثل حصول شركة «إنرجين» اليونانية من إسرائيل، على حقوق تطوير حقول في مياه المتوسط، ومنها حقل «كاريش»، في عام 2018، ثم التعاقُد بين الشركة اليونانية وشركة «هاليبرتون» الأمريكية، في 2021، على الاشتراك في التنقيب عن الغاز في هذه الحقول؛ أحد الأسباب الرئيسة الدافعة وراء تجدُّد النزاع، والوصول إلى المشهد الراهن.
وحسب هذه الاتفاقات، كان مخططًا أن تصل منصة استخراج النفط من «سنغافورة» إلى حقل «كاريش»، في نهاية عام 2020، على أن يبدأ استغلال الحقل في مطلع العام الجاري 2022، وكانت إسرائيل تُعوِّل على إنهاء المفاوضات مع لبنان قُبيْل هذه المواعيد؛ لتتمكن من استغلال هذه الحقول، من دون عوائق قانونية، غير أن عدم الانتهاء من المفاوضات مع لبنان، بل ومطالبة رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، بأن يكون التفاوض غير محدد المدة؛ جعل إسرائيل تتجه إلى فرْض الأمر الواقع.
التصعيدات التي أثارتها التحركات الإسرائيلية الأخيرة
1- تهديد «حزب الله» اللبناني: يمثل تهديد الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بأن المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي، تهديدًا صريحًا باستهداف المنصة «إنرجين باور»، وعرقلة مساعي إسرائيل استخراج الغاز الطبيعي من الحقل، ويمكن قراءة هذا التهديد في ضوْء نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، التي جرت في 15 مايو الماضي 2022، وأسفرت عن تراجعٍ نسبيٍ لـ«حزب الله» وحلفائه، داخل مجلس النواب، ومن ثمَّ كان من الضروري، أن يلوِّح الحزب بسلاحه في وجه إسرائيل؛ ليعيد ترسيخ صورةٍ ذهنيةٍ لدى اللبنانيين، بأن سلاح الحزب ما هو إلا سلاح مقاومة في مواجهة إسرائيل، ولا يستهدف سوى حماية لبنان وسيادته، وبصورة ترد على أي حديث عن سلاح «حزب الله»، ومن ثم حفاظ الحزب على سلاحه؛ لتوظيفه داخليًّا ضد خصومه السياسيين، أو خارجيًّا ضد إسرائيل، على حد سواء.
2- رد إسرائيلي مقابل: استقبلت «تل أبيب» تهديدات حسن نصر الله، بتهديدات مماثلة، والتي صدرت عن رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، والذي أعلن خلالها، أن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع ست جبهات قتال، وفي مواجهة عددٍ كبيرٍ من التهديدات المتنوعة، فضلًا عن تأكيده وضع الجيش الإسرائيلي قائمةً بآلاف الأهداف التي سيتم تدميرها في لبنان، ضمن خطة هجوم، تستهدف «مقرات القيادة، والقذائف الصاروخية، والراجمات»، كما تبنَّت إسرائيل إجراءات دفاعية، فقد أكدت هيئة البثِّ الإسرائيلية، وصول مركبات بحرية، بما فيها غواصات ستساعد في تأمين المنصة العائمة، وكذلك نسخة بحرية من منظومة «القبة الحديدية»؛ للدفاع الصاروخي.
هل يستطيع المبعوث الأمريكي تغيير معادلة الصراع بين الطرفيْن؟
وفقًا لما سبق طرحه، يتضح لنا، أن كلا الطرفيْن متمسك بوجهة نظره في القضية بشكلٍ كبيرٍ؛ ما يضعنا أمام خياريْن، في حال استؤنفت المفاوضات؛ حيث إن مباحثات المبعوث الأمريكي للبنان؛ من أجل التوصل لأساس يمكن البناء عليه، في موضوع الحدود البحرية، فيمكننا القول: إن الوفد اللبناني متمسك بالخط «29» حدودًا للبنان، طالما أن الجانب الآخر «إسرائيل» متمسك بوجهة نظره أيضًا، ويعتبر المنطقة المتنازع عليها، تابعة له، ويمنع العمل أو التنقيب فيها، فإن هذا يناقض كل التوقعات عن قُرْب التوصل إلى حل.
حيث إن الوضع الذي يعيشه لبنان في الوقت الحالي؛ إذ يعاني منذ أكثر من سنتيْن أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، أدت إلى انهيار مالي، وفقدان الوقود والأدوية وسلع أساسية أُخرى، فضلًا عن انهيار النظام المصرفي؛ ما يجعل البلاد في أشد الاحتياج لمصدرٍ، يمكن من خلاله جبْر الخلل الحاصل، وبالتالي، فإن لبنان يأمل في استخراج ثروته النفطية، وجذْب استثمارات أجنبية.
وهناك العديد من النقاشات، حول إمكانية أن يكون للإمارات دوْرٌ في حلِّ الوضع بين الطرفيْن، عن طريق قيام إحدى الشركات التابعة لها، بالتنقيب في المنطقة المتنازع عليها، وتقسيم الإيرادات بين الطرفيْن، ولكن هذا الحل مستبعدٌ على المدى الطويل، في ظلِّ ظروف لبنان الحالية، إضافةً إلى أنه حلٌّ لا يمكن البناء عليه لفترة طويلة، خاصةً وأن الجانبيْن «إسرائيل- لبنان»، بينهما العديد من الخصومات، وبالتالي، فمن المتوقع، استمرار تفجُّر نفس الملف لفترات، في حال عدم التوصل لحلٍّ مُرْضٍ للطرفيْن، ولكن هذا لا ينفي إمكانية تحققه على المدى البسيط أو المتوسط على الأقل.