اليمين المتطرف في أوروبا : صعود وتداعيات

اليمين المتطرف في أوروبا : صعود وتداعيات

إعداد: أكرم السيد علي 

اليمين المتطرف في أوروبا : صعود وتداعيات

شهدت العديد من العواصم الأوروبية في السنوات القليلة السابقة وحتى هذا الوقت تناميا ملحوظا لقوى اليمين المتطرف ، تمثل ذلك في الفوز بمقاعد تشريعية ومناصب تنفيذية مكنت هذه القوى من التحكم في صناعة القرار الوطني لبلدانهم ، وهو ما انعكس بالضرورة على إحلال أولويات وطنية محل أولويات أخرى ، كبروز قضايا الهجرة واللجوء والتطرف والإرهاب كقضايا ذات أولوية على حساب عدد من القضايا الأخرى ، علاوة على إعلاء الحس القومي في مواجهة التيارات النيوليبرالية الاندماجية التي تؤيد العمل تحت مظلة الاتحاد الأوروبي وسياساته. والجدير بالذكر ، فإن استغلال القوى اليمينية للحالة المزاجية للعديد من مواطني الدول الأوروبية الرافضة للعديد من السياسات ، كسياسات الهجرة المتبعة وما نتج عنها من الشعور بالتهديد جراء تفشي هذه الظاهرة ، فإن ذلك قد نجح بشكل كبير في وصول قوى اليمين لسدة الحكم كون هذه القوى مثلت استجابة لما يدور في أذهان العديد من المواطنين أكثر من كون امتلاك هذه القوى لرؤية شاملة من شأنها التعامل مع كافة التحديات.

مظاهر صعود اليمين المتطرف

في المجر

فاز حزب “فيدس” اليميني بزعامة “فيكتور أوربان” في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ٣ أبريل ٢٠٢٢ بأغلبية الثلثين وهو ما جعل زعيم الحزب “أوربان” يصل إلى رئاسة البلاد ، وهو ينذر بإجراءات أكثر تشددا من المتوقع أن تشهدها البلاد في الفترة القادمة ، حيث تعتبر المجر من أكثر البلاد تشددا تجاه قضايا اللجوء والهجرة غير الشرعية ، فضلا عن كونها البلد الأوروبي الوحيد الذي لم ينخرط في حزمة العقوبات المتواصلة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي بين الحين والآخر على روسيا نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية.

وفي فرنسا

فقد أظهرت الانتخابات الرئاسية الماضية في أبريل من العام الجاري عن تمتع قوى اليمين المتطرف على الأرض بتأييد شعبي آخذ في التزايد ، حيث استطاع الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” من الفوز بولايته الرئاسية الثانية بعد حصوله في الجولة الثانية من الانتخابات على ٥٨.٥% من أصوات الناخبين مقابل حصول “مارين لوبان” المحسوبة على قوى اليمين المتطرف على ٤١% من الأصوات ، إلا أن هذه الانتخابات قد كشفت أيضا عن حالة التصدع والانقسام التي يشهدها المجتمع الفرنسي ، فطبقا لبعض الإحصاءات فقد صوت ٧٤% من ذوي المؤهلات العليا ورجال الأعمال لصالح ماكرون ، في المقابل فقد حصلت لوبان على أصوات عدد كبير ممن ينتمون للطبقة العاملة ، حيث بلغت نسبة من صوتوا لها ٥٨%. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، فقد شهدت الانتخابات التشريعية للعام الجاري قفزة كبيرة في المقاعد التي حصل عليها حزب لوبان ، حيث حصل الحزب على ٨٠ مقعدا في الوقت الذي حصل فيه نفس الحزب على ٨ مقاعد فقط في الانتخابات التشريعية لعام ٢٠١٧ ، وهو ما يعكس بوضوح حالة النجاح المتصاعدة التي تحظى بها أحزاب اليمين في الوقت الحالي.

أما إيطاليا

فهي البلد الأوروبي التي شهدت آخر انتصار وصعود لقوى اليمين المتطرف ، حيث فاز حزب “إخوة إيطاليا” الذي تتزعمه “جيورجيا ميلوني” بنسبة ٢٦% من أصوات الناخبين في الانتخابات التي عقدت في سبتمبر الماضي ، وهو ما يعني تمكن هذا الحزب الذي ينتمي إلى الفاشية الجديدة من حكم البلاد في حدث فريد من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية.

ونتيجة للإشارات السابقة

والتي تعكس صعودا واضحا لقوى اليمين المتطرف في عواصم أوروبية مختلفة ، فإن ثمة حالة من عدم الرضا الداخلي نتيجة لمشاكل اقتصادية يعاني منها المواطنوان مهدت البيئة السياسية لصعود اليمين ، وهو ما تواكب مع عوامل خارجية كالهجمات الإرهابية ، والهجرة غير الشرعية ، وانتشار النزاعات الانفصالية الهادفة للخروج من الاتحاد الأوروبي ، كل ذلك ساهم في الحضور القوى والمتصاعد لليمين المتطرف.

ما الذي أدى لصعود اليمين المتطرف ؟

كان للصراع في أوكرانيا دورا بارزا في تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية العالمية التي لم يكد يخرج العالم منها جراء أزمة كورونا حتى اشتعل الصراع في أوكرانيا وهو ما ضاعف من حدة الأزمة ليس فقط في القارة الأوروبية بل في مختلف دول العالم.

وبالتركيز على القارة الأوروبية فقد تسبب الصراع في أوكرانيا في تصاعد أزمة الطاقة وما نتج عنها من تداعيات كارتفاع نسب التضخم وهو يعاني المواطن الأوروبي من آثاره. ليس هذا فحسب ، بل إن هناك حالة سخط لدى البعض من مواطني الدول الأوروبية ناتج عن إعطاء حكوماتهم الصراع في أوكرانيا الأولوية على القضايا الداخلية ذات الأهمية والصلة بأوضاعهم المعيشية المباشرة ، حيث يظهر ذلك في الكثير من العقوبات ضد روسيا والتي لم تكف الدول الأوروبية عن المضي قدما في توقيعها منذ اندلاع الحرب في فبراير الماضي وحتى الآن ، فضلا عن المساعدات العكسرية والمالية الضخمة المقدمة للجانب الأوكراني ، كل ذلك بدوره يهيأ المجال لتنامي قوى اليمين المتطرف التي تجعل من القضايا الداخلية المحرك الأساسي لنشاطها واستقطاب المؤيدين.

وتجدر الإشارة إلى أن جائحة فيروس كورونا وما أعقبها من تداعيات وصولا للحرب الروسية الأوكرانية ، لم يكونا فقط هما العاملان المساعدان الوحيدان في صعود التيارات اليمينية المتطرفة ، حيث يمتد جذور هذا الصعود إلى عشرات السنوات الماضية ، ويساهم في هذا الصعود -على المستوى الاقتصادي-  العديد من الأسباب وفقا لدراسات ، ولعل أبرزها الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨ ، حيث دفعت هذه الأزمة إلى تخلي الدول الأوروبية عن سياسات دول الرفاه واتباع سياسات تقشفية من شأنها خفض عجز الموازنة وهو ما قوبل بموجة مضادة من التيارات اليمينية حيث اعتبرت هذا بمثابة فشل للسياسات النيوليبرالية ، ومن ثم قامت بتوجيه الاهتمام بالصناعة الوطنية وتقديم الدعم للمواطنين دون إعطاء أهمية لمدى تأثير ذلك على الموازنة العامة من عدمه.

وفي ذات السياق ، فإن أزمة اللجوء والهجرة غير الشرعية التي عانت منها القارة الأوروبية طيلة العقد الماضي كانت من أبرز العوامل التي تسببت في نشاط ملحوظ للنزعات اليمينية على المستويين الشعبي والنخبوي المناهضة للمهاجرين ، ويرجع ذلك لكثرة أعداد المهاجرين التي استقبلتهم القارة الأوروبية والتي كانت أوروبا الخيار الأول لهم ، وكذلك لما يمثله هؤلاء المهاجرون من عبء اقتصادي كبير على دول القارة ، بالإضافة إلى ما صاحب عملية الهجرة من ظواهر لصيقة أضفت على عملية اللجوء والهجرة بعدا ثقافية بجانب الأبعاد الاقتصادية المذكورة ، كانتشار ظاهرة الإرهاب داخل القارة الأوروبية ، والتي تتم بواسطة جماعات محسوبة على التيارات الإسلامية وهو ما ساهم في تصاعد ظاهرة “الإسلاموفوبيا” والنظر إلى المهاجرين كونهم يمثلون تهديدا ثقافيا لقيم الدول الأوروبية المستقبلة لهم.

إلى مدى ستأثر منطقة الشرق الأوسط بصعود قوى اليمين ؟

إن محاولة الوقوف على النهج الذي ستتعامل به حكومات الدول التي شهدت صعودا لقوى اليمين المتطرف في سدة الحكم ينبع من خلال فهم ماهية التيارات اليمينية وما الذي تركز عليه من القضايا ، فاليمين بطبيعة تكوينه تيار يعطي لقضايا الشأن الداخلي الأولوية ، ويرفع الشعارات القومية ، وهو ما يجعل الدولة التي يحكمها اليمين تنزلق تدريجيا نحو الحالة الانعزالية في مجابهة القوى التي تدعو إلى الانخراط في التفاعلات والتنظيمات الدولية ، ونتيجة لذلك فإن ما يرسم ملامح السياسة الخارجية للدولة هو الداخل في المقام الأول ، بصيغة أخرى هو أن ما تعاني منه الدولة داخليا يتصدر أجندة أولوياتها خارجيا ، فالدولة التي تعاني من تدفق عدد كبير من المهاجرين غير الشرعيين على أراضيها نتيجة للأوضاع غير المستقرة في عدد من الدول سوف تعمل جديا على محاولة إيجاد تسويات لحالات عدم الاستقرار التي تشهدها الدول التي تجلب إليها الهجرة غير الشرعية.

لذا ونتيجة لما تم ذكره

فإنه من المتوقع أن يساهم هذا الصعود اليميني في بعض الدول الأوروبية في التخفيف من حالة عدم الاستقرار التي تشهدها دول منطقة الشرق الأوسط ، لأنه في هذه الحالة فإن مصالح الدول الأوروبية تتلاقي مع ضرورة تسوية النزاعات الدائرة في الشرق الأوسط نتيجة لتداعيات هذه النزاعات على الداخل الأوروبي من تفشي ظاهرتي اللجوء الهجرة غير الشرعية وغيرهما من الملفات ذات الصلة. لذا يمكن القول أن التعاون بين الحكومات الأوروبية وحكومات الشرق الأوسط في قضايا مكافحة الإرهاب والجريمة وإيجاد حلول لمشكلة الهجرة هو ما سيميز طبيعة العلاقة بين كلا الطرفين ، وبصحيح العبارة فإن إعلاء الطابع الأمني كمحدد للعلاقات بين حكومات قوى اليمين المتطرف ودول الشرق الأوسط سوف يتصدر المشهد السياسي ، في المقابل سوف يتراجع الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والتي كثيرا ما يتم استخدامها من قبل الحكومات الديمقراطية كورقة تفاوضية مع دول المنطقة.

ختاما

فإن صعود قوى اليمين المتطرف في عدد من البلدان الأوروبية على الرغم مما ينجم عن ذلك من استشراء للنزعات العنصرية المناهضة للغير والتي تصل إلى أقصاها في كثير من الأحيان ، لكن على صعيد منطقة الشرق الأوسط فإنه يمكن استثمار فرصة تلاقي الأولويات المتمثلة في تركيز الحكومات اليمينية على بعض القضايا الأمنية التي تشهدها المنطقة من حروب وإرهاب ولجوء وهجرة من جهة ، وإعطاء حكومات دول المنطقة الأولوية لمثل هذه القضايا من جهة أخرى ، ومن ثم العمل سويا على إيجاد صيغة مشتركة تهدف إلى تسوية النزاعات ووضع حد لحالة اللا استقرار التي يشهدها عدد كبير من دول المنطقة.

كلمات مفتاحية