روسيا بوتين.. حنين إلى الحقبة السوفيتية.
إعداد : أكرم السيد علي
منذ أن ظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على قمة القيادة في روسيا، في أواخر العام 1999، نجح في أن يقدم خطابًا سياسيًّا جديدًا؛ حيث امتاز هذا الخطاب بالتوازن والمراوغة إلى حدٍّ كبيرٍ، والقبول بالشراكة مع الغرب في إطار صياغةٍ مقبولةٍ.
فروسيا، من منظور هذا الخطاب، لا هي بالدولة التي تعمل على إعادة إحياء الخطاب الشيوعي من جديدٍ، ولا هي بالدولة التي تتغنَّى بالنموذج الرأسمالي وتعمل على تصديره لكل دول العالم، لا هي بالدولة التي تعادي الغرب معاداةً مطلقةً، ولا هي بالدولة التابعة لكل ما يتبنَّاه الغرب أو يصدر عنه، لكن خطاب الرئيس الروسي، يوم الجمعة 30 سبتمبر/أيلول 2022، في خِضَمِّ الإعلان عن انضمام 4 مقاطعات أوكرانية إلى روسيا، نسف النَّهْج المتوازن الذي حرص الرئيس الروسي على اتباعه طيلة العشرين عامًا الماضية، وكأن العالم اليوم يعيش حِقْبة حربٍ باردةٍ جديدةٍ لا تخلو منها العوامل الأيديولوجية والتاريخية، بل هي في قلب صراع اليوم جنْبًا إلى جنْبٍ مع الأبعاد المصلحية.
خطاب بوتين.. إمبراطورية روسية مأمولة
جاء خطاب الرئيس الروسي بمثابة إعلان مشروعٍ سياسيٍّ جديدٍ، تكون روسيا فيه هي عدو صريح للغرب من ناحية، وتعمل على إعادة المجد الروسي مجدَّدًا.
فالمتتبع لخطاب “بوتين” يدرك جيِّدًا أن الأزمة الأوكرانية لم تكن هي أساس الصراع القائم فقط، بل كانت وسيلةً ساعدت روسيا/بوتين في أن تعلن عن مشروعها التوسُّعي المناهض لكل ما هو غربي على كافة المستويات الفكرية والأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والإستراتيجية؛ إذ ظهرت رغبة واضحة من “بوتين” في إعادة توظيف الاختلافات الفكرية والأيديولوحية في خطابه، ونتيجةً لذلك فقد وصف الغرب، بأنه غرب استعماري مهيمن قائم على نهب ثروات الشعوب، ونخبته لا تزال تحكمها الأفكار الاستعمارية، بالإضافة إلى ازدواج معايير الغرب إزاء القضايا المتشابهة، ومحاولته الحثيثة لبثِّ أفكاره الشيطانية والمنافية للأديان، علاوةً على ذلك، فإن النظرة الفوقية التي يتعامل بها الغرب مع باقي دول العالم كتقسيمه للدول ما بين دول يتربَّع الغرب على عرشها ودول أُخرى تأتي في مراتب دنيا؛ لذا فإن الخيْط النَّاظم في كل هذه التصريحات هي معاداة واضحة صريحة للغرب أكبر من كوْن الخلاف يتعلق بالأوضاع في أوكرانيا.
وكذلك لم يخلُ خطاب “بوتين” من الاستهزاء بمواقف بعض الدول الأوروبية، واصفًا بعضها، بأنها مجرد دول منزوعة الإرادة، ولا تستطيع أن تخرج من عباءة الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث لا تلتفت الأخيرة إلَّا إلى كل ما يُحقِّق لها مصالحها، بغض النظر عن مصالح الشركاء الأوروبيين.
وعلى صعيدٍ آخر ، انتقد “بوتين” الحكام الرُّوس السابقين، الذين اتخذوا قرارًا بتفكيك الدولة السوفيتية، دون أن يكونوا على علم بالنتائج الكارثية لهذا القرار، مشيرًا إلى حقِّ سكان المناطق الأوكرانية المشتركة في تقرير مصيرهم باعتبار ذلك حقًّا يكْفُلُه القانون الدولي وحقوق الإنسان، وكأن الضم الروسي للمناطق الأوكرانية تلك هي مجرد محاولة لتصحيح أخطاء الحكام الرُّوس، ولمِّ شمْل دول الاتحاد السوفيتي من جديد.
وفي حديثه عن الاقتصاد ، توغَّل “بوتين” في نقْدِهِ للنظام الاقتصادي “الظالم” القائم على النهب واستغلال حاجات الشعوب، وعلى الرغم من صراحة هذا الخطاب، وخلوُّهِ تمامًا من المراوغة، إلَّا أن “بوتين” دعا فيه أوكرانيا للتفاوض دون أن تكون المناطق الشرقية محلًّا لتنازل روسيا عنها، وهو ما يُدخل مساعي انتهاء هذه الحرب في طريقٍ مسدودٍ، تصدّر فيه روسيا نفسها بوجهٍ جديدٍ تمامًا معادٍ لكل ما هو غربي، في المقابل، لا تتوقف الدو ل الغربية عن تكثيف دعمها لـ”كييف”، وهو ما قد يُطِيلُ من أَمَد هذه الحرب.
المناطق التي ضمتها روسيا.. لا مجال للصدفة
إن المتتبع للمناطق الأربع التي ضمتها روسيا إليها يُدْرِك جيدًا، أنه لا مجال للصدفة في تحديد هذه المناطق لتكون جزءًا من الأراضي الروسية في مشهد دراماتيكي تتحدى فيه روسيا الدول الغربية وحلفاءها في سيناريو تكرَّر من قبل في شبه جزيرة القرم؛ حيث أصبحت روسيا بذلك تسيطر على 19.4% من الأراضي الأوكرانية (من إقليم دونباس شمال شرق أوكرانيا إلى شبه جزيرة القرم جنوبًا)، وذلك على الرغم من التنديدات الدولية، ورفض الاعتراف بنتائج الاستفتاءات التي انضمت بموجبها هذه المناطق إلى روسيا.
وبتتبُّع كل منطقة على حدة، فسنجد أن منطقتيْ لوغانسك ودونتيسك الواقعتيْن في إقليم دونباس، هما منطقتان صناعيتان ذات أهمية كبرى، بالإضافة إلى انتشار اللغة الروسية بين معظم سكانها؛ حيث كان ذلك مبررًا استندت عليه روسيا في شنِّها الحرب، مُدَّعِيةً بأنها حرب ضرورية لإنقاذ الناطقين بالروسية من الإبادة.
ومن الأهمية بمكان أن نُشير إلىى أهمية هاتيْن المنطقتيْن لما بهما من ثروات ضخمة؛ حيث يضُمَّان أكبر مناجم للحديد والصلب والفحم الحجري، كما تتركز فيها 70% من ثروات أوكرانيا، وكذلك تعتبران بمثابة حلقة اتصال أوكرانية بالشرق الأوسط؛ حيث تمر بها الصادرات الأوكرانية؛ نتيجةً لوقوع أهم الموانئ الأوكرانية بهما.
أما زاباروجيا، فهي تلك المنطقة التي تقع فيها المحطة النووية الأضخم في أوكرانيا، وكانت موضعًا لإثارة الجدل والاتهامات المتبادلة بين الجانبين الروسي والأوكراني، بشأن قصْف الأراضي المحيطة بها.
وبالنظر إلى خيرسون، فإنها منطقة ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لموسكو؛ كوْنها تقع على حدود شبه جزيرة القرم، وكونها منطقة ذات أهمية زراعية كبرى، في وقتٍ يعاني منه العالم من أزمة غذاء، كما تجْدُرُ الإشارة إلى أنه بالسيطرة على زاباروجيا يكتمل الشريط الواصل بين جميع المناطق التي ضمتها روسيا، وكذلك يضمن لروسيا السيطرة على السواحل، وتحويل بحر آزوف إلى بحر روسي.
وبشكلٍ عامٍ، فإن ضم المناطق الأربع هي بمثابة تمدُّدٍ روسيٍّ ليس فقط جغرافيًّا، بل هو تمددٌّ تاريخيٌّ؛ كوْن هذه المناطق كانت تابعةً لروسيا في حِقْبَتِها السوفيتية، وهو ما تُركِّز عليه الإدارة الروسية حاليًّا؛ حيث تُوظِّف النغمة التاريخية في مسار الحرب الدائرة اليوم، ولا شكَّ أنه بسيطرة روسيا على هذه المناطق فإنها تضمن لنفسها عدم استخدام أوروبا وأمريكا هذه المناطق في تهديد الأراضي الروسية.
سيناريوهات استخدام روسيا للسلاح النووي
في الأثناء التي تتوارد فيها تلميحات على لسان المسؤولين الرُّوس، حول إمكانية استخدام السلاح النووي إذا تطلَّب الأمر ، في هذا السياق المضطرب، تذهب بعض التقديرات إلى وجود أربعة سيناريوهات تتعلق بمدى استخدام روسيا للسلاح النووي ضد أوكرانيا، أو ضد دول حلف الناتو على السواء:-
- أول هذه السيناريوهات يتحدث عن “هجوم استعراضي” محتمل بالأسلحة النووية، وهو محتمل بشكل كبير، كقيام الجانب الروسي باستخدام الأسلحة النووية في مناطق غير مكتظة بالسكان، أو ربما فارغة تمامًا، وهذا الهجوم – وفقًا لخبراء – لن ينْتُجَ عنه أيُّ خسائر بشرية، لكنه بطبيعة الحال سيؤدي إلى إحداث حالة هَلَعٍ عالميةٍ؛ حيث لم يتم استخدم السلاح النووي في أيِّ صراعٍ منذ ٧٧ عامًا، وعلى الرغم من أن هذا الهجوم الاستعراضي لن يؤدي إلى حسْم الحرب الدائرة، أو إحداث خسائر كبرى كما ذكرنا، إلَّا أن الهدف من جرَّاء ذلك هو توصيل رسالة إلى دول الغرب، بأن موسكو جادَّة في تلويحها باستخدام كل ما من شأنه أن يحقِّق لها انتصارًا عسكريًّا، وكذلك حثّ الغرب إلى إيقاف دعمه الكبير لأوكرانيا، في وقتٍ أحرزت فيه أوكرانيا تقدُّمًا ميدانيًّا ملحوظًا؛ بفضل الدعم العسكري الغربي المُقدَّم لها.
- وثاني هذه السيناريوهات يذهب إلى إمكانية استخدام أسلحة نووية “محدودة القوة أو ما تعرف بالأسلحة النووية التكتيكية“، كاستهداف مواقع عسكرية أوكرانية، وهذا السيناريو على الرغم من محدوديته، إلَّا أنه سينْجُمُ عنه خسائر بشرية، تُقدَّرُ بالآلاف، وخسائر مادية كبيرة، ورغم ذلك يظل هذا السيناريو هو سيناريو محدود القوة من المنظور النووي، ووفقًا لخبراء، في حال القيام بهذا الهجوم النووي المحدود، فإنه سوف يتم سماع انفجارٍ هائلٍ يعادل انفجار ١٠ آلاف طن من المواد المتفجرة، وتجْدُرُ الإشارة إلى أنه بوسْع روسيا في هذه الحالة استخدام رؤوس نووية تصل أوزانها إلى ١٠ كيلو طن، وهو ما يقارب القنبلة النووية التي دمَّرت هيروشيما؛ حيث بلغ وزنها ١٥ كيلو طن، وهو ما يوضح حجم هذا الهجوم المُحتمل على الرغم من محدوديته النووية.
- أما ثالث هذه السيناريوهات فيتعلق باستخدام “القوة النووية الهائلة”، وهو سيناريو مُسْتَبْعَدٌ بشكلٍ كبيرٍ؛ كونه لا يستخدم إلا لتهديد كيان الدولة؛ ويعني هذا السيناريو إلقاء روسيا قنبلة نووية تعادل قنبلة هيروشيما من ثلاثة إلى ستة أضعاف، وهو ما سينْجُمُ عنه إشعاع نووي كبير، وخسائر بشرية تُقدَّر بعشرات الآلاف، وهذا الهجوم بقدر ما يصنف “نوويًّا” بالهائل، فإنه سيترتب عليه من الناحية السياسية والعسكرية ردود فعل هائلة، ولا نعني بذلك استخدام الغرب للأسلحة النووية في الرد على هذا الهجوم، بل ربما تنزلق أوروبا وواشنطن في حربٍ مباشرةٍ مع روسيا، تعمل على تفاديها في الوقت الحالي؛ لتجنُّب الدخول في حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ.
- وفيما يتعلق بالسيناريو الأخير الذي يطرح إمكانية حدوث “هجوم نووي روسي على دول الناتو”، فعلى الرغم من محدودية حدوثه نتيجةً للعواقب الكبرى التي ستنْجُمُ عنه، إلَّا أنه يبقى مطروحًا عن طريق استهداف روسيا مواقع للناتو، وهو ما يُدخل روسيا والغرب في صدامات أبعْدَ بكثير من تلك الواقعة على الأراضي الأوكرانية.
هل تنضم اوكرانيا لحلف الناتو
في أعقاب ضم روسيا المناطق الأوكرانية الأربع، جاء إعلان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، تقديم بلاده طلبًا للانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما قُوبل بردود فعل فاترة من قِبَلِ الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، فباستثناء دول البلطيق، التي أيَّدت هذا الضم، جاء تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، بأن “عملية الانضمام للحلف يجب أن تتم في وقتٍ مختلفٍ”، وهذا ما يعكس حَذَرَ واشنطن من الموافقة على هذا الطلب، ففي الوقت التي تُكثِّف فيه واشنطن من مساعدتها لأوكرانيا على مختلف الأصعدة، يأتي موقفها من مسألة انضمام أوكرانيا للحلف على النقيض تمامًا، ولعل السبب الأقرب هو وعْيُ الإدارة الأمريكية جيِّدًا بمرحلة ما بعد انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، والالتزامات التي ستقع على عاتقها من جرَّاء هذا الانضمام، كضرورة مشاركة العسكريين الأمريكيين في حماية أيِّ دولة عضو في الحلف عند تعرُّضها لهجوم ، لا سيما أوكرانيا في حال انضمامها للحلف.
وبالنظر إلى الموقف الأوروبي، فإنه لا يكاد يختلف كثيًرا عن الموقف الأمريكي، ففي سياقٍ متصلٍ، قالت وزيرة الدفاع الألمانية: إن “برلين لا تستطيع أن تقرر بمفردها ذلك”؛ ما يعكس عدم توافُر إرادةٍ أوروبيةٍ وأمريكيةٍ، من شأنها أن تجعل أوكرانيا واحدةً من دول حلف الناتو، وتجعل لِزَامًا على الأعضاء الآخرين في الحلف، الانخراط المباشر في الحرب، وهو ما تعمل أوروبا وأمريكا على تلافيه.
ختامًا
فإن المرحلة المرحلة المقبلة، وكما ظهر بوضوح في خطاب “بوتين”، سترتكز على تحدٍّ روسيٍّ للغرب، والانخراط مع القوة العالمية، الراغبة في كسْر الهيمنة الغربية على حدِّ وصف الجانب الروسي، وهو ما يُطِيلُ أَمَدَ الأزمة الأوكرانية؛ ما يفتح خطوط صراعٍ بين موسكو والغرب، يتعدَّى حدود أوكرانيا، وسط نزعات قومية روسية، يتبنَّاها النظام الروسي، وتكثيف المساعدات الغربية لأوكرانيا.