هل يحمل الاتفاق الأخير في السودان عصا موسى ؟

 بقلم الدكتور أيمن سلامة :

يلزم لسبر أغوار واقع العلاقة المحتقنة بين المكونين المدني والعسكري في السودان، التطرق للمعادلة الصعبة التي تُهيمن على معظم الدول العربية، وهي الطبيعة الدستورية و القانونية للعلاقة بين المؤسسة العسكرية من ناحية والمؤسسات والأجهزة المدنية من ناحية أخري،والسودان ليس غائباً عن هذه المعادلة الصعبة التي لا يفك طلاسمها الدساتير والمواثيق والاتفاقيات المختلفة، ولكن الثقافة المجتمعية و التأهيل المدني و العسكري لقادة المؤسسات المختلفة سواء كانت مدنية أم عسكرية، فضلاً عن الثقافة المجتمعية السائدة .

لا مِرية أن المؤسسة العسكرية تتميز بمجموعة من الخصائص التي تجعلها مختلفة عن غيرها من المؤسسات الاخرى ولعل أبرز هذه الخصائص هي ما تختلف به عن الغير من المؤسسات من حيث المهام، والتدرج الهرمي، والمساهمة الجماعية في تحمل الأعباء والواجبات والسلطة، وكذلك المعتقدات لدى أفراد الجماعة العسكرية وأهدافهم المشتركة .

فمن حيث المهام فإن النُظم العسكرية هي التي تشكل الجماعات والوحدات والتشكيلات القتالية المتخصصة وتعمل على إشرافها وتدريبها وتسليحها في تنفيذ مهامها في الدفاع الخارجي والداخلي عن الوطن، كما يُعتبر التدرج الهرمي من سمات المؤسسة العسكرية إذ هو ذو شكل هرمي تحتل قمته المراكز العسكرية العليا وتحتل سفوحه المراكز الوسطية وقاعدته تكون في المراكز العاملة التي تشتمل على مراكز الجنود و ضباط الصف وبقية الدرجات .

يقترب مفهوم البيروقراطية من طبيعة المؤسسة العسكرية من حيث إن الأخيرة يجب أن تكون دوماً على أهبة الاستعداد في كل الأوقات وفي مختلف الظروف، وهو على عكس التنظيمات المدنية التي تبني توقعاتها على خبراتها اليومية وعلى ما تتوقعه من احتمالات وهو ما لا يدخل ضمن ما يُوصف بغير العادي وغير المُتوقع .

 إن العلاقات المدنية العسكرية تأتي مُتغيرة بحسب طبيعة النظام الذي يحكم البلاد في أي علاقة شائكة تعكس الطريق التي يتم من خلالها إدارة الدولة في مختلف مؤسساتها، والمسألة التي تشترك فيها معظم الدساتير هي التطرق الى القوات المسلحة، والأهم في ذلك هو منصب القائد العام لهذه القوات، وتختلف دساتير العالم في التطرق إلى الصلاحيات والمهام التي تُوكل إلى القوات المسلحة و الجهة المسؤولة منها و التي تقوم بقيادتها، ففي ألمانيا الاتحادية، على سبيل المثال، تكون قيادة القوات المسلحة من اختصاصات وزير الدفاع الاتحادي، كما ينص الدستور و في مادة مستقلة على كيفية إنشاء القوات المسلحة وتوظيفها .

أما في فرنسا ورئيس الجمهورية هو الرئيس الأعلى للقوات المسلحة كما يكون رئيساً لكل اللجان و المجالس ذات الشؤون الدفاعية الوطنية العليا، وتتولى الحكومة تنفيذ السياسة العامة وتخضع لها الخدمة المدنية و القوات المسلحة، أما رئيس الوزراء فهو المسؤول عن توجيه أداء الحكومة بما فيها مسألة الدفاع الوطني، أما البرلمان فيُصدر النظم الأساسية المتعلقة بالدفاع الوطني .

وفي روسيا الاتحادية، ورئيس الاتحاد هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويكون من ضمن اختصاصات الحكومة اتخاذ ما يلزم من التدابير الضرورية للدفاع عن البلاد وتحقيق أمنها .

وفي البرازيل، نجد الدستور قد أفرد فصلاً خاصاً عن القوات المسلحة حيث أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويعتبرها الدستور مؤسسة وطنية دائمة و نظامية والتي تخضع جميعها للسلطة العليا لرئيس الجمهورية والتي يُراد بها الدفاع عن البلاد، وأما الأمن فقد خُصص له ايضاً فصلاً مستقلاً ليُبيّن إنها من مهام الدولة وواجباتها .

تتمتع المؤسسة العسكرية بمكانة عُليا لما لها من تأثير مباشر في الحياة السياسية لاسيما في الدول التي يجد فيها العسكريون أنفسهم في موضع الحماية والدفاع عن القيم والمبادئ الاجتماعية والتي يبنى عليها المجتمع، وطالما أن الدولة هي من يضطلع بمهمة تنظيم الامن والاستقرار وضمان توفيره للمواطنين، فهي من يختص بتنظيم قواتها العسكرية التي ستتولى هذه المهمة الصعبة، علما بأن هذا الموضوع ليس من موضوعات العصر الحديث فقط، بل على العكس هو مثار الاهتمام والنقاش منذ القدم .

إن وجود القوات المسلحة يعد شرطاً جوهرياً لتحقيق السيادة الوطنية والحفاظ عليها، وبوصفها من الضمانات الاساسية لاستقلال الوطن، فهي – المؤسسة العسكرية – تحتضن هذا الوطن وكل ما له من القيم والمبادئ الإنسانية والاجتماعية وتعد المُؤتمن الوفي عليه، وإن ما يصون السيادة الوطنية للدولة السيدة هي المؤسسة العسكرية كونها تمثل إحدي الجماعات العامة الأشد ترابطاً بفضل شبكة القوانين والنظم التي تحدد عملها الخارجي والداخلي .

إن الحكومات ذات النظام الديمقراطي يجب أن تُقدرخبرة المحترفين العسكريين ومشورتهم في التوصل الى قرارات سياسية حول الامن والدفاع، لكن بالمقابل يتعين على القيادة المدنية المنتخبة وحدها اتخاذ القرارات السياسية النهائية والتي ستقوم القوات المسلحة بدورها بتنفيذها، وهذا لا يعني اختفاء المؤسسة العسكرية وإبعادها عن الوصول الى القرارات المهمة، فقد تشارك الشخصيات العسكرية بطبيعة الحال مشاركة كاملة ومتساوية في الحياة السياسية والاجتماعية لبلدهم مثلهم مثل أى مواطن آخر تمامًا ولكن بصفاتهم الشخصية، وإذا ما سعى العسكريون إلى الحصول على مناصب في السلطة السياسية في المجتمع الديمقراطي فإنه ينبغي عليهم أولاً أن  يتقاعدوا من الخدمة العسكرية أو أن ينحصر دورهم على تقديم المشورة فقط، كما وينبغي على القوات المسلحة أن تبقى بعيدة ومنفصلة عن العمل السياسي لأنها هي الخادم المحايد الدولة وهي حامية المجتمع، وبناء عليه ؛ فإن سيطرة المؤسسة المدنية على الجيش تضمن أن قضايا الدفاع والأمن لا تُعرّض المبادئ الاساسية للديمقراطية للخطر، مثل مبادئ حكم الأغلبية ،وضمان حقوق الأقليات، وحرية التعبير، وحرية المعتقد الديني، وغيرها من الحقوق الأساسية و الحريات العامة .

إن السيطرة المدنية على الأجهزة العسكرية إنما يقصد بها تقييد القوات المسلحة والسيطرة عليها بالوسائل الدستورية والقانونية التي تُحد من صلاحيات المؤسسة العسكرية منعًا لتدخلها في مهام السلطات المدنية مما يحفظ التوازن المناسب وبالقدر المطلوب في العلاقة المدنية والعسكرية بما يحفظ السلام والاستقرار في البلاد .

إن مبدأ السيطرة المدنية يُعتبر من المبادئ التي تفرز آثاراً مهمة سواء في تطبيقها أم في عدم التطبيق، وهي ذات أثر عالمي لا ينحصر ضمن حدود منطقة معينة، وهو يتأثر ويؤثر بالمحيط الخارجي على حدٍ سواء، وإن طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبلد ما قد لا تنحصر بطبيعة الحال على الدولة نفسها وإنما تتاثر بها في كثير من الأحيان ما يحيط بها من دول، وتطبيقها بالشكل المطلوب سوف تنعكس آثاره الإيجابية على الصعيدين الإقليمي والدولي .

في المأزق السوداني، لا تزال الأكمة في موضعها، حيث لم تتخذ بعد أية آليات ناجزة من أجل إصلاح مسار العلاقات المدنية العسكرية في السودان وفق الأسس الدستورية التي حددها الإعلان الدستوري التي عُطلت أهم مواده اللصيقة بتحديد الاختصاصات والصلاحيات للمكون المدني تحديداً .

بالنسبة للمكون المدني في المجلس الإنتقالي فطالما نظرت العناصر الراديكالية في ذلك المكون بنظرة ريبة وتوجس للقوات المسلحة في السودان بشكل عام بحسب إنها تهدد إرهاصات التحرير والسيادة و الديمقراطية منذ خلع نظام البشير في عام 2019، كما تزعم هذه العناصر أن ليس ثمة ما يشير إلى أن الجيش خطط ،على الإطلاق، لتسليم السلطة فعليًا إلى القادة المدنيين، مما أدى إلى تأجيج التوترات مع اقتراب الموعد النهائي للتخلي عن السيطرة على مجلس السيادة الانتقالي للمدنيين.

أيضاً لا يمكن في ذات الوقت تبرئة القيادات المدنية في المجلس الانتقالي فضلا عن الحكومة السودانية من التقصير بسبب المشاكل المتواترة، ويأتي في الصدارة من هذه المشاكل : الوضع الإقتصادي و الإجتماعي اللذان لم يتحسنا بسرعة، ولم يشفع للمكون المدني أن ثلاثين عامًا من ديكتاتورية عمر البشير تركت خزائن الدولة فارغة، والاقتصاد في حالة انهيار، وانتشار الفساد وصار نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن الولايات المتحدة والبنك الدولي قطعا المساعدات الخارجية الضرورية لبقاء وتحسين الظروف الأساسية للحياة في البلاد، أيضاً انجرف العديد من شخصيات المجتمع المدني البارزة في صراعات على السلطة لا طائل من ورائها وأتت بنتائج عكسية .

تقف عقبات كبيرة في طريق التحول الديمقراطي، والأهم في ذلك هو الانقسام داخل المعسكر المؤيد للديمقراطية ووجود مجموعات مدنية مهمة تدعم الجيش، و الانقسامات الطائفية العميقة في جميع أنحاء البلاد تعيق كل مسار عمل، وليس فقط لحكومة مدنية، والأخطر في ذات المقام أن الحروب الأهلية المتتالية والصراعات الداخلية في عديد الأقاليم في السودان خلفت أكثر من مليوني قتيل ،ولكن تظل الدوجمائية التي تهيمن على سلوك وتوجه نفٌر من المكونين عقبة كردود ينبغي التخلص منها .

ختاماً

من المُؤمل أن يُنهي الإتفاق السياسي الأخير الذي أبرم أمس الأحد في الخرطوم، حالة الاحتقان والتوتر بين المكونين المدني و العسكري في السودان، ولن يتحقق بذلك بالأمنيات الطيبة ولكن بالعمل على إنفاذ الاستحقاقات المختلفة للتحول الديمقراطي التي خُبِرت بها الكثير من الدول في إفريقيا، و أسيا، و أوربا الشرقية، وأمريكا اللاتينية .

كلمات مفتاحية