مروة سماحة
المقدمة
بات أمن الطاقة يُشكِّل أهم المّحدِّدات الإستراتيجية لمجمع الدول، ولاسيما الدول الصناعية المتقدمة منها، وتأسيسًا على ذلك، أصبح أمن الطاقة يُمثِّل جُزْءًا كبيرًا من سياسات الدول الخارجية، ويُشكِّل أيضًا سببًا لاشتعال عددٍ لا بأس به من الصراعات والنزاعات، خاصةً الدول التي جعلت أمن الطاقة وجهًا لأمنها القومي، مثل «الولايات المتحدة الأمريكية».
وفي ظل تحوُّل الطاقة، والانتقال من الطاقة الغير صديقة للمناخ، الغنية بالكربون، إلى الطاقة المتجددة الخضراء، أصبحت إمدادات الطاقة المتجددة تُشكِّل مصدرًا للتوترات لشتى الدول، بالأخص «الولايات المتحدة الأمريكية»، بعد أن أحكمت «الصين» قبضتها على سوق توريد سلاسل المعادن النادرة – المُكوِّن الأساسي في عملية تحوُّل الطاقة- وفي هذا التقرير، سيتم طرْح الهيمنة الصينية على المعادن الإستراتيجية، فضلًا عن جهود «الولايات المتحدة الأمريكية»؛ للحدِّ من تلك الهيمنة.
عملية تحوُّل الطاقة والمعادن النادرة
في ظل التوجه المتصاعد من الدول نحو الاستثمار في القطاع الصناعي؛ لتحقيق النمو الاقتصادي، والدفع بعجلة الاقتصاد، ونظرًا لاقتران عملية التصنيع بشكلٍ مُوسَّع بإمدادات الطاقة، فقد أدَّى ذلك إلى تغيُّرات مناخية شديدة؛ حيث إن 80% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، مصدرها من إنتاج الطاقة؛ لذا فقد اكتسبت قضية إمدادات الطاقة زَخَمًا دوليًّا واسعًا، وكُثِّفَت الجهود الدولية؛ لتحويل الطاقة، وتم إشعال شرارة ثورة طاقة نظيفة، خالية من «الكربون»، وذلك وفقًا لما طرحته الأمم المتحدة في خطتها للتنمية المستدامة، ومؤتمر المناخ الدولي، الدورة السادسة والعشرين.
وفي هذا الإطار، تلعب المعادن النادرة دوْرًا جوهريًّا، في عملية تحوُّل الطاقة؛ حيث تُشكِّل المعادن النادرة مُكوِّنًا أساسيًّا في العديد من تقنيات الطاقة النظيفة، سريعة النمو، في وقتنا الحالي، من «توربينات الرياح، وشبكات الكهرباء»، مرورًا بالسيارات الكهربائية، فضلًا عن ذلك، فهي تُسْتخدم في صناعة أشباه الموصلات – المُكوِّن الرئيسي في الصناعات التكنولوجية- لذا فهي تعتبر مورد طاقة رئيسيًّا مستقبليًّا مهمًا للأمن الاقتصادي والوطني، وتُهيمن «الصين» وحدَها على 90% من إنتاج هذه الصناعة، وتعتمد عليها «الولايات المتحدة الأمريكية» بشكلٍ كبيرٍ، وهذا ما يثير حفيظة «الولايات المتحدة الأمريكية»، ويُشكِّل تهديدًا لأمن الطاقة الخاص بها، ويجعلها تسعى للحد من هيمنة الصين على توريد سلاسل المعادن النادرة، وفي هذا التقرير، سيتم طرح الأجندة الأمريكية؛ للحدِّ من احتكار «الصين» لسوق المعادن النادرة، وما يعيقها من تحديات.
«الصين» تهيمن على صناعة المستقبل والتكنولوجيا العالمية
تلعب «الصين» دور اللاعب المُهيمن في عملية تكرير المعادن النادرة الإستراتيجية – المُكوّنة من 17 عنصرًا- ولديها بنية تحتية هائلة؛ لاستخراج المعادن وتكريرها؛ فتقوم بتكرير 86% من «النيكل» على مستوى العالم، 40% من «النحاس»، 59% من «الليثيوم»، و 73% من «الكوبالت»، بجانب العناصر الأخرى، كما أنها لا تتوقف عن ذلك الدور فقط؛ فهي تلعب دورًا إستراتيجيًّا في المراحل اللاحقة من عملية التوريد.
والجدير بالذكر، أن «الصين» تمتلك 78% من قدرة تصنيع الخلايا في العالم لبطاريات السيارات الكهربائية، فضلًا عن تصنيع «توربينات الرياح، الألواح الشمسية، تخزين الطاقة، نقل الكهرباء»، وتطبيقات أخرى، ووفقًا لهيئة المسح الجيولوجي بـ«أمريكا»، فإن «الصين» يُوجد بها حوالي 35% من احتياطات العناصر النادرة على مستوى العالم، وقامت بالاستثمار في «الكاميرون، وجنوب أفريقيا»، والتنقيب عن المعادن النادرة هناك؛ لذا يعتمد العالم على «الصين» بشكلٍ كبيرٍ، وذلك لتعزيز تحوُّل الطاقة، والحدّ من «الكربون»، فتُعدُّ تلك الهيمنة بمثابة سلاح تجاري صيني عملاق، في وجه أمريكا، ولكن من النوع النادر، الذي قد يُمكِّنُها من تعطيل أبرز الصناعات العالمية، والذي سيتمكن من إحكام القبضة على تلك المسألة، سيضمن المستقبل.
وهذا الشكل البياني ( “أ”) يوضح نِسَبٌ تقريبية لتمركُز المعادن النادرة في العالم:
الشكل (أ)
من خلال الرسم البياني (أ), يُمكِن استنباط أن عنصر «النحاس» يتمركز بشكلٍ واضحٍ في دولة «تشيلي»، وعنصر «النيكل» يبرُزُ وجوده بنسبة أكبر في دولة «بيرو»، وتحتل جمهورية «الكونغو الديموقراطية» الصدارة بالنسبة لتواجُد عنصر «الكوبالت» بها، وتُعدُّ الصين من أغنى الدول بـ«المعادن الترابية»، وتزخر «أستراليا» بالنسبة الأكبر في العالم بالنسبة لعنصر «الليثيوم».
وهذا الشكل البياني (ب), يسلط الضوء على نِسَبٍ تقريبية للدول الموردة للمعادن النادرة، في سوق توريد سلاسل المعادن النادرة، وفقًا للمكتب العام لإحصائيات المعادن لعام 2019:
من خلال الشكل (ب), يُمكن الاستنتاج، أن الصين تُهيمن على سوق توريد سلاسل الموارد النادرة بدرجةٍ كبيرةٍ، وتحتل صدارته، وذلك يرجع إلى شركات التعدين القوية، التي تتميز بمتانة بنيتها التحتية، وبالعمالة الضخمة الموجودة بها، والتي تُميِّزُها عن باقي الدول، فعلى الرغم من وفرة المعادن النادرة في كثيرٍ من البلاد، إلا أن نُدْرَتها تكْمُن في «تعدينها، وتكريرها، وعملية تحويلها»، وهذا هو السبب الكامن وراء إحكام «الصين» قبضتها على سوق توريد المعادن.
آليات «الولايات المتحدة الأمريكية» للحد من هيمنة «الصين» على سوق المعادن
بين «الولايات المتحدة الأمريكية، والصين» ملفات خلافية عِدَّة، وتستمر دائرة التوترات من الحين للآخر، ومن أكثر المعارك احتدامًا، هي المعادن النادرة، والهيمنة الصينية عليها، ولاسيما بعد أن وصل معدل واردات «الولايات المتحدة الأمريكية» من المعادن النادرة، حوالي 90% من «الصين» فقط، ويرجع اعتماد «الولايات المتحدة الأمريكية» على «الصين» إلى أسباب لا تتعلق بفقرها من تلك الموارد، بل بسبب تشديدات «الكونجرس» الأمريكي الصارمة، بالحد من تلك العمليات؛ لما لها من خطورة على البيئة، فضلًا عن خطورة تلك العملية بالنسبة للعمال، وتفوُّق البنية التحتية الصينية؛ حيث أنفقت الصين مبالغ ضخمة؛ لكي تصل إلى ذلك المستوى في السوق العالمي.
وفي هذا السياق، فقد بدأت «الولايات المتحدة» تُزَاحِم «الصين» على سوق المعادن النادرة، وتبدأ في أولى الخطوات؛ لكسر الهيمنة الصينية عليها، عقب توقيع عقْدٍ من الشراكة مع «أستراليا»، قيمته 120 مليون دولار، وقَّعتها وزارة الدفاع الأمريكية مع شركة أسترالية؛ لبناء منشأه فصلٍ للمعادن النادرة؛ من أجل الحصول على مصادر بديلة، ولإفلات «الولايات المتحدة الأمريكية» من قبضة «الصين»، وعلى صعيدٍ آخر، فيرى الداخل الأمريكي، أن من مصلحة العالم – ليس فقط أمريكا- ألَّا يكون تحت قبضة نظامٍ شيوعي سلطوي، مثل النظام الصيني، لا يهتم بآدمية العمال وحقوقهم، ولا بالآثار السلبية المصاحبة لعمليات التنقيب على المستوى البيئي.
وفي هذا الصدد، أكد «بايدن»، أنه بحلول عام 2026، ستستطيع «الولايات المتحدة الأمريكية»، أن تكتفي محليًّا من عنصر «الأنتيمون» النادر – المُكوِّن الرئيسي في إنتاج الذخيرة- وستتمكن أيضًا من عقْد عِدَّة اتفاقيات مع الكثير من الدول؛ لأن تلك المشكلة تهدد العالم أجمع، وخير شاهدٍ الحرب «الروسية – الأوكرانية»، وما يمر به العالم – اليوم- من أزمة غاز؛ نتيجة هيمنة روسيا على إنتاجه؛ لذا يجب عدم الاعتماد التَّام على «الصين» وحدها، وتنويع المنافسة، وهذا يُعتبر تفاؤلًا كبيرًا من الجانب الأمريكي.
أبرز التحديات التي تواجه تعاقد الشراكة «الأمريكية – الأسترالية»
هناك العديد من التحديات والعوائق أمام «الولايات المتحدة الأمريكية»؛ لكي تستطيع الإفلات من تحت قبضة الاعتماد على «الصين»، والحد من هيمنتها في سوق توريد سلاسل المعادن النادرة، وهي كالتالي:
1. على الرغم من الخطوة الجيدة التي اتخذتها «أمريكا» بالشراكة مع «أستراليا»؛ لإنشاء منجمٍ لاستخراج المعادن النادرة، بقيمة 120 مليون دولار، إلا أن تلك الخطوة ليست بالكفيلة؛ لكي تحدّ من الهيمنة الصينية على سوق توريد سلاسل المعادن النادرة، أو باكتفاء الجيش الأمريكي من عنصر «الأنتيموني»، بحلول عام 2026، كما قال «بايدن» ؛ فـ«الصين» سابقة لـ«أمريكا» بأشواط كبيرة في ذلك المجال، كما تتمتع مناجم «الصين» ببنية تحتية قوية، مُموَّلة ماليًّا بشكلٍ ضخمٍ لا يُقَارن بقيمة العقْد الأمريكي .
2. هناك عوائق تنظيمية ومؤسسية تعيق إنشاء مناجم لاستخراج مثل تلك المعادن، وهذا وفقًا لتصريحات «الكونجرس» المشددة؛ لأن مثل هذه العمليات يُهدِّد النظام البيئي والحيوي أيضًا، ويطالب المعنيِّين بالوضع الإستراتيجي الأمريكي.
3. التحدي الأكبر الذى سيواجه «الولايات المتحدة الأمريكية» بوضْع نفسها منافسًا لـ«الصين» في استخراج المعادن النادرة، وتوريدها يتعلق بسعر تلك الموارد، فهل «الولايات المتحدة الأمريكية» ستكون قادرة على إتاحة إنتاجها من المعادن النادرة في السوق، بسعرٍ يوازي المُنتَج الصيني؟ فالصين تعرض توريداتها من المعادن النادرة بأسعار مناسبة؛ ما يفسر الطلب العالمي عليها، وهيمنتها على سوق الموارد النادرة، وهذا لن يحدث بشكلٍ كبيرٍ؛ لأن عملية التنقيب في الصخور، واستخراج المعادن النادرة، ستكلف «الولايات المتحدة الأمريكية» الكثير من «الجهد، والمال، والعمالة»، وإذا قدَّمت منتجها بالسعر نفسه الذي ستقدمه الصين، فسوف تخسر كثيرًا، ولن تنجح العملية.
سيناريوهات المستقبل
تتعدد السيناريوهات والرؤى، بخصوص مستوى الهيمنة الصينية على أسواق سلاسل توريد المعادن النادرة، فهناك ثلاث سيناريوهات، وهم كالتالي:
السيناريو الأول: الهيمنة الصينية ستؤدي إلى تهديدات جيوسياسية ومخاطر بيئية تهدِّد تحوُّل الطاقة .
في هذا السيناريو، ستهيمن «الصين» على سوق توريد سلاسل المعادن النادرة، بعد أن فشلت «الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية» في بناء سلاسل توريد المعادن النادرة المحلية، وبهذا الشكل سيعتمد العالم على «الصين»؛ للحصول على المُدْخلات اللازمة من الطاقة؛ لإزالة «الكربون»، والتحوُّل نحو الطاقة المتجددة.
والجدير بالذكر، أن هذا السيناريو سيكون سلبيًّا بالنسبة لعملية تحوُّل الطاقة، ولن يكون الإمداد العالمي لتلك الموارد النادرة كافيًا لتحوُّل الطاقة، وسيؤدي إلى عرقلة القرارات والمقايضات؛ فمن الممكن، حدوث اضطرابات في سلسلة التوريد؛ بسبب التوترات الجيوسياسية بين «الصين، والولايات المتحدة الأمريكية»، أو المشكلات اللوجيستية بين «الصين، وتايوان».
ومن ناحيةٍ أُخرى، فمن المحتمل، أن تنْشُبَ اضطرابات في مسألة التوريد، بدون أسباب لوجيستية، وذلك بوجود أزمة، مثل «جائحة كورونا»، التي عطَّلت صادرات «الصين» من قبل، ومن ناحيةٍ أُخرى، ستكون هناك احتمالية لا يُسْتهان بها لارتفاع نسبة نُشُوب صراعٍ «اجتماعي، وسياسي» حول جهود إزالة «الكربون»، وأيضًا احتمالية كبيرة لزيادة مخاطر تقلُّب الأسعار.
السيناريو الثاني: تحوُّل سوق توريد سلاسل المعادن النادرة من الاحتكاري إلى المنافسة الاحتكارية
في إطار هذا السيناريو، فإن الجهود «الأمريكية – الأوروبية» في بناء سلاسل توريد المعادن النادرة، كانت ناجحةً إلى حدٍّ كبيرٍ، وفي هذا الوضع، مازالت «الصين» لاعبًا رئيسيًّا في السوق، ولكن هناك منافسة قوية لها، من قِبَلِ «الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا»، بعد أن قاموا بضخِّ استثماراتٍ كبيرةٍ في ذلك المجال، بدايةً من التعدين إلى التصنيع، وهذا السيناريو مناسبٌ جدًّا لعملية تحوُّل الطاقة؛ حيث يترتب على ذلك، انخفاض مخاطر تقلُّب الأسعار؛ وذلك بسبب وفرة المعادن والمنتجات المشتقة الأكثر تجدُّدًا، فضلًا عن انخفاض احتمالية حدوث اضطرابات في سلسلة التوريد؛ بسبب التوترات الجيوسياسية، أو المشكلات اللوجيستية.
وهذا أمرٌ ليس بسهلٍ على الإطلاق في ضوْء السياق العالمي الحالي، من «جائحة كورونا، والغزو الروسي – الأوكراني»، فمعظم الحكومات تواجه تحديات اقتصادية، لا تُعدُّ ولا تُحصى، والحكومة الأمريكية ليست في أحسن وضع لكتابة شيكاتٍ كبيرةٍ، فضلًا عن ذلك، سيواجه الداخل الأمريكي استقطابًا سياسيًّا، بشأن تلك المسألة، ولا سيما للمعنيِّين بشؤون البيئة والمناخ، وعلى الرغم من تلك التحديات، فهناك جانب إيجابي بخصوص تلك العملية، والذي يتمثل في جهود التخطيط التي تبْذُلها سياسة «بايدن» في تلك العملية، فضلًا عن استثمارات القطاع الخاص، المشجعة في تصنيع البطاريات.