تعليق روسيا لاتفاق تصدير الحبوب

تعليق روسيا لاتفاق تصدير الحبوب

إعداد : مصطفي مقلد

مقدمة:

لا تسير الحرب الروسية الأوكرانية فى مسار واحد فقط هو المسار العسكرى، بل إنها حرب معقدة فالحرب وتداعياتها تسيران فى أكثر من مجال، وأخطر تلك المجالات هى أزمة الغذاء التى زادت الحرب من حدتها وأصبح الغذاء أداة حرب يستخدمها طرفى الحرب والصراع، حيث في غضون عامين فقط، تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، من 135 مليونًا قبل انتشار الوباء إلى 276 مليونًا اليوم، ويعيش أكثر من نصف مليون شخص في ظروف مجاعة بزيادة أكثر من 500% منذ عام 2016 وذلك وفق ما أفاد به الأمين العام للأمم المتحدة.

ويثور الحديث مجددا بعد هدوء عن أزمة الغذاء العالمية مع تعليق روسيا اتفاقها المبرم مع أوكرانيا الخاص بتصدير الحبوب.

دوافع تعليق الاتفاق:

أبلغت روسيا رسميا الأمم المتحدة تعليق مشاركتها في اتفاق الحبوب مع أوكرانيا، على إثر استهداف أسطولها في البحر الأسود، وطلبت اجتماعا طارئا لمجلس الأمن الدولى لمناقشة الأمر. وتؤكد روسيا أن الدول الفقيرة لا تستفيد سوى بـ 3% من القمح المنقول نتيجة الاتفاق المبرم حيث يتم توجيه النسبة الأكبر من القمح الى الدول الاوروبية بهدف توفير الغذاء وامتصاص معدلات التضخم الناتجة عن ارتفاع أسعار الحبوب.

لكن لروسيا هدف أبعد من مجرد الحيلولة من استفادة اوروبا من شحنات القمح المنقولة عبر البحر الاسود، حيث قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية إن بلادها تعتزم لفت انتباه المجتمع الدولي إلى تورط بريطانيا في سلسلة من الهجمات “الإرهابية” بواسطة مسيرات استهدفت الأسطول الروسى فى سيفاستوبول، كما اتهمت روسيا لندن بأنها الفاعل وراء الانفجارات التي تسببت في تسرّبات من خطي أنابيب الغاز نورد ستريم 1 و2 في بحر البلطيق، اللذين بنيا لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وهو ما نفته بريطانيا. وازداد الغضب الروسى نتيجة تجاهل الولايات المتحدة وعدم تعليقها على حادثة سيفاستوبول.

وهو اتهام تريد من ورائه روسيا اعتبار بريطانيا مساهم “بشكل مباشر” في الحرب، ما يزيد من التوترات وبالتالى يرفع من حدة وشراسة الهجمات الروسية فى الحرب، وإعطاء الشرعية لأى إجراء عسكرى روسى خاصة بعد تداول صور لبوتين بين جنوده وهم يتدربون أثناء مناورات الردع النووى.

ويبدو أن القرار الروسى لم يكن وليد اللحظة وأن روسيا سعت لتهيئة الظروف لاتخاذه، حيث اشتكت روسيا من أن هناك عراقيل تقف في وجه صادراتها، وفي منتصف أكتوبر 2022، لوّحت روسيا برفض تمديد الاتفاق، وقدَّمت لائحة مخاوف للأمم المتحدة بشأن اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، مهددة باستعدادها لرفض تجديد الاتفاق، ما لم تتم تلبية مطالبها.

وعلى المستوى اللوجيستى لم يجر الأتفاق كما كان مأمول، وكانت الأمم المتحدة قد حذرت من أن هناك تراكمات للسفن بسبب عمليات التفتيش، شمل أكثر من 150 سفينة، كما اتهمت أوكرانيا روسيا بتعمد تأخير أكثر من 165 سفينة لشحن الحبوب عن طريق تمديد عمليات التدقيق في مركز التنسيق المشترك في إسطنبول.

وبحسب ما أفادت وكالة “سبوتنيك” الروسية، قال وزير الزراعة الروسى: أن موسكو مستعدة لتزويد أفقر البلدان بما يصل إلى 500 ألف طن من الحبوب الروسية مجاناً في الأشهر الأربعة المقبلة، وأن روسيا مستعدة لاستبدال الحبوب الأوكرانية بالكامل، وتزويد جميع الدول المهتمة بأسعار معقولة. وهو ما يمكن اعتباره مبدأ له طبيعة سياسية يخدم مصالح روسيا قوامه “القمح مقابل الدعم السياسى”.

ردود الفعل على قرار روسيا:

حاول وزير خارجية الولايات المتحدة دحض الرواية الروسية وقال أن ثلثى شحنات الحبوب الأوكرانية ذهبت إلى دول في أمسّ الحاجة إليها، ودعت الأمم المتحدة إلى الإمتناع عن أي إجراءات قد تهدد اتفاق الحبوب الذى له تأثير إيجابي واضح على حصول الملايين في العالم على الغذاء.

حاول الرئيس الأوكرانى إستغلال الموقف، ودعا إلى رد دولى قوى، واستبعاد روسيا من مجموعة الـ20 طالما تسعى عمدا للتسبب بمجاعة واسعة”، فيما حذر الاتحاد الأوروبي جميع الأطراف من “اتخاذ إجراءات أحادية من شأنها تعريض مبادرة شحن الحبوب عبر البحر الأسود للخطر”، وعلى نفس المسار قال وزير الخارجية الأميركي إن روسيا ستواجه “غضبا شديدا” إذا تراجعت عن اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية.

أما تركيا التى رعت الاتفاق – بجانب أمين عام الأمم المتحدة- وشاركت فى تنفيذه، عبرت عن أن روسيا لم تبلغها “رسميا” بانسحابها من اتفاق تصدير الحبوب، وتنظر تركيا للقرار من زاوية تخص نجاحها الدبلوماسى تجاه الحرب، فهى ستعمل على محاولة حث روسيا للعودة الاتفاق فى محاولة لمنع تحول النجاح التركى لفشل فى إطار التوصل لاتفاق لتصدير الحبوب، فالقرار الروسي سيجعل “مصداقية الوسيط التركي على المحك”.

تأثير القرار على المنطقة العربية:

انسحاب روسيا من اتفاق الحبوب قد يؤثر على كميات القمح الصادرة عن أوكرانيا، وبالتالي يؤثر ذلك على الكميات المتاحة بالأسواق العالمية، ومن ثم يتسبب هذا الأمر في ارتفاع الأسعار مجددًا وخاصة القمح، كما أن ارتفاعات أسعار الغذاء على مستوى العالم يساهم في ارتفاع التضخم كذلك، وارتفاع معدلات التضخم وتراجع سعر صرف عملات العديد من الأسواق الناشئة خلال الأشهر الماضية ومن بينها مصر، يتسبب في التأثير على الدول المستوردة للحبوب بالحد من قدرتها على استيراد الكميات الكافية من القمح وبالتالى تفاقم أزمة الجوع.

وتأتى تلك التأثيرات رغم المحاولات لتغيير وتنويع مصادر الحصول على القمح، تلك السياسة التى لاقت تحديات لوجستية، أثقلت كاهل المالية العامة للدول العربية.

كما أن استيراد شحنات القمح أو الذرة يكون عبر شركات موردة لصالح هيئة السلع التموينية أو القطاع الخاص فى تلك الدول، وتلك الشركات الموردة تخضع لضغوط وطلبات حكومية غربية للخروج من روسيا، وهو ما قد يعمق من آثار أزمة الغذاء العالمية.

ويمكن اعتبار القرار الروسى بتعليق الاتفاق هو موجة ثانية من أزمة الغذاء تضرب المنطقة العربية، لكن بطبيعة الأمر ستكون هذه الموجة أقل حدة باعتبار أن تدابير الحكومات ابتعدت عن الاعتماد على روسيا وأوكرانيا كمصدر للحبوب وتوجهت لمصادر جديدة مثل الهند وكندا والأرجنتين، لكن طول أمد تلك الموجة الثانية يجعل التحدى صعب، ما قد يحيد بتلك الدول التى – حاولت النأى بنفسها من الانحياز لمعسكر معين وحافظت على حيادها تجاه الحرب الأوكرانية- إلى الإنحياز أحد المعسكرين للحصول على دعم مادى وعينى لتخطى أزمة الغذاء.

 ختاما، يمكن القول أن الحرب الأوكرانية حملت معها تأثيرات سلبية شعر بها الجميع، وخاصة الدول الفقيرة التى تركت تواجه أزمة غذاء عميقة، ولم يتم اتخاذ هذا الاعتبار فى الحسبان لدى الأطراف المتحاربة، وفى إطار تصاعد منسوب التوتر، تشعر روسيا بأنها الأقوى فى المواجهة مع الغرب بشأن مجال الغذاء، فشركات توريد الحبوب الغربية التى تعمل فى روسيا أقنعت حكوماتها أن وجودها هناك ضرورى للعالم وأن أعمالها تقتصر على الأعمال الأساسية فقط، وهو ما تراه روسيا نقطة قوة تستغلها لتحقيق وضع أفضل لها بشكل عام فى إطار سعيها لتنصيب نفسها كقطب فى النظام العالمى بما تمتلكه من موارد ضخمة.

كلمات مفتاحية